د. فيصل بن سعود الحليبي .
كم هي الوردة جميلة في منظرها ، ساحرة في لونها ، أخّاذة في عطرها ، تشدك إليها في صمت ، وتأخذ بلباب عقلك في حياء ، حتى تغدو أمام غيرك شاردًا ، وادعًا ، وما هي إلا لحظات وتجد نفسك هادئ النفس ، واسع الصدر ، تتمنى حينها أن تبقى هذه الوردة ، لتدوم هذه النظرة ، لتستمر هذه السعادة . ولكن .. أنّى لهذه الوردة الفاتنة كل هذا العطاء .. إن لم تسق بالماء !! وهي مع هذا آيلة إلى الذبول والفناء . غير أني أدعوك أن تقترب من وردة تعطيك عطاء أبلغ من عطاء هذه الوردة التي انشرح صدرك لها ، وأنِسْت بالنظر إليها ، وهي مع هذا لا تعرف الفناء ، بل تتسم بالخلود والبقاء !! وكما احتاجت تلك الوردة إلى الماء لتبقى .. ثم لتفنى ، فإن هذه الوردة تحتاج إلى أمر آخر لتبقى ولا تفنى .
لعلك أدركت المقصود .. فإن مثل هذه الوردة كمَثَلِ الحياة الزوجية السعيدة ، المملوءة بالمودة والصفاء ، الممزوجة بالمحبة والوفاء ، ألا يتمنى الزوجان فيها أن تبقى حياتهما كذلك ، لا في الدنيا فحسب ، .. بل في الآخرة أيضًا ؟ قل : نعم .. إذاً ... فإنها تحتاج إلى أن تسقى بالإيمان ، وترعى بالخشية من الرحمن ، وتصفو بمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وتتآلف على القرآن ، وتتعاهد على نبذ المعاصي ، وتتعاون على البر والتقوى ، وتنذر نفسها للدعوة إلى الله .. في نفسها ، وبين الذرية والأهل والإخوان ، وتتراحم بقيام الليل ، وتتزكى بصيام النهار ، وتسمو بالجود والكرم ، وتجتمع قلوبها على النصح بالحكمة والموعظة الحسنة ، وتتحد صفوفها أمام إغراءات المنكر ، وتسارع في الخيرات ، وتقنع برزقها ، وتصبر في شدائدها ، وتهفو نفوسها إلى إعداد جيل صادق مع ربه ، باذل لدينه ، عامل لوطنه . كم تشدني تلك الصورة الزوجية الحانية التي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيها : ( رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى ، ثُمَّ أَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ ، وَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ ، ثُمَّ أَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَصَلَّى ، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ ) ( رواه النسائي ) . ألا ما أسعدها من ساعة إيمان ، وما أرقه من نضح وفيّ ، وما أعذبه من ماء مخلص . ألا تستحق حياة هذين الزوجين الصالحين أن تبقى ولا تفنى ، ولم لا تبقى ، والله تعالى يقول : ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ . سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) . وهو القائل سبحانه : ( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ) . ألا تشتاق نفسك أيها الزوج المؤمن بربه ، الحاني على زوجته ، أن تكون أنت وزوجتك من أصحاب الجنة هؤلاء ، فكهين بالمتع ، متكئين على الأرائك ، ألا تحب أن تكون أنت وزوجتك وأولادك ممن يسبغ الله عليهم رضاه ، ويكشف لهم وجهه ، في يوم لا يرضي فيه الله إلا المتقين الأبرار ، ألا هنيئًا لكما أيها الزوجين المؤمنين حياتكما الصالحة السعيدة ، وألف الله بينكما في خير في الدنيا ، وفي الجنة في الآخرة .
