ألم النفس . . سامر سقا أميني . ـ دخلت سيدة إلى عيادتي لإجراء فحص «تخطيط جذع الدماغ» وذلك لشك بوجود ورم في رأسها على مستوى العصب السمعي. إن هذا الفحص يكشف وجود مثل هذا الورم، وبالتالي يضع الاستطباب لإجراء عمل جراحي كبير لاستئصال الورم. حاولت بكلام لطيف أن أمتص شيئاً من قلقها الكبير، ولكن كان من الطبيعي أن يتشبث الشحوب بوجهها، والخفقان بقلبها، والتشنج بمعدتها، أمام شك لوجود ورم في الرأس. وبعد أن استقرت السيدة على طاولة الفحص، وقمت بإيصال أشرطة الجهاز إلى محيط رأسها، بدأت الفحص مستعيناً بالله وراجياً منه أن لا يجعل خاتمة الاختبار حزناً وبكاءً وبأساً. وكلما مضى الوقت كانت نتائج الاختبار توحي أن الأمور طبيعية تماماً، حتى انتهى زمن الفحص وتأكدت النتيجة الطبيعية. أسرعت أزف البشرى إليها فلم أر فرحة تعلو وجهها، بل انقباضاً يشابه ذاك الذي كان في بداية الزيارة. فوجئت بهذا الارتكاس وكنت أظن أنها ستحمد الله مع ضحكة واسعة، وإذا بها عبوس متشنجة. حاولت أن أستفسر سبب هذا الارتكاس فكان الجواب التالي كما جاء على لسانها: «كنت أعمل موظفة في إحدى الدوائر الحكومية وكنت راضية بحياتي نسبياً. وفي أحد الأيام صدر قرار بفرزي لأعمل كمشرفة على روضة أطفال الأمهات الموظفات في هذه الدائرة، ومنذ ذلك اليوم انقلبت حياتي رأساً على عقب. فأنا أكره هذا العمل الجديد، وأمقته. أكره إطعامهم وتبديل ملابسهم . لا أحتمل الحياة في غرفة يبكي فيها عشرة أطفال في وقت واحد. وحاولت أن أنتقل من عملي هذا، ولكن لا جدوى فليست لدي واسطة. وبعد أسابيع قليلة بدأت أعاني من الكآبة والأرق من جراء العمل في هذا الجو الذي لا أطيقه، وعندما أصبت بصداع شديد مع طنين في الأذن اليمنى راجعت طبيب الشركة الذي حولني إلى طبيب اختصاصي في أمراض الأذن، وهذا الأخير أخبرني أنه يشك بوجود ورم صغير على مستوى العصب السمعي الأيمن ويحتاج إلى تخطيط جذع دماغ لإثبات أو نفي ذلك، وهكذا حولني إليك ووصلت عندك. ولا أكتمك أنني كنت في لا شعوري أتمنى أن تكون نتيجة تخطيطك ورماً في رأسي لعلهم بذلك يستجيبون لنداءاتي فينقلونني من مكان عملي الحالي أو يقيلوني وأستريح. أنا لا أملك واسطة، وكنت أظن أن الورم سيكون واسطتي لتبديل وضعي، فإذا بك تغتال أحلامي وتعيدني إلى نقطة الصفر. إذاً إن هذه السيدة ترى أن وجود الورم وما يستدعيه من فتح للرأس لاستئصاله أهون ألف مرة من معاناتها وكآبتها اليومية الناجمة عن عدم رضاها عن عملها وبالتالي عدم رضاها عن حياتها وذاتها. ـ آنسة لطيفة خفيفة الظل أصيبت منذ أربع سنوات بسرطان في الدم، وعانت ما عانت من تحمل جرعات العلاج الكيميائي وما يصاحبها من إقياءات وتساقط أشعار وآلام نفسية. وجهت وجهها لله وصبرت، فلم يخيب الله رجاءها فشفاها بعد سنتين من العلاج. تزوجت منذ سنة تقريباً، وكان زواجها مثقلاً بالمتاعب منذ بدايته حتى انتهى بالطلاق بعد عشرة أشهر. هذه السيدة تقسم الأيمان المغلظة أن معاناتها مع زوجها وأهله أصعب آلاف المرات من سرطان الدم ومعالجته. إنه مثال آخر على أن الألم النفسي قد يكون أشد وطأة من آلام الجسد. ـ أعرفها منذ أن