د. أيمن غريب قطب .
لدى الكثير من أصحاب الاحتياجات الخاصة سلوكيات نمطية واضحة . ومنها عدم الرغبة والانسحاب من المواقف الاجتماعية والمشاركة في الأنشطة المختلفة منها. كما قد يتصفون بدرجة عالية من السلوك العدواني والمشاكسة والرغبة في التفوق وقد تمتد إلى مضايقة الآخرين . كما يظهرون أنواعا من التردد خاصة عند البدء في الأعمال الجديدة أو الانتقال من خطوة أو مرحلة لأخرى في بعض الأعمال التي يقومون بها . ولدى البعض منهم نشاطا زائدا بصورة مستمرة أو هو ما يطلق عليه ( hyperactivity ) . كما أنهم قد يداومون على حركات أو أفعال بصورة متكررة بالرغم من عدم تناسب الاستجابة .
وهناك شكل من الأشكال الانفعالية العامة لديهم تظهر في صورة إما عدم تحكم واضح في الانفعالات أو انفجار انفعالي . وأحيانا تبدو في صورة بلادة وعدم اكتراث . وعلى الرغم من ذلك فهناك منهم من تنتابه مشاعر من الدونية في قرارة ذاته والرغبة في تحقير الذات . وأخيرا فإن هناك احتمالات لزيادة مظاهر الانحرافات السلوكية خاصة بالنسبة للمتخلفين ذهنيا منهم مقارنة بالأشخاص العاديين .
إن هذه الملاحظات العلمية للأنماط السلوكية والشخصية لأصحاب الاحتياجات الخاصة لتشير إلى نتاج عملية تفاعلهم مع البيئة الخارجية المادية والاجتماعية والنفسية المحيطة بهم . وقد تكون مكتسبة كوسائل دفاعية للدفاع عن الذات التي قد يعوز هؤلاء الأشخاص الإدراك الصحيح لها .
إن وقوع الشخص المعاق أو صاحب الاحتياجات الخاصة في سلسلة من الإحباطات والفشل المستمر يبدو نتيجة لإعاقته وعدم قدرته على مسايرة الآخرين والتكيف مع البيئة الاجتماعية المحيطة. بالإضافة إلى عدم التقدير الصحيح من جانب الآخرين لذلك وسوء تعاملهم معه . وما قد يبدونه من ملاحظات ونقد مستمر وأحيانا قد يصدر عنهم تهكم أو عطف زائد . مع إدراك هذا الشخص أن ليس له ذنب أو دور في حدوث الإعاقة .
إن ذلك يدعم ويزيد من مشاعر الإحباط لديه . ومن ثم ازدياد السلوك العدواني عنده سواء كان بشكل سلبي أو إيجابي في صورة تحدي للإعاقة والمحيطين به . وقد يلجأ هذا الشخص المعاق أو صاحب الاحتياجات الخاصة بناء على توقعه للفشل مع الآخرين وسوء تقديرهم إلى الانسحاب كسلوك دفاعي أو العدوان أو التردد كرد فعل للشعور بالدونية أو الدفاع عن النفس . وتغلب عليه انفعاليته العامة في شكل بلادة أو تهور وانفجار انفعالي .
وتشير الدراسات إلى ميل الشخص ذي الاحتياجات الخاصة إلى المبالغة في مفهوم الذات لديه . فهذا المفهوم هو محصلة لإدراكات هذا الشخص وصفاته وقدراته ودوافعه واتجاهاته . وحين يدرك نفسه في علاقاته مع الآخرين وعندما يتقبل ذلك وتنتظم داخل نفسه الشعورية وينتج عنها أو يصاحبها شعور بالراحة والخلو من التوتر .
حينئذ يقال أن هذا الفرد لديه تكيف نفسي. وعموما فإن هناك ميل لدى أصحاب الاحتياجات الخاصة إلى المبالغة في مفهوم الذات لديهم وتقدير النجاح وأحيانا عدم الواقعية . ويختلف هذا المفهوم باختلاف نوعية الشخص ومستواه الفكري والعقلي والجنس وكذلك باختلاف المواقف الاجتماعية ذاتها . ويشير عديد من العلماء إلى أن تقدير الذات لدى المتخلفين ذهنيا يتجه إما إلى المبالغة أو التحقير. وكلاهما له أثره في عدم مواجهة المواقف بطريقة واقعية الأمر الذي قد يؤدي إلى التعرض المستمر للفشل : ( رحم الله امرئ عرف قدر نفسه ) .
