د. ليلى بيومي .
تتعرض المرأة المسلمة في حياتها لعقبات قد تُهدِّد حياتَها ووجودَها ذاتَه، ولكنها أثبتت على مرِّ تاريخ أمتِنا أنها كانت على قدر المسؤوليّة دائماً، سواءٌ في دورها العام في المجتمع المسلم، أو في دورها الخاصّ كزوجة وأمّ.
فقد تُواجه الزوجةُ والأمّ مواقفَ شديدةً تجعلُها عائلَ الأسرة، كأن يموتَ الزوجُ أو الأخُ أو الأب، أو يغيبَ لأيِّ ظرْف، وهنا تتحمَّل المرأةُ الأمانةَ والمسؤوليّة.
وتؤكِّد الأرقامُ أن هناك نحوَ 20% من الأُسر العربية تعولُها امرأةٌ إعالةً كاملة، وهذه المرأة إمّا مطلقة، أو أرملة، أو زوجة لزوج عاجز عجزًا كاملاً عن العمل؛ نتيجةً لمرض أو إعاقة. ويمكن تصنيفُها إلى شريحتيْن: أولاهما : القادرةُ على العمل.
والثانية: غيرُ القادرةِ على العمل؛ لأسبابٍ قد تتعلق بالسِّنِّ أو الإعاقة.
وهذه النسبة ترتفع إلى 33% في الأحياء الشعبية الأكثرَ فقرًا، مما يُحمِّل ربّة الأسرة عبئاً فوق عبء: يُحمِّلُها إلى رعايتها لأبنائها وبناتها وتربيتِهم، البحثَ عن لقمة العيش لها ولهم، وأحياناً للزوج المريض، وتوفير متطلبات الحياة التي تزداد كلّ يومٍ صعوبةًً على صعوبة.
وتنتشر هذه الظاهرة في الكثير من دول العالم وهي في ازدياد؛ إذ تتراوح نسبة هؤلاء النساء في أوروبا وأمريكا بين 20-25%، وفي جنوب آسيا والدولِ الإفريقية تصل إلى 30%، وفي لبنان إلى 12%، وفي اليمن والسودان إلى 22%، وفي مصر إلى 20%، وحسب إحصائيّات الأمم المتحدة فإنّ نسبة هؤلاء النساء في العالم كلِّه 9،42% من أُسَر العالم. ظاهرة في العالم الثالث . وفي بحث للدكتورة "هبة نصار" أكّدت أن مسؤولية النساء عن أُسرهنّ ظاهرةٌ منتشرةٌ في العالم الثالث بشكل ملحوظ، وتصل نسبتُهنّ إلى واحدة من كل ثلاث نساء، وأنّهنّ يتركزْن في المناطق الشعبية الفقيرة، وغالباً ما يزداد عدد هذه النوعية من النساء إثْر التحوُّلات
الاقتصادية التي تطرأ على البلاد الفقيرة؛ إذ يصاحبُها –عادةً- نوعٌ من التفكّك الاجتماعي، وانتشارُ الطلاق الذي يدمّر العلاقات الأُسَريّة، ويؤدي إلى انخفاض دخْل الأسرة إلى النصف.
ومن ناحية أخرى: أكدت دراسة حديثة للأمم المتحدة أن كلَّ النساء مُعِيلاتٌ، وهو ما يتناقض مع العُرف السائد في معظم المجتمعات، من أن الإعالة حكْرٌ على الذكور، حتى لو كان هذا الذكر لم يتجاوز (15) عاماً من عُمُره. واستندت دراسة الأمم المتحدة في هذا الأمر على تتبُّعِها لدورة حياة العديد من الأُسَر في الدول النّامية بشكل خاصّ، فكانت هذه الحقيقة، وهي أنّ كلَّ النساء يمْرُرْن بمرحلة في حياتهن تكون الواحدة خلالَها العائلَ الوحيد لأُسرتها بسبب الطلاق، أو الهجر، أو عدم عدل الزوج بين الزوجات، أو دخولِه السِّجن أو إهماله في الإنفاق على أولاده.
