د. أحمد بيطار .
قلبت الدراسات الحديثة كل مفاهيمنا عن الذاكرة. إذ تعتمد ذكرياتنا على خمسة أنظمة أساسية لخزن المعلومات تستخدمة بنى مخية مختلفة. مما يفترض معه تلاشي وزوال الإستراتيجيات المعتمدة سابقا في تأهيل المصابين بضعف الذاكرة. ما أكثر الكتب والمقالات ومواقع الأنترنت التي تقدم النصائح بغية تحسين ذاكرتنا التي أصبحت، كما يقال نائمة ويجب إيقاظها. كيف؟ بكل بساطة بتشغيلها. في الحقيقة فإن تذكر أسماء أشخاص معروفين أو عدم التمكن من متابعة محادثة ما أو نسيان المواعيد، هي مسائل من طبيعة مختلفة وتحتاج لاستراتيجيات نوعية مختلفة حسب كل منها، ولن تغير تمارين الفيديو المخصصة للذاكرة أو التمرن على تذكر قوائم من الكلمات شيئا. إذ أنه (حسب رأي البروفسور Van Der Linden أستاذ العلوم العصبية في جامعتي جنيف ولييج والمدير العلمي لمركز العلوم العصبية النفسية في لييج)، لا يوجد طريقة خارقة يمكنا أن تجابه الشكاوي المختلفة الناتجة عن اضطرابات وضعف الذاكرة والزعم بأنه يمكن تدريب الذاكرة كعضلة يعد من أنواع الدجل. في عام 1995 اقترح الباحث الكندي E. Tulving من جامعة تورنتو وجود خمسة أنظمة رئيسة للذاكرة. الأربعة الأولى منها تتلخص بالذاكرة البعيدة والخامس مختص بالذاكرة القريبة:
ذاكرة الوقائع EPISODIC،
ذاكرة الاستدلال SEMANTIC،
ذاكرة الاجرءات PROCEDURAL،
ذاكرة أنظمة التمثيل الحسي
PRS : PERCEPTIVE REPRESENTATION SYSTEMS
وأخيرا ذاكرة العمل القريبة WORKING MEMORY .
حسب تولفينغ تقوم ذاكرة الوقائع بإدراك وخزن مشهد أو واقعة من الحياة الشخصية ( يوم الثلاثاء الماضي تناولت طعام الغداء مع أخي في المطعم الهندي حيث كان الطقس حارا) وتشكل هذه الذاكرة أساس حياتنا الشخصية وتؤدي إصابتها إلى النسيان العميق. ذاكرة الاستدلال تفيد في اكتساب المعارف العامة عن العالم وبفضلها نعرف أن باريس هي عاصمة فرنسا وأن غاندي هو زعيم الحركة السلمية في الهند، وكذلك فإن الخطوات المتبعة عند دخول المطعم هي الجلوس على المائدة ثم اسشارة قائمة الأطباق الموجودة ثم دفع الحساب. وفوق ذلك فان هذه الذاكرة تتضمن خارطة إدراكية للأماكن المعروفة من مدن وأحياء وبيوت الخ .. عندما تنسخ سكرتيرة نصا على الآلة الكاتبة فإن أصابعها تتوضع تلقائيا على الحروف وكذلك الأمر فإن قدم السائق المتدرب تدفع دعاسة الأمبرياج بشكل آلي عند كل تبديل للسرعة. هذه الإجراءات تعود إلى النظام الذاكري الثالث : الذاكرة الإجرائية التي تختزن المعلومات المكتسبة بالتدريب والتي لايمكن أظهارها إلا بالقيام بفعل ما إن كان حركيا كالركوب على الدراجة أو إدراكيا كالقيام بعمليات ذهنية حسابية بسيطة. وكمثال آخر: الموسيقيون يدركون ما يفعلون ولكن لا يدركون كيف يفعلون. الجزء الرابع من مركب الذاكرة المعقد هو ما يسمى أنظمة تمثيل الإدراك الحسية وتتعلق وظيفتها بتخزين شكل وقوام الأجسام المحسوسة وكذلك الوجوه والكلمات بغض النظر عما تعني. أخيرا فإن ذاكرة العمل القريبة تقوم بالاحتفاظ بكمية قليلة من المعلومات بشكل مؤقت سهل التناول أثناء تنفيذ العمليات الفكرية المختلفة إذ يستحيل بدونها متابعة محادثة ما أو إجراء عمليات الحساب الذهني. وهكذا فإننا عندما نجمع رقمين ذهنيا نحتاج الى إبقائهما حاضرين في الذهن أثناء استخدام العمليات الإدراكية المناسبة للحساب الجاري. حسب رأي Alain BADDELY رئيس قسم العلوم العصبية النفسية في جامعة بريستول فان ذاكرة العمل تخضع لتوزع تدرجي : حيث يوجد في أعلى الهرم إداري مركزي (مدير الانتباه) يقوم بدور رئيس الأوركسترا. فهو يدير في مثال الحساب الذهني سير العمليات الحسابية. في المقابل، وبسبب الإمكانات المحدودة، فهو لا يستطيع الإدارة والتخزين في آن معاً وبالتالي فإنه يعتمد على أنظمة تابعة له بشكل مطلق من أجل عمليات التخزين المؤقت للمعلومات.
