د. فيصل بن سعود الحليبي .
الفتاة بين والديها قرة عين، وفرحة قلب، وانشراح صدر، يجد فيها الوالدان من شدة الحياء والرقة وتدفق العواطف ما لا يجده في الابن، ولربما كان عامل الأنوثة والضعف فيها له الأثر الكبير على قلب الوالدين في تعاملهما معها برفق شديد، غير أن مما يُقال كثيرًا: إن الفتاة إنما تُربّى لبيت زوجها، هناك حيث تقود لها أسرة جديدة، وتربي فيها جيلاً جديدًا.
الفتاة وأحلام السعادة ..
بكل صراحة، فإن الفتاة حينما تضع قدمها على أعتاب الخامسة عشرة أو أكثر قليلاً تبدأ أمنيات الزواج تمر بخاطرها، فتجول في عقلها الأحلام الجميلة، فتحلم وكأن فارس أحلامها يطرق باب والدها، ليطلبها زوجة له، فتراه رجلاً صالحًا طيبًا، أو شابًا مرموقًا تتفرس فيه الصلاح والرجولة، فيستأذنها أبوها في أمرها، فتستجيب له بكل حياء، وتحلم كثيرًا بأنها وقفت على منصة العرس، وهي في ليلة عرسها، وبأبهى حلتها، يُضرب بين يديها بالدفوف فرحةً وبهجة لها، وتحلم بأنها أصبحت زوجة، لها مكانتها في منزلها، وتتبادل مع زوجها المودة والرحمة، وتستلذ بطعم السكن الزوجي الذي وعده الله عباده فقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [سورة الروم: 21].
وإن الفتاة ستغرق في أحلامها حينما يسري صوت طفل إلى سمعها، فتتخيل نفسها وكأنها غدت أمًا حنونًا، تهدهد طفلها ساعة، وتناغيه أخرى، وتلاعبه تارة، وتزجره أخرى، وتربيه ليكون سندًا لدينه وأمته ووطنه. الله .. ما أجملها من أحلام، تنطلق فيها الفتاة بكل تفاؤل، لا تحبس من خيالها فيها شيئًا، ربما انشغلت بها عن دروسها أحيانًا، وعمن يحدثها أحيانًا أخرى، لتعود منها وكأنها عائدة من رحلة جميلة سعيدة. فما بالكم لو اصطدمت هذه الأحلام وتلك الأمنيات بقلوب غليظة، قد أعمتها المادية أو القبلية، أو جنحت بها الغيرة المذمومة إلى أوحال الجاهلية الأولى، فأعادت لنا وأد البنات من جديد، ولكن بصورة لا تبعد في القبح عن الأولى كثيرًا (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [سورة التكوير: 8-9].
فإن كان بعض أهل الجاهلية يقتلون الفتاة وهي حية في الصغر، فإن بعض جاهلي هذا العصر يقتلون فتياتهم في الكبر، وذلك بمنعهن عن الزواج من الكفء الراشد الصالح، وهنّ لا يمنعهن من ذلك أي مانع، وإن لهذا العضل لصوراً ينافس بعضها بعضًا في البشاعة وقلة الرحمة، وتشترك في سلب المرأة حقها من الزواج الشرعي من الكفء: فمرة يمنع الولي موليته بسبب الاستيلاء على أموالها، ومرة يمنعها من الزواج من أي كفء؛ لأنه ليس من أقربائه أو عشيرته، ومرة يمنع المطلقة من العودة إلى زوجها رغمًا عنها لا لسبب شرعي أو تحقيق مصلحة معتبرة. وقائع مؤسفة:
هذه (داليا) إحدى ضحايا العضل تقول: "تقدم لخطبتي أكثر من شاب، يشهد لهم الجميع بحسن الخلق، لكن أبي كان يرفض دائماً المتقدمين، وكان يضع عيوب الدنيا كلها في كل عريس، وجميعها عيوب لا تمس أخلاقه، وعندما أحاول إبداء رأيي يتهمني بعدم معرفة مصلحتي، ويمر بي العمر وأنا بانتظار من يرضى عنه أبي". وعن أسباب رفض أبيها للخاطبين تقول داليا: "إن راتبي كاملاً يحصل عليه والدي، وهو لا يريد أن يفقد هذا الراتب بعد زواجي، لذلك فهو يتهم كل من يتقدم لخطبتي أنه يطمع في هذا الراتب".
أما (حنان) فتقول عن نفسها: "تقدم لخطبتي شاب مثقف ومن عائلة طيبة، وعندما تمت الرؤية الشرعية شعرت بارتياح تجاهه، لكن والدي اشترط لإتمام الزواج أن أعطيه راتبي كاملاً أول كل شهر، والشباب في هذا الوقت يفضلون العاملة بالأساس". أما (مشاعل) فقد قام عمها -ولي أمرها- برفض زواجها، وذلك بسبب وجودها في "الضمان الاجتماعي" لوفاة والدها، خوفاً من انقطاع هذا الدخل الذي يحصل عليه من الضمان بسبب حضانته لها!! مهمة الولي .. والواقع!!
