أ. مريم عبد اللّه النعيمي .
يتفق الجميع على أنّ تحديد أولويّات الأبوين هو خط فاصل ما بين الأداء العادي والأداء المتميز، ولا توجد وجهات نظر متباينة حول أهميّة هذه الفكرة من حيث المبدأ، لكن عالم التطبيق وميدان السلوك يشهدان تبايناً ملحوظاً في كيفيّة تطبيق هذه الأولويّات ومراعاتها في كلّ خطوة يخطوها الأبوان.
وعلى سبيل المثال نجد لدى بعض الأسر تخبطاً مريعاً في التجارب التربوية التي يمرون بها مع أبنائهم، فبينما تؤكد ألفاظهم أنّ تربية أبنائهم تربية صحيحة هي هدف حيوي لا يمكن التفريط به نلحظ تخبطاً في أدائهم يعكس خللاً حقيقيّاً في فهم قواعد التربية الفعالة، ويقلل بالتالي من قيمة جهودهم التي ظاهرها المعاناة والتعب والبذل المتواصل، بينما هي في الحقيقة لا تسير في المسار الصحيح ولا تتجه الوجهة المطلوبة.
أين يكمن الخلل؟
يكمن الخلل في ضبابيّة الرؤية حول السلوكيّات الفعالة القادرة على تكوين الشخصيّة المتوازنة.. القويّة.. والواثقة بنفسها وإمكاناتها والمتواصلة مع ذويها.. هذه الضبابيّة هي نقطة ضعف العمل التربوي، والثغرة التي ينفذ منها السلوك غير الفاعل والذي قد يضرّ بمسيرة الأبوين التربويّة ويفاجئهما بنتائج لم يحسبا لها أي حساب. وقبل أن نلج في موضوع التخطيط الأسري التربوي علينا أن نتوقف أمام المخزون المعرفي من المفاهيم التربوية التي يملكها الأبوان. سـؤال مـهـمّ كيف يرفع الأبوان مخزونهما التربوي وكيف يضيفان إلى رصيدهما نقاطاً معرفيّة تعزز من جهودهما في تربية الأبناء؟ إجابة هذا السؤال هي المدخل الطبيعي الأمثل لكل موضوع تكون مادته التربية الأسرية، إذ هو مفتاح الحل ومنطلق البناء الأمثل. وعلى هذا الأساس فإنّ توجه الآباء والأمهات إلى عالم الثقافة والمعرفة، وانصرافهما إلى فهم كيفيّة تفعيل أدوارهما التربوية يعدّ خياراً فعالاً لتقريب زمن تحقيق الأهداف.
ما هو التخطيط ؟
التخطيط في أبسط صورة له هو التنسيق بين ما يرغب الفرد أن يحققه لنفسه أو لأسرته أو للجماعة التي ينتمي إليها. فالتخطيط هو أسلوب في التفكير والتصوير الذهني القائم على خصائص متميزة أهمّها التداخل بين فروع المعرفة المختلفة، وهو أسلوب علميّ.. ومنهجيّ.. وفنيّ يتشكل عبر عمليات متعددة ومستمرة، ويقوم على أساس مناهج وبرامج ومشروعات عمل تفصيليّة تهدف إلى إحداث تغييرات مقصودة في الجماعة وأفرادها خلال فترات زمنية محددة الأداء.
أهداف التخطيط العائلي .
إنّ أيّ دراسة أو بحث تناشد الأبوين إمعان النظر في قيمة التخطيط بالنسبة إلى حياة أفراد الأسرة تهدف في حقيقة الأمر إلى بلوغ عدة مقاصد من تلك المناشدة وذلك الإلحاح، منها : 1 - تحقيق التوازن في سلوكيّات العائلة وطريقة أدائها للأدوار المختلفة : غنيّ عن القول أنّ أكثر الأسر التي تعاني من مشكلات وأزمات في علاقتها ببعضها إنما تنتج أزماتها تلك من التعوّد على الخروج عن خط الاعتدال في العلاقات الداخليّة التي تربط بين أفراد الأسرة، إمّا عن طريق قسوة زائدة، أي حرمان من حقوق الاحترام والرعاية النفسيّة، أو عن طريق التدليل والتجاوز المطلق عن الأخطاء، أي بإقصاء دائرة الواجبات من حياة الابن الذي تتضخم لديه الأنا السفلى عبر سلسلة الممارسات السلبيّة التي تصدر من الأبوين، لجهلهما أنّ الدلال الزائد ليس هو الخيار الصحيح لتربية الرجال والنساء المنتظرين في الغد. 2- تحديد أهداف مشتركة والعمل بشكل جماعي لتحقيقها: من أبسط الأمثلة التي تحقق هذا الهدف الاتفاق على الخطوط العامة التي تضبط إيقاع السلوك الأسري، وتهيئ المنزل ليكون مكاناً مريحاً يضم كافة أفراد الأسرة تحت جناحيه دون شعور بالملل أو إحساس بالسآمة والضجر من البقاء فيه. نظافة المنزل على سبيل المثال هدف يجب أن يكون مشتركاً وليس هدفاً شخصيّاً للأمّ وحدها.