حاليا فإن هذا النموذج لايحتوي إلا على نظامين من هذا النوع :
• السجل البصري الفراغي Visuo-Spatial Pad من أجل الصور الفراغية الذهنية.
• الدارة الصوتية Phonologic Loop من أجل الكلمات الملفوظة.
ولكن يمكن التصور أن هناك أنظمة أخرى من الطبيعة نفسها تتعلق مثلا بالمعلومات الحركية. حسب نظرية بادلي Baddeley هذا فإن الدارة الصوتية تحتوي على مركبتين أساسيتين: الأولى هي المخزون الصوتي الذي يحتفظ بالمعلومات خلال عدة ثوان والثانية هي آلية التكرار اللفظي Rehearsal التي تقوم بتكرار المعاني ITEMS بشكل مستمر لكي تكون جاهزة في الوقت اللازم.
إثبات بالنسيان .. يستنبط مفهوم الذاكرة المتعددة أساسا من الآليات الإمراضية، ويعتمد بالتحديد على ملاحظة المرضى المصابين بأذيات مخية ثم تصور النماذج النظرية بناء على ذلك.
يهتم البروفسور Linden خاصة بالمصابين بالنسيان العميق أو بما يسمى النسيان التدريجي. حيث أن الإصابة الهامة عندهم تمس ذاكرة الوقائع والتي تحدث تالية لأسباب متنوعة منها الرض على الرأس، والعته التنكسي، والتهاب المخ بالحمات الراشحة، والحوادث الوعائية الدماغية، وأورام المخ، والتهاب السحايا، والتسمم بغاز الفحم .. الخ مثال بسيط يوضح هذا النوع من الإصابات : إذا أعطينا المصاب عدة وجبات بفاصلة عدة دقائق فإنه لن يقول أنه شبعان ولكن سيقول لست جائعا اليوم. في الوقت نفسه هؤلاء المصابون قادرون تماما على المشاركة في محادثة ما برغم من أنهم ينسون تماماً محدثهم والمحادثة التي جرت معه بعد عدة ثوان من مشاركتهم بموضوع آخر. هذا النسيان العميق لا يمنع المصاب من تعلم تجميع شكل معقد Puzzle وبسرعة توازي سرعة الشخص الطبيعي وذلك بالتمرين والتكرار. ذلك لأنه يستخدم في هذه الحالة نظام ذاكري آخر وهو نظام ذاكرة الإجراءات المستقلة عن ذاكرة الوقائع المصابة.
توضعات مخية . أظهرت الدراسات الوظيفية المخية أن ذاكرة الوقائع لا تعتمد فقط على تلفيف حصان البحر في الفص الصدغي كما كان يعتقد سابقا وإنما على شبكة واسعة تتضمن المناطق المخية الخلفية من المخ (الفصوص الجدارية والصدغية والقفوية) وكذلك الجبهية من كلي نصفي الكرتين المخيتين وهذا ما يزيد نسبة احتمال تعرضها للإصابة أينما كانت الإصابة في المخ.
أما مراكز الأنظمة الذاكرية الأخرى فتبدو أكثر تحددا ولذا فإن احتمال تعرضها للإصابة أقل. نذكر القارئ المهتم أن ذاكرة الاستدلال وذاكرة التمثيل الحسي تبدوان محدودتين بالمناطق الصدغية الجدارية القفوية بينما تعتمد ذاكرة الإجراءات على الجسم المخطط الذي يصاب بشكل رئيسي عند مرضى الباركنسون وهذا ما يفسر الصعوبات التي يتعرض لها هؤلاء في اكتساب مهارات جديدة.