واعجب كل العجب ممن يبدأ حياته الزوجية بالمعاصي والفجور ، ليمسك بيد زوجته ليرحل بها إلى بلاد الكفر ، لتشاهد بعينيها البريئتين كيف تغتال الفضيلة ، وتنحر الكرامة ، ويسمعها من صخب الغناء مما ينبت النفاق في القلب ، حتى تألف مشاهد العهر ، وتأنس بالمعصية ، والعلة في هذا كله مسايرة المنحرفين ، وحتى يسلم من تعيير الألسنة المريضة . فإذا تمت العودة من ذلك السفر الموبوء ، وقد بذل فيه من الأموال ما لا يستطيع البوح به ، والإسفار عنه ، اشتاقت النفس لرؤية الباطل الذي استمرأته في سفرها ، ولا سبيل إلى تلبية هذه الرغبة إلا بوضع جهاز الدش المحرم ، فاقرأ بعد هذا السلام على هذه الأسرة ، وكبر عليها أربعًا لانتهائها ، ضيق ونكد ، وجفوة وبغض ، وتشتت ونفرة ، أصبحت حبال الود فيها مهترأة ، لأنها قامت على المعصية ، ونشأت على البعد عن الله ، ما اجتمعت على ذكر ، وما تواصت على طاعة ، وما تعاهدت على بر ، وما تواثقت على خير ، وما ائتلفت على إخلاص وحب ومودة . فما أرخص حياتنا إن كانت وسيلة إلى شقوة الآخرة ، وما أغلاها إذا كانت وسيلة إلى سعادتها . فإلى كل زوجين سعدا بالإيمان في زواجهما في شهورهم الأولى : إننا لا نريد أن تكون شهور العسل كما نسميها ذكرى جميلة في واقع مرير ، أو روتينًا لابد أن نمر به لنصل به إلى مستقبل سمته النفرة والتعاسة ، كلا بل ينبغي أن تكون أيام الزواج الأولى عبرة نعتبر بها ، وأملاً نطلبه دائمًا . ولذا فإن الذي يجب علمه وتطبيقه هو أن لا يرعى الأزواج أسماعهم لأولئك الناعقين في أبواق الفشل والخذلان حينما يوسوسون لهم بأن ما يشعر به الزوجان من سعادة سرعان ما تتهاوى مع زحمة الحياة ومشاغلها ، تقادم الزمن وكثرة الأعباء ، وتعدد المسؤولية . فإن هذا الكلام وراءه ما وراءه من حب الإفساد ، وتشويه صورة الزواج ، وترهيب الشباب من الدخول في خيمته الظليلة . وإلا فإن الله حينما شرع الزواج قال : ( وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ) ، جعل بينهما ميثاقًا غليظا فقال : ( وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ) . وشرط بينهم شرطًا على أساسه تقوم حياتهم ، فالمسلمون على شروطهم فقال : ( فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) . وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليرسم للأزواج بسنته الفعلية والقولية امتدادًا واضحًا لحياتهم الزوجية ، ليجعلها أكثر أنسًا وسعادة ، فمن توخاها ، وسار على نهجها ، سعد وربح ، ومن تنكب عنها ، خاب وخسر .
فعلى الزوج أن يعلم ما يجب عليه من حقوق تجاه زوجته ، ليعطيها حقها من غير نقص ، وعلى الزوجة أن تعرف حقوق زوجها ، لتراعها له من دون نقص ، لتؤتي الحياة ثمارها ، ويبارك الله فيها في الدنيا والآخرة . وما ذاك إلا خشية أن تصاب تلك الصلة بالفتور ، أو تدب فيها الرتابة المملة ، والسآمة القاتلة ، فيتناسى الزوجان معاني الحب والألفة بالمعنى الذي كانا يطربان له في أول زواجهما ، وليس معنى هذا أنهما قد تخليا عن هذه المعاني بالكلية ، بل هي موجودة بلا ريب ، ولكنها تحتاج إلى تنشيط وتجديد . وأتصور أن الأقدر من الزوجين على بعث روح المحبة في حياتهما من جديد هو الزوج ؛ لأن المرأة كالمرآة تعكس على الرجل ما تجده منه من تلك المحبة أو ضدها ، فإذا ما أحست الزوجة من زوجها تلك العودة الحميدة للحياة السعيدة ، مدت جسور وصلها له ، ورعت نبتة الحب بكل شوق وحنان .
وعليه ، فإن الزوج الذي يحب أن تقابله زوجته بابتسامة جميلة ، فليبدأها بها ، والرجل الذي يرغب في سماع الشكر على المعروف ، فليعودها الثناء على ما تبذله من حسن المعاشرة وطيب السكن ، والزوج الذي يفتقر إلى حنان في وقت التعب أو المرض ، فعليه أن يبادلها ذلك في حال تعبها ونصبها ، وقل مثل ذلك في كل أمر يؤلف بين القلوب ، ويجمع الشتات ، من التزين في الملبس ، والنظافة في البدن ، وعذوبة الكلام ، وغض الطرف عن الزلل ، وحسن الاستقبال ، وجمال التوديع ، والبهجة عند الفرح ، والمواساة عند المصيبة ، والإيثار عند الخصاصة ، والهدية بين الحين والآخر ، وإسقاط الكلفة ، وإبقاء الاحترام ، والاتزان عند بدء الخلاف ،والتودد في آخره ، وحصره في نقطة واحدة دون تشقيقها ، ومحاولة العلاج دون البحث عن الأخطاء أو التذكير بها ، وجعل كل منهما محل شكوى الآخر ، فالشكوى بينهما ملح الحياة ، إن تعدت إلى غيرهما صارت حنظلها وغصتها ، والمعاشرة رحمة ، والمداعبة مودة ، والستر جميل ، والعفو أجمل ، والتعاون على البر والتقوى سرّ الهناء والسعادة لزوجين صالحين .
ولتتذكر المرأة أن الله جعل للرجل القوامة عليها بالحق والمعروف فقال : ( الرجال قوامون على النساء ) ، وليتذكر الرجل بأن للمرأة من الإحسان وحسن المعاشرة وطيب ما يريده هو من المرأة ؛ لأن الله يقول : ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) .