إن من مترتبات هذه الأنماط السلوكية ميل هؤلاء إلى الانعزال في مجال الدراسة عن باقي الزملاء مما يؤدي إلى مشكلات واضطرابات في العلاقات الاجتماعية بينه وبين الآخرين وفي عمليات التوازن الاجتماعي والعاطفي خاصة لدى الأطفال الصغار . ويمكن مواجهة ذلك عن طريق إدماجهم اجتماعيا بشكل تدريجي بحسب الجو أو المناخ الذي يسمح به المجال الدراسي العام. وإشراكهم في الأنشطة وتعويدهم على اكتساب المهارات وتحمل بعض المسؤوليات . وتدريبهم على الاندماج ورفع مستوى مشاركتهم وشعورهم بأنهم أفراد عاديون . وللأسرة هنا وخلفيتها الاجتماعية والاقتصادية دور كبير في رفع مستواهم . كما يمكن تخفيف مشاعر الإحباط لديهم بمساعدتهم على تحقيق التعويض ومن ثمة النجاح في سبل الدراسة والحياة . ومن أكثر المشكلات التي ينبغي مواجهتها هنا وأكثرها وضوحا مشكلة الجمود أو النشاط الزائد - hyperactivity - . فقد تبدو لديهم اضطرابات في الوظائف الإدراكية وزيادة في الحركة . وقد تبين أن هذه السلوكيات المتصفة بالجمود والنشاط الزائد متباينة باختلاف نوع الإعاقة ونوع الشخص وعمليات تكوينه النفسي والاجتماعي والمواقف التي يتعرض لها . ومن السلوكيات المرتبطة بذلك سلوك المداومة والإصرار على التكرار بالرغم من تغير المثير . وتفسر هذه الظاهرة على أساس الرغبة في تكرار سلوك قد أدى إلى نجاح في خبرة سابقة . وقد أظهرت نتائج العديد من الدراسات أن نسبة الاضطرابات العاطفية لدى المعاقين أعلى بكثير من الأفراد العاديين . فعلى سبيل المثال تبين أن هناك ازدياد في نسبة الحالات السيكوباتية بين المتخلفين عقليا .
لقد حدث تغير جذري خلال نصف القرن الأخير من خلال نظرة المجتمع إلى الإعاقة وأصبحت هناك برامج ذات كفاءات مناسبة لرفع مستوى هؤلاء الأشخاص عقليا وتعليميا وتأهيلهم اجتماعيا وشخصيا . ومن ناحية أخرى فقد تطورت البحوث النفسية ونتائجها حيث وضعت أسس ومعايير أكثر دقة في استخلاص العينات وتفسير النتائج وضمان عدم التحيز فيها . مما أدى إلى الأثر الكبير في دراسات الجناح المضاد للمجتمع بين الأشخاص المعاقين ونتائجها . وقد تبين منها أن انخفاض مستوى الخدمات والبرامج لهذه الفئة من الناس وتدني مستوى الرعاية لها أكبر الأثر في تفريخ وإنتاج الأنماط السلوكية المضادة للمجتمع . يدعمها انخفاض مستوى المعيشة وانتشار أوكار اللصوص والعصابات والأفاقين التي تستخدم البعض منهم كأدوات لها . وهناك تفاعل سلبي ناشئ عن الآثار السلبية الإعاقة مع الجوانب الاجتماعية السلبية من فقر ونقص في الإشراف والتدريب والبرامج الاجتماعية وعدم الاكتراث الاجتماعي أو النظرة الدونية من قبل الآخرين وسوء المعاملة بالإضافة إلى العوامل الاجتماعية السالبة الأخرى من التصدع الأسرى والطلاق وغياب الأب وسوء المعاملة الأسرية . وكذلك فإن من الأسباب المؤثرة سلبا في وجود هذه الأنماط دخول الطفل إلى مؤسسات اجتماعية بشكل يعد تخلصا منه ومن مشاكله السلوكية والانحرافية وعدم قدرته على السيطرة عليه . وبالرغم من ذلك فقد نجحت العديد من هذه المؤسسات رغم ضعف مستواها وإمكانياتها في تطوير خدماتها وإشرافها ورفع مستوى العديد من الحالات لديها وتأهيلها مهنيا واجتماعيا . لقد تبين أن نسبة التكيف المهني والاجتماعي لأصحاب هذه الحاجات تزداد إذا ما تلقوا تدريبا في فصولهم الخاصة . ويمكنهم أن يقوموا بأعمال أكثر صعوبة وأدوارا أكثر تألقا ونجاحا اجتماعيا وشخصيا. وذلك من خلال عمليات الإشراف والتوجيه الاجتماعي والأسري والمهني وتسهيل حصولهم على الأعمال والبقاء فيها وازدياد فترات التعليم والتدريب فيها . كل ذلك له أثره في رفع مستواهم ومستوى الصحة النفسية لديهم . إن مساعدة هؤلاء الأشخاص على التكيف مع أنفسهم ومع مجتمعاتهم وبيئاتهم واكتساب احترامهم لأنفسهم لهو أمر عظيم وله أجر كبير من الله وأثر بالغ الأهمية في المجتمعات المختلفة .