والهدف من تحويل النظافة إلى هدف مشترك هو توزيع الأدوار داخل الأسرة، والإحساس بوجود رابط سلوكي يشترك الجميع في أدائه ويتماثلون في السعي لتحقيقه، ممّا يحمي الأبناء من مشاعر الاتكاليّة، والعيش المتطفل الذي يكون فيه الفرد عبئاً على عائلته يجلس فيُخدم، ويأمرفيُطاع ، ويشير فيسارع الخدم من حوله لإرضائه وتحقيق مراده. فالحياة وفق أهداف مشتركة تحمي الأبناء من العيش الهامشي والحياة الباردة المسطحة، التي تجعل منهم أعضاء خاملين ذوي مردوديّة ضعيفة يخشى من تحوّلها مع الأيام إلى عادة متأصّلة في أعماق أولئك الأبناء، حيث يألفون الحياة السهلة والبسيطة ولا يجدون أنهم مطالبون بشيء لكي تتحقق مطالبهم.
يبدأ الخلل من هنا، وعند هذه النقطة بالتحديد، لدى عديد من الأسر الميسورة مادياً والتي لديها فائض من الخدم لا تعرف كيف تديرهم. إذ من الصعب أن يتعوّد الأبناء على خدمة أنفســهم وهم مرفهون إلى هذه الحدود، بل إنّ أبسط المواقف وأهون التجارب الخارجيّة تجعلهم عصبيّين ومفرطين في التشاؤم والإحساس بالعجز عن اجتيازها، وما ذلك الإحساس الخاطئ إلا نتيجة طبيعيّة للميوعة والليونة التي ألفوها في بيوتهم، وتسبَبت في إعاقتهم النفسيّة وشعورهم بالضآلة أمام مواقف الحياة التي تحتاج إلى نفوس صلبة تعوّدت على قبول التحدي وتدرّبت على مواجهة مسؤوليات الحياة. ومن أبجديّات التعويد المبكر على تحمّل المسؤوليّة أن يعتني الطفل بنظافة المنزل، ويواظب على المشاركة مع أمّه وإخوته الكبار في ترتيب الغرف، وإعداد مائدة الطعام ولو بصورة رمزيّة تكبرمساحتها مع الأيـــام. 3 - توفير الوقت وإدارته بشكل فعال : ليس كالتخطيط وسيلة ناجعة للحصول على مزيــد من الوقت الفعــال لإنجـــاز المهمات الكثيرة والكبيرة أيضاً. وكلّما كانت هناك حساسيّة إيجابيّة إزاء عامل الزمن توفرت المصداقية في تجويد الأعمال والارتقاء بالذات من خلال التعامل الواعي والدقيق مع الوقت.
