د. ميساء عبدالله قرعان .
لم أتوقع يوما أن أسمع هذه العبارة في السياق الذي سمعتها فيه،لكن من يعمل في مشكلات النساء عليه أن يكون محصنا ضد أي صدمات وعليه في الوقت ذاته أن يعمل على كبت انفعالاته وردود أفعاله إلى درجة اضطهاد الذات وانتزاعها من حقها في إبداء حالة الرفض. تلك السيدة التي أتحفتني بعبارة" اللي منه احسن منه " تعاني من حالة انفصال زوجي منذ ما يقرب السنة لوجود مشكلات تصعب معها استمرار الحياة الزوجية لكنها لم تصل بعد إلى الطلاق الفعلي، لديها عدد لا بأس به من الأطفال وتقيم معهم في منزل أهلها غير المقتدرين على سد احتياجاتها أو احتياجات الأطفال ولذا تلجأ لأهل الخير . مشكلتها الحقيقية من منظورها الخاص ليست في كل ما سبق ذكره،وهنا تكمن مشكلتي في التعامل مع حالتها، مشكلتها بحسب ما يهيأ لها أو بحسب ما يمليه عليها وعيها هي أنها كانت قد أصيبت بعقم ثانوي قبيل انفصالها، هذا العقم لم يمكنها من إنجاب عدد أكبر من الأبناء، منعها من التمتع بمشاهدة عشرة أبناء مشردين على سبيل المثال يمسكون بأطراف ثوبها وهي تبحث عن معيل بديل، فخمس أو أربع أو ست أبناء غير كافيين لإكمال متممات اللوحة، فلكي تكون أماً وزوجة معنفة بجدارة يجب أن يتبعها جيش من المعنفين الذين لا ذنب لهم سوى أنه لم يكن لديهم فرصة في انتقاء أماكن وظروف ولادتهم. كنت أحسب أن تواصلي معها على مدار شهور قد غير شيئا من قناعاتها، وكنت أحسب أن غيابها أو انفصالها عن الزوج لن يطول ما دامت قد طلبت في أكثر من زيارة المساعدة في علاجها للتخلص من حالة العقم للتمكن من الإنجاب، وحينما كنت أسألها في كل مرة عن سر رغبتها في الإنجاب كانت إجاباتها تصدمني أكثر،هي ترغب في إنجاب ذكر آخر لأنها بحسب تعبيرها ليس لديها إلا ولد وحيد على عدد من البنات، هي ترغب في الولد ليساند شقيقه، وهي في قرارة نفسها أدمنت عشق الجنس المعنِف وفي الوقت ذاته تمارس العنف على ذاتها من خلال تعنيف البنات في إنكارها وجودهن. أصرت ذات مرة على أن أتولى مساعدتها في العلاج وكان من الصعب إقناعها أن لا فرصة لهذا النوع من المساعدة وخاصة لمن هي في مثل ظروفها، حينما استفزني إصرارها سألتها: ممّن ستنجبين وأنت منفصلة؟ قالت: "الزعل ما بيدوم إلا ما يرجعني " هي تستعد في طريقها للعودة حتى وإن دامت لأيام محدودة إلى ارتكاب جريمة بحق مولود جديد، حينها لم أعلق وأشغلت نفسي بما يحميها ويحميني من أي ردة فعل تسيء إليها أو تسيء إلى أخلاقيات المهنة. كنت أعتقد أيضا أن غيابها الذي تلا ذاك اللقاء أو تلك الجلسة كان بسبب عودتها للزوج أو لأن موضوع الحمل والإنجاب لم يعد يؤرقها، لكنني فوجئت بزيارتها من جديد، هي لم تعد للزوج واعترفت بأنها حاولت فرض نفسها عليه لكنه رفض، سألتها وهل ما زلت ترغبين في العلاج للإنجاب: وأجابت :نعم: أعدت السؤال للمرة الألف علّها تغير قناعاتي ما دمت قد فشلت في تغيير قناعاتها، وليتها لم تجب، قالت: "لو رجعتله اللي منه أحسن منه " ! لم أعلق وفي قرارة نفسي قلت يا إلهي! أين الخلل وهو ليس خللا أحاديا بالتأكيد؟ أين دور المنظمات التي تعنى بتثقيف النساء والمطالبة بحقوقهن من حماية هؤلاء من أنفسهن وجهلهن أولا؟ العنف في مجتمعاتنا منتج أنثوي بامتياز لكن الرجل أداة ممارسته ليس إلا، أما توحد الخطاب النسوي وعدم مراعاته في كثير من الأحيان لخصوصية الثقافة المجتمعية التي تحملها المرأة فهو من الأسباب التي أعاقت التغيير الحقيقي في ثقافة النساء ووعيهن. أين دورنا جميعا في حمايتهن من ظاهرة الرخص الأنثوي الذي يمارس داخل البيوت بصور أبشع مما نشاهده عبر الشاشات الفضائية ؟ هؤلاء يعرين إنسانيتهن ويصنعن من أنفسهن دمى ليست فقط قابلة للتعنيف وإنما مدمنة على تعاطيه،أما الأطفال ضحايا الرخص وضحايا العنف الذي لا يمكن تجزئته الرحمة....للأطفال الذين ولدوا وأولئك المتوقع تصنيفهم كضحايا عنف شفقة لن تقيهم مما هو بانتظارهم..