حارتي

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : souha al soufi | المصدر : www.arabicpoems.com

لم فتحت لي الباب يا لاذقيتي وأنا أهم بالخروج؟
لم لم تخفي حقيبة الغربة وجواز السفر؟
لم لم تشعلي في ذاكرتي حريقاً وأنا أبرم لك ظهري؟
لم لم ترغميني على البقاء رغماً عن أنف الغربة وشوارع الضياع في أزقتها؟
لم لم تشدي وثاقي   وأنا أجر حقيبة الرحيل؟
ألهذا الحد هنت عليك يا مدينتي الجميلة؟
أتخيلك الآن تنتظريني في حارتي القديمة في حي القلعة..تفتحين نافذة من نوافذ بيوت الحارة المتبقية على ذمة الذكرى تترقبين عودتي،تسترقين السمع لخطواتي العجولة المشتاقة..توشوشين أطياف أبناء الجيران: أين تلك   الفتاة الصغيرة ألن تأتي اليوم للعب معكم..
لا تنتظرونني بعد اليوم أبناء حارتي،لقد حزمت أمتعة الغربة واعتليت غيوم الترحال ومضيت..لا تنتظرونني اليوم،فلن آتي،العبوا بمفردكم،تلك الفتاة الصغيرة التي كانت تقفز من سور حديقة جدها وجيه لن تعد اليوم،تركته يسقي زهور حديقته   ولحقت ظل الغياب.
حارتي الجميلة كم أحبك..
كم كنت أتبع أثار اقدام الغيّاب في حجرك المنحوت في وجداننا..رأيتهم جميعاً معلقون على شجر حدائقك المهجورة.. أرواح ترتدي أثواب الجنة وتتأملني وأنا أعبء من هواءك أكسجين حياة..رأيتهم جميعاً يا حارتي الجميلة..مصطفون على زهر الغاردينيا يناشدونني العودة وإشعال قنديل الحارة القديمة...
رأيتهم يصعدون سلم بيتنا القديم على رؤؤس أصابع الشوق يتفقدون أطفال الحارة بعد أن طوت السنون فصول الحياة في وجوههم..يفتحون غرف النوم فلا يجدون غير ملابس نومنا القديمة مرمية على حافات الأسرة الخشبية..
أرواح أهل الحارة مستمرة في الطوفان حول أسرة ابنائها..تلملم شعرة سقطت من روؤسنا بالصدفة..خاتم وقع من اصابعنا ونحن نلعب معاً لعبة بيت الجيران..شريطة بيضاء كانت أختي فاطمة تعقد بها شعرها..رواية لألكسندر دوما كان ابن الجيران يقرأها قبل النوم وهو يتخيل مدينة أحلامه التي أصبحت اليوم واقعه المغلق..أشياء وأشياء تلتقطها ارواح أهل الحارة وهي تبكي أبنائها المتناثرون في أصقاع العالم الباردة..أراها تلملم بقايانا وتضعها في صندوق مغلق وتنزل الدرج من جديد لتعود إلى مقبرة القلعة قبل أن يغلق حارسها الباب وينام..
الأرواح تخرج من الحارة كما خرجت اليوم بنفس الهدوء ونفس الحزن ونفس العجز عن العودة حية إلى بيت الشيخ عارف الصوفي.. الحارة كلها تموت اليوم على إيقاع أنفاس الرحيل،تستنشق أنفاسها الأخيرة..تقرأ الشهادة وتغمض عيناها وتلحق أرواح اهلها وهم يبكون غربتنا وسفننا التي رست في مرافء بعيدة وأوطان غريبة وأوجاع دفعنا ثمنها يوم اشترينا بطاقة سفر وغيرنا وجهة   الآتي. إلى ما بعد حدود الحارة وحدود أنفسنا..