ومن المثير للغرابة أن نرى بعض الأسر تضرب عرض الحائط بعامل الزمن التربويّ، وتتغافل عن دوره في تسريع نموّ الأبناء والبنات، وما يترتب على ذلك التسريع في النموّ الفسيولوجي من واجبات تربويّة تفرزها مراحل النموّ المختلفة للأبناء، والتي تمثل المجازفة بها امتهاناً لدور الأبوين حيث يصعب تعويض ما فات، واستدراك الزمن الذي أصبح في عداد الماضي، ممّا حوّل تلك العلاقة شديدة الخصوصيّة إلى علاقة عاديّة ليس فيها ما يعكس القدرة على إسعاف حاجات الأبناء وتقديم إجابات شافية لأسئلة تتولد تلقائياً عبر مراحل النموّ المختلفة، وتلحّ في البحث عن إجابات. فإن كان جراب الأبوين خالياً، ومخزونهما نافداً فمن أيّ مصدر سيأتي الأبناء بما عجز عنه الآباء، ثم كيف تنجح تربية تحيل الأبناء إلى الخارج ليتسّولوا إجابات مفقودة في الدار؟
أمِنَ الحكمة أن يحيل الأبوان بلسان حالهما أفلاذ أكبادهما إلى البيئة الخارجية، بكلّ ما تحمله تلك الكلمة من إيحاءات سلبيّة، في حين أنّ المنطق يقول: إنّ الآباء أولى بأبنائهم من الغرباء؟! 4 - إثراء البيئة الأسريّة بالحوار وتعويد الأبناء على التعبير والمشاركة بالرأي : حين نطالب بالتخطيط الأسريّ نفترض سلفاً دخول الأبناء في معمعة التخطيط، ومنذ المرحلة التمهيدية لأية خطة عائلية. غير أنّ افتراضنا هذا يرتطم بصخرة الواقع الذي يعكس حالة من التحجّر العقلي، والتيبّس الفكري لدى بعض أولياء الأمور ممّن يستبعدون أبناءهم من المشاركة في أيّة خطة عائلية. فهؤلاء الآباء المتيبّسون لا يتصوّرون إمكانيّة استشارة الأبناء أو الخوض معهم في أحاديث تهمّ العائلة. وهم يكرّسون النظرة القديمة التي ترى أنّ واجب الأبناء هو السمع والطاعة، وحتى حين يكبر الولد وتكبر البنت فإنّ الطاعة تصبح أكثر إلزاماً في حقهما، إلى الدرجة التي تجعل من مجرّد التفكير بمناقشة أحد الأبوين هو إعلان للتمرّد وخروج عن الخط المرسوم لما يريده الأبوان.
لذا فإنّ أفضل طريقة لكسر تلك القوالب الجامدة هي اليقين بأنّ النضج المبكر للأبناء هو خط الأمان من العقوق أو العصيان. ويعدّ البدء المبكر بإشراك الأبناء بأفكار الآباء وتصوّراتهما إزاء أمر من الأمور العائلية اختياراً ذكيّاً وسلوكاً إيجابيّاً يجب تكريسه في تقاليد العائلة وضمّه إلى القائمة المفضلة من الأساليب الوقائية التي تمنع الاصطدام بآراء الأهل، وتُحدث تناغماً وانسجاماً في خطوط التفكير، والسلوكيّات المصاحبة له لدى جميع أفراد العائلة. 5 - تركيز الجهود على الأولويّات بدلاً من هدر الطاقة في الأمور ذات الأولويّة المنخفضة : إنّ التعوّد على إشراك الأبناء في الخطط العائليّة، سواء الاقتصاديّة أو التعليميّة، أو الترفيهيّة، أو الاجتماعية، يؤدّي إلى تقليص هامش الخطأ أثناء التنفيذ، كما يتيح للأبناء فرصة خوض التجارب التي شاركوا بالتخطيط لها شفويّاً ومن خلال اللغة الحواريّة. وإلى جانب ارتفاع الحماسة نتيجة الموافقة المبكرة والاقتناع بالسلوكيّات المدرجة في قائمة التخطيط يتولد إحساس بالتقدير للذات لدى الأبناء نتيجة حرص الأبوين على استشارتهم ومعرفة آرائهم في الأنشطة التي تقوم بها الأسرة. أخيراً.. يمكن القول إنّ التخطيط الأسري التربوي الذي نطالب به هو وسيلة لإدراك غاية، والغاية هنا هي إدماج الأبناء في مشاريع العائلة بغرض كسر الحواجز النفسيّة، وتوثيق الروابط الأسريّة من خلال الاجتماع لتحديد الأهداف المشتركة وتوزيع الأدوار. كما يهدف التخطيط إلى مناقشة الأهداف الشخصيّة وتحليلها وإبداء وجهة النظر حولها، حتى يرتفع مستوى التفاعل بين أفراد العائلة، ويتسنى للجميع دعم أهداف بعضهم بعضاً، وتهيئة الظروف المناسبة ليسهل على كلّ فرد تحقيق أهدافه وهو يحظى بتأييد عائلته ووقوفهم بجانبه، الأمر الذي يدفعه للجدّ والبذل، ويمنحه طاقة نفسيّة للمواصلة والاستمرار.