كما أن مشكلة هذا النوع من النساء لا ترتبط بتوفير سُبُل الحياة الكريمة لهنّ ولأولادهنّ فقط، ولكنّها تُفرز مشاكلَ عديدة أوّلُها اعتلالُ صحة المرأة؛ ففي أحدث دراسة لوَزارة الصحّة المصريّة ثبت أن 20% من النساء المُعِيلات يُعانِين من أمراضٍ مختلفة، كما أن 38% من الأُسر التي على هذه الشّاكلة، يضطرّ أطفالُها إلى الانخراط في مجال العمل؛ لمساعدة الأمهات. ظروف تُضاعِف من حجم المعاناة . إنّ غياب المُعِيل المفاجئ يُحدث أزمةً اقتصاديةً واضحة، تضطرُّ المرأةَ للعمل، في سنٍّ قد لا يصلح للعمل أصلاً، كما أنها في الغالب قد لا تملك المؤهلاتِ الكافيةَ للعمل، من حيث اكتساب المهارات أو الشهادات العلمية المناسبة، أو تعلُّم حرفةٍ معينة، وبهذا يزداد الضّغط النفسيّ المعزّز بالشعور بالنقص مع الضغط الاقتصاديّ.
ويأتي العُرف الاجتماعي مضاعِفاً لهذه الضغوط؛ فقد يرفض الأقارب عمل المرأة، على أساس أن هذا العمل يمثّل انتقاصاً لهؤلاء ولسمعة العائلة والعشيرة، الأمر الذي يجعل المرأة بين خيارين: إما الرضوخِ التامّ لهذه الأعراف، ومعناه، الحرمان من الموارد الحياتيّة الأصليّة، أو التمردِ، الذي معناه، زيادةُ الضغوط النفسيّة.
وأحياناً يقف العُرف مهاجماً لعمل المرأة، خاصّةً وأن هناك محدوديةً للأعمال التي تمْتهنُها المرأة. ومما يضاعف المشكلة أكثر فأكثر أن هذه الأعراف تستهْجِن ذهاب المرأة إلى المؤسسات الحكومية أو الأهلية، التي تُقدِّم العون لهؤلاء النساء، عبر القروض المادية أو التأهيل للعمل. مثالٌ واقعيٌّ حيّ : "منى صالح" نموذجٌ فريدٌ - وكم هي النماذج الفريدة - يستحقُّ أن نتوقفَ أمامه طويلاً؛ لنتعرفَ على قدرةٍ غيرِ عاديةٍ للمرأة المسلمة التي يُقدَّر عليها واقعٌ مؤلمٌ أو شديد الصعوبة، سواء كان اجتماعياً أو سياسياً أو غيرَ ذلك.
فقد اعتُقل زوجُ هذه السيدة عامَ 1981م إثْر التوترات السياسية التي حدثت في مصرَ في ذلك الوقت؛ إذ كان هذا الزوج ناشطاً إسلامياً، وحدث الاعتقال بعد الزواج بشهر واحد.
كان الزوج متخرِّجاً لتوِّه من الجامعة ولم يعمل بعد، وهكذا وجدت منى نفسَها بلا زوجٍ ولا عائلٍ ولا مستقبل، خاصّة بعد أن حصل زوجُها على حكم كبير.
وحيل بين منى وزوجِها لفترة طويلة، إلاّ أنه كان يُسمح لها بين الحين والحين أن تزورَه، وربما اختلى الزوج السجين بزوجته لدقائقَ كلَّ بضعة أشهر؛ ليقدِّر الله بينهما ذريةً، على الرغم من تلك الظروف، والله غالبٌ على أمره.
وتبدأ رحلة كفاحٍ وصبرٍ طويلة، مدتُها ستةٌ وعشرون عاماً. فعندما التقيْت بها أولَ مرة، في منتصف الثمانينيات- وكنت قد التقيت بالمئات من أُسر المعتقلين؛ لكي أكتبَ عن أحوالها - كانت منى مختلفةً عن الكثيرات، فقد قابلتني بالرضا والتّرْحاب، كأننا قد تعارفنا منذ سنوات، فهي ممن يَألفون ويُؤلفون. صغارُها الذين أنجبتهم من زوجها - وهم أربعة أبناء حوْلَها - تحنو عليهم وتبثُّ فيهم معانيَ العزَّة وحبَّ الإسلام. كان زوجُها قد بنى منزلاً متواضعاً في إحدى القرى، وكان أهلُ زوجِها يسكنون بعضاً من طوابق هذا المنزل، كانوا لا يهتمّون كثيرًا بأحوالها، وكيف تعيش، وهي لا تطلب منهم ما لا يُطيقون، وكذلك أبوها وأمُّها قد طلبا منها في بداية الأمر أن تترك زوجَها، لكنها تمسّكت
به، بل وكانت سبباً في تحوُّل قلوبهم جميعاً إليه بالحبّ بعد ذلك، بل وطفِقوا يتردّدون عليه للزيارة، ويساعدونها في بعض نفقات الأولاد بقدر متواضع، وهي في كلِّ الأحوال راضيةٌ بأيِّ عطاء، ولا تطلب من أيّ أحدٍ شيئاً، مهما كانت احتياجاتُها، فهي منذ البداية وحتى الآن،
كيَّفت حالَها على معاشٍ متواضع، تحصل عليه من نقابة المهندسين، قد لا يكفي لإطعام فرد واحد، لكن لكونه معها ولقناعة أولادِها يصبح هذا الدخل كثيرًا؛ لأنني لم أر أنها - طوال أكثرَ من عشرين عاماً - تبرمت من أية أوضاع مادية أو معنوية، ولا تشكو مطلقاً ضيق ذات اليدِ، كما تفعل الكثيرات.