كانت في المرحلة الابتدائية، وهي اليوم في الصف الثالث الثانوي، إنها طالبة، مجدة، اعتادت أن تكون الأولى في ترتيب صفها كل عام. إنها الآن ـ ومنذ بداية العام الدراسي ـ خائفة من امتحانات الثانوية العامة بما تحمله من تحديات تفوق طاقة معظم الطلاب، وتجعلهم يتيهون في أفكارهم يائسين منذ بداية السنة الدراسية. لقد سيطر الخوف عليها إلى درجة أنه منعها عن الدراسة والتركيز على الرغم من مرور شهرين على بداية الفصل الأول، ولا يزال القلق يكبّلها ويمنعها من إثبات ذاتها كطالبة مجدة خاضت تجارب عديدة مع الامتحانات وخرجت بنتائج مشرفة. ألا ترى معي أنه يمكن للخوف والقلق أن يمنعا الإنسان الاستفادة من مواهبه التي أنعم الله بها عليه. ـ عائلة مستورة سافر أحد أبنائها إلى استراليا لعله يجد مصدراً للرزق يستر به عائلته وأهله. الحزن لم يفارق قلب الأم منذ سفره، وكذلك فعل القلق مع قلب الأب، وكان الوالدان عندما يشتد الشوق بهما يوفران من طعامهما ليدخرا ثمن اتصال هاتفي مع ابنهما، وكانا يريان السعادة تبتسم لهما عندما يسمعان ولدهما يقول على الهاتف (حبيبتي ماما) و (أقبل يديك يا أبي). حقاً إن النوم ليلتين أو ثلاثاً دون عشاء هو ثمن ضئيل مقابل جمل الحب تلك. ولا شك أن قصة كهذه تدل على أن الحاجة العاطفية والإشباع الروحي يطغيان على الحاجات المادية في أحوال كثيرة. ـ بعد أن أنفق ثلاثين سنة من عمره في التدريس في المدارس الإعدادية، وادخر بشق الأنفس مبلغاً يسيراً من المال، أراد الذهاب إلى عمرة إلى بيت الله الحرام. قال له أصحابه معاتبين: أتنفق ادخار عمرك في العمرة، فأنت لا تكاد تسد رمقك؟ نظر إليهم بعينين دامعتين وقال: «إنني احتملت الوقوف ساعات طوالاً في التدريس، وادخرت الليرة فوق الليرة حتى وصلت إلى مبلغ الادخار المتواضع هذا، وكنت طوال حياتي أصبر نفسي عن زيارة البيت الحرام ومسجد رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، ولكن الآن وقد بدأت أخطو نحو أرذل العمر فإنني أخشى أن يمنعني مرض أو موت عن زيارة تلك البقاع. وها قد أكرمني الله بهذا المبلغ، فسأنفقه في سبيل الوصول إلى كعبة الله المشرفة والوقوف بين يدي الله لأشكره وأسأله الصبر والثبات والمغفرة. ثم سأنتقل ـ بإذن الله ـ إلى حبيبي المصطفى عليه الصلاة والسلام، فقد اشتد بي الشوق إلى لقائه، وسأقف أمام مقامه أناجيه لعله يذكرني بشفاعة يوم الدين». إنها قصة أخرى تثبت أن الحاجة الروحية والعاطفية تهزم الحاجة المادية في كثير من الأحوال. وخلاصة هذه القصص أن لا نحصر تفكيرنا في حوائج جسدنا المادية فقط، وأن لا نعتبر أن الألم هو ألم الجسد فقط، فقد تتعذب الروح وتتألم النفس أعظم من عذاب الجسد، وقد تشتد الحاجة الروحية والعاطفية إلى أن تطغى على حوائج الجسد المادية. وكم نتمنى أن يعتني الناسُ بعضهم ببعض روحياً وعاطفياً ونفسياً كما يعتنون في الملبس والمأكل والمشرب. يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران انهض إلى النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس قبل الجسم إنسان المصدر : الدورية الطبية العربية .
. سامر سقا أميني .
