د. فيصل بن سعود الحليبي .
يمر الزوجان في حياتهما الزوجية بلحظات بُعد ، ربما تكون قصيرة الأمد ، وربما تكون طويلة ، ولا يعنينا أن نفرق بين الحالين بقدر ما تعنينا تلك اللحظات وما تتركه من أثر وما تَعِدُ به من أمل .. ولعل أكثر حالةِ بُعدٍ يواجهها الزوجان هي فترة انصراف كل منهما إلى عمله أو انصراف أحدهما عن الآخر .. نعم الأمر لا يعني في مثل هذه الحالة المتكررة يوميًا سوى ساعات من عدم اللقاء .. لكنني أجد هذه اللحظة مغبون فيها كثير من الأزواج والزوجات .. فإن الناظر إلى حال جملة منا يجد نفسه فيها منشغلاً بالاستعداد إلى ذهابه إلى عمله .. يرقب ساعته .. ويثير الهمة في أولاده حتى لا يكونوا سببًا في
تأخيره .. وفكره يستعرض بقلق شديد تلك الطرقات الملتوية ، والشوارع المزدحمة التي سوف يلفها بسيارته ، وعيناه تُقمع بذلك الضوء الأحمر الذي يتسبب دائمًا في تأخيره .. وصورة رئيسه مطبوعة في مخيلته وكأنه يعاتبه على توانيه .... ولا أظنك إلا مثلي تقطع بأن الزوجة في مثل هذه الحالة هي ( الكل في الكل ) كما يقولون .. فكلٌ يهتف بها لتلبي له حاجته من الزوج إلى الرضيع .. وهي مع هذا كله
لن تسلم من عتابٍ يقسو أحيانًا ويرق أحيانًا أخرى لسببٍ أو لآخر .. وما هي إلا دقائق إلا والجميع ـ بسلامة الله تعالى ـ مستقر في مكانه الذي هيأه الله له .. هنا تبقى الذكرى .. ويأتي الأمل .. فأي ذكرى ستبقى في قلب الزوجين .. وأي أمل سيرتقب .. ؟!! إن لحظة التوديع المتكررة هذه ينبغي أن نلتفت إليها لفتة الرعاية والحب والألفة ، فما أجمل أن نستعد لهذه اللحظة بنوم مبكر هانئ ليلاً ، ونبدؤها بصحو مشرق سعيد ، تمتزج فيها أغاريد البلابل بأذكار الصباح ، وتفتر فيه الشفاه بابتسامات صادقة حنونة ، وتسكن الطمأنينة في النفوس ، ويتبادل الزوجان كلمات التفاؤل بالخير والنور ، ويطبع كلٌ منهما قبلة هادئة على وجنة صاحبه ، ويودعه بوصايا الإخلاص والتقوى ، فلقد كان بعض نساء السلف تودِّع زوجها بقولها : اتق الله ، ولا تطعمنا إلا من حلال ، فإننا نصبر على الجوع في الدنيا،ولا نصبر على النار في الآخرة .. بمثل هذا التوديع الآسر والمشاعر الريانة لن يكون صباح ذلك اليوم كأي صباح .. إنه يجدد في النفس النشاط ، ويحملها على استقبال يومها كأفضل ما يكون الاستقبال : من الحيوية في البدن ، والإشراق في الحياة ، والصفاء في القلب ، والعطاء الجاد في العمل . إن لحظة التوديع هذه فاصل بهيج، من يجيد فن التعامل معه ؛ سيطوي به كل كدر سابق ، ليرسم بدله لوحة تذكارية جميلة بقلم التوديع السحري ، تعدُ بعده بمشاهد حبٍ مرتقبة ،يلتقي فيها الزوجان على أجمل مما افترقا عليه توهجًا وتشوقًا.. ليكونا كالشمس تترك في النفوس _ قبل أن تغيب _ ذكرى جميلة .. و تَعِدُ بإشراق جميل ..