ولا يصل هؤلاء الأشخاص إلى مستويات جيدة من الصحة النفسية إلا من خلال برنامج مبكر يشرف عليه أخصائيون يؤدون عملهم ويدركون الفوائد التي تحقق من خلال انتشال هؤلاء الأفراد من الأنماط السلوكية والشخصية السالبة . وبناء شخصياتهم بشكل إيجابي وتنمية عوامل ومهارات اجتماعية إيجابية لديهم . والتأكيد على فرص النجاح الشخصي والاجتماعي لهم . ويكون ذلك من خلال تقبل الإعاقة أو الاحتياجات الخاصة والتكيف معها إيجابيا وتجاوزها إلى المواجهة الإيجابية مع الذات وتجاوز الإحساس المفرط بالدونية والحساسية في التعامل معها ومع الآخرين والانتصار لذلك من خلال تحقيق الأهداف الشخصية والاجتماعية المرجوة . ولابد من التأكيد على دور الاجتماعي والثقافي والأسري في الاهتمام برفع مستوى هؤلاء الأفراد ومساندتهم دون مبالغة ولا إفراط ولا تفريط . ولابد من اختفاء النظرة إلى الإعاقة باعتبارها وصمة sigma في جبين الأسرة. ولا باعتبارها مرض disease . ولكن تكون النظرة الإيجابية إليها باعتبارها ابتلاء واختبار من الله يتطلب منا الصبر والتكاتف والتعاون والرضا والكفاح الدائم لتحقيق الهدف الأسمى للجميع . ولا بد من وجود فريق عمل متكامل يشمل الأخصائي النفسي والاجتماعي والأسري والطبيب وأخصائي في أمراض الكلام والسمع والبصر وكذلك المدرس في تشخيص جوانب الإعاقة ودرجاتها . إن تحري الدقة في التشخيص يفرضه أكثر من اعتبار واحد فالقرار الذي يتخذ يحدد من خلاله مصير الطفل الشخصي ومستقبله ومن ثمة أهميته في تقرير مصيره المستقبلي . ولابد من مراعاة الفروق الفردية في نوع ودرجة الإعاقة والعوامل المسببة لها ومن ثم كيفية التعامل مع كل حالة وفقا لذلك . إن تلافي أسباب الإعاقة أو التقليل منها وهو العامل الوقائي له أهمية كبيرة في هذا الصدد . وعلينا مراعاة الفروق الفردية وفقا لذلك في أسباب الإعاقة ونوعها وأن نخفف من آثارها وعلاجها إذا ما حدثت والتدخل المبكر لتلافي استفحال الحالة . وتدهورها أو حدوث آثار سلبية ناشئة عن الإهمال وسوء التشخيص والتأخر في العلاج . وفي النهاية لابد من أن يكون هناك دور توعوي لمؤسسات رعاية الأسرة ومنها مراكز التنمية الأسرية ورعايتها وذلك بالتوعية بأسباب الإعاقة وتلافي حدوثها . مثال توعية الأم الحامل بالآثار النفسية والصدمات على حدوث الإعاقة لدى الجنين . وكيفية التعامل مع هؤلاء الأشخاص ومساعدتهم على رفع مستوياتهم النفسية وكفاءاتهم الاجتماعية وتوفير فرص الحياة الكريمة لهم .