ويموت الأبُ الذي كان يشاركُها رعايةَ أبنائها ويسألُ عنهم، وتبقى لها الأمُّ ؛ لتقوم بدور الأب، ولكن لم يُمْهلْها الأجل هي الأخرى، ولقيت ربها، تاركةً منى تصارع الحياة وحدَها، بلا عائل وبلا مصدر للدّخل تنفق منه على أبنائها. وزاد الأمرُ سوءًا عندما دبّ خلافٌ بين نساء المنزل مع بعضهن البعض، فآثرت منى أن تسكنَ وأولادُها في دار قديمة ومتهالكة لجدَّتِها، كانت مهجورةً ومكونةً من حُجُرات بالطوب اللبِن في إحدى الحواري الضيقة.
لم يكن يتوفَّر لـ"منى" كل شهر إلاّ جنيهات معدودة، وبالتالي فليس هناك أثاث وثير أو ثياب جديدة أو طعام شهي، ولكن هناك الرضا والصبرُ والقناعةُ والتحمُّل.
بكت منى كثيراً، ودعت ربَّها كثيراً أن يكون معها، وألاّ يُشمِّت فيها شامتاً، وأغلقت بيتها على نفسها، فلا يكاد يدخله أحد إلا أولادُها. وقد تقبَّلت هذا الوضع بالرضا التام، وهي التي تمتّعت في بيت أبيها بحياة رغِدة، وهي في كل أحوالها تواظب دائماً على إعداد الطعام
لزوجها وحملِه مسافات طويلة من خلال الحافلات العامة، لا تُخلف له موعدًا، ولا تعصِي له أمراً، وتحرص على رضاه وتُظهر له كلَّ الودِّ والاحترام، بل قد تبثُّ فيه السّكينةَ والطّمأنينة، وترعى له الصِّغار الذين صاروا أمثلةً نموذجيَّة للشباب المسلم الملتزم دينيّاً وخُلقيّاً. ففي العائلة يقولون لها دائماً: إنه على الرّغم من وجود الأزواج والمال إلاّ أنها الأكثرُ حظاً من غيرها، فالأبُ والأمُّ قد توفاهما الله وهما راضيان عنها؛ لحسن خُلقها مع الجميع، وكذلك زوجُها راضٍ عنها؛ لحسن تبعُّلِِها له وقيامِها برعاية صغاره كأحسن ما أنت راءٍ راعياً.
أما الأولاد فيختلفون كثيرًا عن شباب هذا الجيل؛ فـ"عبد الرحمن" قد أتمّ حفظ القرآن الكريم منذ الصِّغر، وهو حريصٌ على القراءة والاطّلاع الدينيّ بعمق، وتخرج في كلية الشريعة والقانون، ويواصل دراساته العليا ، و"سارّة" - هي الأخرى - أتمت حفظَ القرآن الكريم،
وتحتلُّ المركزَ الأولَ بامتياز في كلية الدراسات الإسلامية، ثم تزوجت بشاب متدين، وأصرت أمُّها أن تخبره بظروف والد العروس، فقال: إن ذلك يشرّفُه، و"عبد الله" و"منة الله" ما زالا في مراحل التعليم العام، وجميعُهم قائمون على طاعة والديْهم.
وفي الأسبوع الماضي خرج الزوج، بعد ستٍ وعشرين سنةً قضاها في مَحْبَسه؛ ليرى أبناءه وقد رعاهم له الله وربّاهم على عينه، وليتسلَّم من زوجته المَهمَّة، وقد أدَّتها على خير ما يكون الأداء.
المصدر : موقع الإسلام اليوم .