ذاكرة قريبة وذاكرة بعيدة . تظهر الدراسات أن المناطق المخية التي تدير ذاكرة العمل القريبة تختلف عن تلك المسئولة عن النماذج الأخرى المتعلقة بالذاكرة البعيدة. الأمر الذي يطرح السؤال التالي: هل تحتاج عمليات الاستذكار البعيد إلى المرور بمرحلة ذاكرة العمل القريبة (حسب المفهوم الذي كان سائدا حتى نهاية السبعينات)؟ أم يمكن خزن المعلومات في الذاكرة البعيدة دون مرورها في الذاكرة القريبة ؟ بعبارة أخرى هل تعتبر الذاكرة القريبة مرحلة لا بد منها لخزن المعلومات بشكل بعيد أم أنه من الممكن تواجد ذاكرة قريبة مصابة بجانب ذاكرة بعيدة سليمة أو بالعكس؟ أثبتت الأبحاث الحديثة أن الذاكرة البعيدة يمكن أن تبقى سليمة بجانب ذاكرة قريبة مصابة بشكل عميق. وتذكر شخص ما بعد ثلاثة أيام ممكن عند نفس المصاب الذي يستحيل عليه أربعة أرقام ذكرت أمامه منذ لحظات. كذلك فإن ضرورة مرور المعلومات من خلال الذاكرة القريبة إلى الذاكرة البعيدة تعتمد على نوع المعلومات بالذات إذ أنه يمكن تخزين كلمات جديدة من اللغة المألوفة للشخص في الذاكرة البعيدة مباشرة مع كون ذاكرة العمل القريبة مصابة. أما حفظ المفردات غير ا لمألوفة فيجب أن يمر عن طريق الذاكرة القريبة. وهكذا فإن مفهوم الذاكرة الموزعة إلى وحدات مختصة وإمكانية استخدام السليمة منها في حالة إصابة بعضها الآخر أصبح يمثل الأسس الحديثة في مراكز التأهيل للمصابين باضطرابات الذاكرة. فقد عالج فريق البروفسور Linden شابة موظفة في بنك، أصيبت باضطرابات في ذاكرة الوقائع إثر إصابتها بحادث وعائي دماغي بحيث لم تعد تستطيع تذكر أي تعليمات جديدة أعطيت لها شفهيا، أو الغرض المقصود من محادثة ما، أو أسماء الزبائن الجدد.
خلال الاختبار الفاحص ظهر أن إصابتها تتوضع في مرحلة الترميز وخزن المعلومات وليس في مستوى استعادتها. وحيث أن ذاكرتها الوقائعية غير الصوتية كانت سليمة فإن إعادة تأهيلها كان يعتمد على الترسيخ في ذهنها استراتيجيات تذكارية تعتمد على صور ذهنية تتناسب مع ظروف الحياة اليومية. بعبارة أخرى لم تعد المرآة الشابة بحاجة إلى ترميز المعلومات بشكل صوتي VERBAL ولكن بشكل صور ذهنية. حاليا، وبعد كثير من الجهود المبذولة من قبل فريق المعالجة وبمساعدة عائلتها، نجحت الشابة المصابة في تحويل ما اكتسبته من جلسات التدريب لاستعماله في حياتها اليومية. وهكذا فقد استعادت فاعلية جديرة بالملاحظة على المستوى الوظيفي واستطاعت العودة إلى البنك.
بالطبع في حالات أخرى، يمكن أن تكون الإصابة في الناحية البصرية من الذاكرة وفي مثل هذا الظرف فإن إعادة التأهيل تستخدم أسلوب الآليات الذاكرية الشفوية (VERBAL) مركزة على استعمال القافية و السجع أو أيضا على دمج المعلومات التي لها علاقة بالموضوع داخل قصة أو رواية تستخدم كقرينة مذكرة في سياق التصرف. عادة فإن قدر المصابين بالنسيان العميق هو أن تهتم بهم عائلاتهم أو المشافي النفسية. غير أنه من خلال استعمال مفهوم الذاكرة المتعددة فإن الأمل في استعادتهم لاستقلالهم الذاتي أصبح حقيقيا. كيف ؟ أولا بقبولهم فكرة ضياع ذاكرتهم الوقائعية بشكل نهائي ثم استغلال الأنظمة الذاكرية الأخرى المتبقية من ذاكرتهم البعيدة. حيث أصبح من الثابت أن الشخص المصاب بعجز كامل في الذاكرة الوقائعية يبقى قادرا على تخزين معارف جديدة معقدة تحتوي على أحداث ومفاهيم وعلاقات وإجراءات مختلفة. وهكذا فقد نجح فريق من العصبيين النفسيين في جامعتي لييج وبروكسل في تعليم معالجة النص في الكمبيوتر لشخص(A.C.)مصاب بنسيان عميق تال لرض على الرأس وذلك بطريقة الشرطية ( أي طريقة تنبيه – جواب أو منعكس بافلوف ) للاستفادة من الإمكانيات السليمة في ذاكرة الإجراءات عنده. وكذلك فقد استطاعوا بالاعتماد على ذاكرة الاستدلال عنده تعليمه مفردات جديدة تتعلق بالكمبيوتر. في الوقت الحاضر فإن A.C يعرف استخدام برنامج الكمبيوتر ويبين اصطلاحاته التقنية المتعلقة باستخدامه. ولكنه سيجهل دائما بواسطة أي عصا سحرية قد وصل إلى ذلك. تبقى حالة A.C استثنائية ولكن يمكن أن تنجح أيضا في حالات إصابات مخية مختلفة حيث أن خاصية الذاكرة المركبة تحمل لهم الأمل في استعادة أجزاء أخرى من الحرية.
المصدر : موقع طبيب الوب .