القمر الذي كُسِفَ عني ولا زلت أعيش في نورِه

الناقل : heba | الكاتب الأصلى : عادل بن سعد الخوفي | المصدر : www.almostshar.com


القمر الذي كُسِفَ عني ولا زلت أعيش في نورِه .

 

أ. عادل بن سعد الخوفي .

 

 رنين الهاتف بدا على غير عادته هذا الصباح . ومع خفقات قلبي التي تلاحقت ، أجبتُ المتصل ، فإذا هو أخي الأكبر الذي أشار إلى توصية الطبيب المعالج لجدتي بعيادتها عاجلاً – وقد كنا بالأمس الأول في زيارتها في المستشفى .

ما لفت انتباهي قول أخي نقلاً عن الطبيب أنه يمكن تكون هذه الزيارة الأخيرة لأمنا الغالية . وفي المستشفى . . كانت - رحمها الله - ممددة على السرير ، يفصل بيننا وبينها جدار زجاجي ، آلات وأجهزة عديدة تحيط بها ، أجهزة لتخطيط القلب ، وأخرى للتنفس ، وثالثة ، ورابعة ، وخامسة . هَزَّني هذا المنظر . . دموعي الحرّى ينافِسُ بعضها بعضاً للتعبير عما يعتلِجُ في صدري ، لساني بدأ يلْهَجُ بالدعاء لمن بيده خزائن السموات والأرض أن يُفَرِّج عنها ما هي فيه .

 

حَلَّقَتْ ذاكرتـي في عوالم ما قبل ثلاثة أشهر من الآن . . جدتي نور البيت وسراجه . . من أين أبدأ الحديث ؟ من أيــــــن ؟ عبادتهـــا ؟ نعم ، لقد أتعبت من بَعدها ، كنا نسخر من شبابنا أمام شبابها ، ومن حبنا للخير أمام حبها له ، ومن خوفنا من الله أمام خوفها منه ، بل ومن حبنا لله أمام حبها له .

عُمرها يتجاوز الثمانين سنة ، ومع ذلك حافظت على صيام نبي الله داود عليه السلام . . تصوم يوماً وتفطر يوماً ، وهكذا حتى في مطلع دخولها المستشفى ، والإغماءة التي كانت تصيبها ، ومع ذلك كانت تبدو في ضيق وعتاب على الطبيب الذي أجبرها على الفِطر في يوم الصيام . وخلال أشهر عديدة لم تتوقف عن هذا الصيام ، بل كانت تتلذذ بهذه العبادة دون ضجيج أو سمعة .

مصلاها . . سبحان الله ، لا أعلم أني دخلت عليها في ليل أو نهار إلا وجدتها على مصلاها ، راكعة تارة ، وتارة ساجدة ، ومسبحتها البنية الشكل ، الذي يبلغ تعداد حباتها المائة والثلاثين ، قد زينت أصابعها البيضاء في كل حين .

لا أنسى حبها للصدقة ، وإخفائها لها ؛ فحين اجتماع بعض الريالات لديها تدعوني - وبصورة سرية مع خفض للصوت ، وإخفاء للمبلغ ، وسرعة في الطلب - تدعوني لإنفاقها في كفالة يتيم ، أو تفريج كربة .

ما أجمل دموعها التي تخرج من خشية الله – بإذن الله – . إن صاحبة القلب الرقيق دائمة البكاء والخوف والخشية من رب الأرض والسماء .

 

ثم انتهي تطواف ذاكرتي في تلك العوالم الجميلة لتحط رحالها بين يدي جدتي المستلقية على السرير ، وكأني أسمع نبضات قلبها في قلبي - مع ما بيننا من الساتر الزجاجي السميك - ، ومع كثرةٍ في الدعاء والالتجاء لرب الأرض والسماء ، ألقيتُ عليها دعاء الوداع ، والذي كان بالفعل الوداع الأخير .

بعد أن أنهت والدتي وأخواتي غسلها طلبتُ للدخول . يا للهول . . !! لقد كانت مفاجأة لي . لم أر جدتي التي توفيت بالأمس . . لم أر غاليتي التي تجاوزت من العمر ثمانين حولاً . . لقد رأيت عجباً !! نعم كل العجب !! رأيت في ذلك المكان عروساً في العشرين من عُمُرِها ، لبست بياضاً ، وجهها كالقمر ، لونها الأبيض قد مُزِج بِحُمرَة ، عليها من الطمأنينة والنور والثبات والحبور الشيء العجيب . . الله أكبر . الله أكبر .

وحانت مني التفاتة سريعة إلى ذلك الوجه المبارك . . سبحان الله . . أأنا في عالم الأحلام أم حق ما أرى ؟! والتفَتُّ إلى أخواتي ، هل رأيتم ما رأيت . . نعم نعم . . إنها تبتسم ، ابتسامة لها مغزى ومغزى ودلالات وآياتٍ نيرات . . إنه الفوز ، إنه الفوز ، إنه الفوز : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) ( آل عمران : 185 ) .