أيها القارئ الكريم: الإسلام جعل لصحة النكاح وليًا، ليختار لهذه الفتاة الأصلح؛ لأن نظر الفتاة ربما يكون قاصرًا فيمن يكون زوجًا لها، لكن ليست مهمة الولي أن يستولي على أموالها، أو يحطم حياتها بحبسها عن الزواج، أو أن يجعلها فريسة لأطماعه أو ضحية لمشكلة وقعت بينه وبين زوجته. ولك أن تعجب كل العجب ممن تراه يعدد في النساء فيتزوج بأكثر من واحدة، وهو مع هذا يمنع بناته من الزواج! حتى التصقت بلسانه هذه العبارات التي يسمعها كل خاطب: ليس عندنا بنات للزواج.. البنت ستكمل دراستها.. البنت لابن عمها.. أو ربما أغلق الباب دون الخاطبين.. وما درى أن كل كلمة من هذه الكلمات تقع كالقنبلة في مسمع هذه الفتاة!!
وبكل شفافية فإنه حينما يتقدم العمر ببعض الأولياء فتبرد الشهوة بين جوانحه، يتسلط عليه الجهل فينسى أن هذه الفتاة ما زالت في ريعان الشباب، تتمتع بنشاطها وفتوتها، لكن هيهات مع هذا الولي غير الرحيم، الذي يعرّض فتاته في حقيقة الأمر إلى اكتئاب خطير وطأته شديدة، يخلف وراءه أمراضًا تتصل بالعقل والقلب وسائر الأعضاء، وإنك لترى الضعف والهزال يتسلل إلى بدن هذه الفتاة المسكينة، كلما سمعت بخاطب عاد بخيبة الأمل من أبيها زاد ضعفها وتردت صحتها، فأي قلب قلب هذا الأب، وأي قسوة تلبّس بها!! التحجير في ميزان الشرع:
أما قضية التحجير التي تنتشر في بعض أوساطنا، بحيث تمنع الفتاة من الزواج إلاّ من أحد أبناء عمومتها فهذا جهل بسنة الحبيب الذي قال: ( إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ) رواه الترمذي. الكفاءة في النسب أمر مشروع بلا ريب، وذلك لأن الزوجين يكونان أقرب في العادات والتقاليد وطريقة الحياة والأطباع، ويقل في الغالب اختلاف وجهات النظر بينهما، وإذا ما اختلفا كان الصلح سهلاً وميسورًا، فلأن تُزَوّج الفتاة من الأسر القريبة منها أمر لا مانع منه لتحصيل هذه المنافع وتلك الغايات.
أما المرفوض شرعًا أن تُمنع من الزواج إلاّ من أبناء عمومتها، ومن الفخذ الذي هم منه دون غيرهم، فإذا لم يكن ذلك لأي ظرف من الظروف، حُبست البنت عن الزواج وعضلت عن حقها فيه، فتعيش تشكو حزنها إلى الله تعالى من هذه العادات المقيتة، لا تستطيع أن تبوح بما في خاطرها، فالعيب كل العيب في مجتمعنا أن تتحدث الفتاة عن مصلحتها في الزواج من اختيار الزوج أو إبداء الرأي فيه بكل وضوح، والمستقبل مستقبلها، والحياة حياتها، فماذا عسى أن يصنع لها أقرباؤها إذا ما جلست في بيتها تلوكها الأحزان، وتعتمل في صدرها الراغبات الفطرية،
وهي ترى الخاطبين يروحون إلى وليها ويعودون منه صفر اليدين!! كل ذلك يتكالب عليها في زمن الفضائيات التي لا ترحم حياءها، ولا تراعي مشاعرها ببث اللقطات الساقطة والمشاهد الإباحية إن لم تشاهدها في بيتها شاهدتها هنا أو هناك، وفي زمن الإنترنت وغرف الدردشة التي ربما لجأت إليها الفتاة المحرومة قهرًا من الزواج بسبب وليها تجد فيها سلوتها المحرمة والأحاديث الغزلية المشبوهة.. وأعيذكم مما هو أشر من ذلك وأشد.. ذلك هو الفساد العريض الذي تنبأ به النبي من الفواحش والكبائر التي نعلم منها قليلاً، ونجهل منها الكثير. وللمطلقة نصيب!!
وتتكرر المأساة مع المطلقة من زوجها، أو المختلفة معه، وبدا لها ولزوجها أن يعودا للحياة الأسرية من جديد بعدما ذاقا وأذاقا معهما من أولادهما مرارة الطلاق والفراق، ليقف ولي المرأة أو بعض أهلها حجر عثرة في طريق العودة الحكيمة إلى البيت وإلى الزوج وإلى الأولاد حيث تحلو الحياة ولو بقليل من الخلافات والنزاع، يمنعونها من العودة بزعم الدفاع عنها، والذود عن كرامتها، فيمنونها بحياة أكرم وحياة أكثر رفاهية، وما دروا أنها لو عاشت مع زوج صالح في عش أسعد لها من أن تعيش معهم في أزهى الدور والقصور ..!! يقول الباري سبحانه : (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
عن مَعْقِل بْنُ يَسَارٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ قَالَ زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا فَقُلْتُ لَهُ زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ فَطَلَّقْتَهَا ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا لَا وَاللَّهِ لَا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا،وَكَانَ رَجُلًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ( فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) فَقُلْتُ الْآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ) رواه البخاري. تأمل هذه الاستجابة السريعة لأمر الله ولأمر رسوله في إعادة هذه المرأة إلى زوجها بعدما تراضيا بالمعروف، وادع الله تعالى أن يرزقك مثل هذه الاستجابة وقل: اللهم ارزقنا استجابة كاستجابة صحابة نبيك، نرشد بها، ونصلح أوحالنا بها، ونسعد ونُسعد بها أحبابنا. حلول مقترحة:
إذا أردنا أن نضع بعض الحلول في قضية العضل بإيجاز، فإنها على الآتي: أولاً: على أولياء المرأة أن يتقوا الله فيها، وأن يستشعروا الأمانة الملقاة على عواتقهم في تزوجها للكفء الصالح، من دون عصبية ولا نظرة مادية، وأن يبعد كل البعد عن ظلمها وقهرها بعضلها عن الحلال، فإن الرسول يقول: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" رواه البخاري. ثانيًا: على من يقوم بعقد الأنكحة أن يتأكد من موافقة الفتاة على الزوج الذي رضيه وليها، وأنها غير مجبرة عليه من خلال الشهود واستماع ذلك منها.
ثالثًا: إذا تحقق ظلم الولي لهذه الفتاة بمنعها من الزواج من الأكفاء بتكرر ذلك منه، فللمرأة شرعًا وعدلاً أن تشكو أمرها بعد الله تعالى إلى المصلحين أو القضاء أو المراكز الأسرية للنظر في حالها ورفع المظلمة عنها، وذلك بمناصحة هذا الولي وتوجيهه وتخويفه من مغبة منعه، فإذا أصر على فعله فإن القضاء الشرعي ربما وضع عليه تعزيرات قد تصل إلى نزع الولاية منه إلى غيره أو سجنه أو غير ذلك، فإذا لم يكن هناك من يزوجها من أهلها زوجها القاضي، فآثار العضل الخطيرة تستحق أن نقف مع الولي أحيانًا مثل هذه المواقف الشديدة. نداء من القلب ..
وأخيراً: أيها الولي.. بل يا أيها الأب.. يا صاحب القلب الأبوي الرحيم.. لماذا أوصلتنا إلى هذا الحد من الحديث.. حتى وصلنا به إلى القضاء والعقوبة والسجن.. أليست ابنتك.. فلذة كبدك .. ريحانة فؤادك.. ألم يفطر قلبك على حبها، والسعي في سعادتها!! ألا ترحم ضعفها وأنوثتها!! ألا تحب أن تراها مبتهجة في ليلة عرسها كما كانت تحلم!! ألا تحب أن يأتيك منها الأحفاد يدعون لك ويستغفرون لك.. أما يرق قلبك من بكائها وحرقتها على شبابها.. ماذا تريد منها أن تصنع بعدما حبستَها عن بهجة الحياة وأنفاسها العبقة.. هل سترضى بها بين زوايا بيتك معقدة النفس.. معتلة البدن.. مكسورة الخاطر.. تبًا لهذه الأموال التي تحصدها من عرق جبينها هي، ومن تعبها هي.. ما أبأسها من تجارة وما أحقرها من صنعة ..!!
أم تريد أن تقع منها موقع ذلك الأب الذي أهلك ابنته بحرمانها من الزواج، حتى نهشتها الأمراض، وأقعدتها على فراش الموت، فلما جلس أبوها بقربها في ساعة الاحتضار، قالت له: يا أبتي قل: آمين، فقال: آمين، فقالت له: يا أبتي قل آمين، فقال: آمين، فقالت له: يا أبتي قل آمين، فقال آمين، فقالت: أسأل الله أن يحرمك الجنة كما حرمتني من الزواج. إن ظني فيك أكبر من هذا بكثير، فأنت صاحب الصلاة والاستغفار والإحسان، والله قد متعك بصحتك الآن، فارجع إليه، واستغفره من عضلك لابنتك، وزوّجها الكفء بعد أن ترضاه ابنتك، وبعد أن يظهر لك صلاحه وحسن خلقه وأمانته، أما نجاح هذا الزواج والسعادة فيه فأمر لله رب العالمين، فعليك بالدعاء بالبركة لهما، فإن الله سميع مجيب.