ـ دخلت سيدة إلى عيادتي لإجراء فحص «تخطيط جذع الدماغ» وذلك لشك بوجود ورم في رأسها على مستوى العصب السمعي. إن هذا الفحص يكشف وجود مثل هذا الورم، وبالتالي يضع الاستطباب لإجراء عمل جراحي كبير لاستئصال الورم. حاولت بكلام لطيف أن أمتص شيئاً من قلقها الكبير، ولكن كان من الطبيعي أن يتشبث الشحوب بوجهها، والخفقان بقلبها، والتشنج بمعدتها، أمام شك لوجود ورم في الرأس. وبعد أن استقرت السيدة على طاولة الفحص، وقمت بإيصال أشرطة الجهاز إلى محيط رأسها، بدأت الفحص مستعيناً بالله وراجياً منه أن لا يجعل خاتمة الاختبار حزناً وبكاءً وبأساً. وكلما مضى الوقت كانت نتائج الاختبار توحي أن الأمور طبيعية تماماً، حتى انتهى زمن الفحص وتأكدت النتيجة الطبيعية. أسرعت أزف البشرى إليها فلم أر فرحة تعلو وجهها، بل انقباضاً يشابه ذاك الذي كان في بداية الزيارة. فوجئت بهذا الارتكاس وكنت أظن أنها ستحمد الله مع ضحكة واسعة، وإذا بها عبوس متشنجة.
حاولت أن أستفسر سبب هذا الارتكاس فكان الجواب التالي كما جاء على لسانها: «كنت أعمل موظفة في إحدى الدوائر الحكومية وكنت راضية بحياتي نسبياً. وفي أحد الأيام صدر قرار بفرزي لأعمل كمشرفة على روضة أطفال الأمهات الموظفات في هذه الدائرة، ومنذ ذلك اليوم انقلبت حياتي رأساً على عقب.
فأنا أكره هذا العمل الجديد، وأمقته.
أكره إطعامهم وتبديل ملابسهم .
لا أحتمل الحياة في غرفة يبكي فيها عشرة أطفال في وقت واحد.
وحاولت أن أنتقل من عملي هذا، ولكن لا جدوى فليست لدي واسطة.
وبعد أسابيع قليلة بدأت أعاني من الكآبة والأرق من جراء العمل في هذا الجو الذي لا أطيقه، وعندما أصبت بصداع شديد مع طنين في الأذن اليمنى راجعت طبيب الشركة الذي حولني إلى طبيب اختصاصي في أمراض الأذن، وهذا الأخير أخبرني أنه يشك بوجود ورم صغير على مستوى العصب السمعي الأيمن ويحتاج إلى تخطيط جذع دماغ لإثبات أو نفي ذلك، وهكذا حولني إليك ووصلت عندك.
ولا أكتمك أنني كنت في لا شعوري أتمنى أن تكون نتيجة تخطيطك ورماً في رأسي لعلهم بذلك يستجيبون لنداءاتي فينقلونني من مكان عملي الحالي أو يقيلوني وأستريح. أنا لا أملك واسطة، وكنت أظن أن الورم سيكون واسطتي لتبديل وضعي، فإذا بك تغتال أحلامي وتعيدني إلى نقطة الصفر. إذاً إن هذه السيدة ترى أن وجود الورم وما يستدعيه من فتح للرأس لاستئصاله أهون ألف مرة من معاناتها وكآبتها اليومية الناجمة عن عدم رضاها عن عملها وبالتالي عدم رضاها عن حياتها وذاتها.
ـ آنسة لطيفة خفيفة الظل أصيبت منذ أربع سنوات بسرطان في الدم، وعانت ما عانت من تحمل جرعات العلاج الكيميائي وما يصاحبها من إقياءات وتساقط أشعار وآلام نفسية.
وجهت وجهها لله وصبرت، فلم يخيب الله رجاءها فشفاها بعد سنتين من العلاج.
تزوجت منذ سنة تقريباً، وكان زواجها مثقلاً بالمتاعب منذ بدايته حتى انتهى بالطلاق بعد عشرة أشهر.
هذه السيدة تقسم الأيمان المغلظة أن معاناتها مع زوجها وأهله أصعب آلاف المرات من سرطان الدم ومعالجته.
إنه مثال آخر على أن الألم النفسي قد يكون أشد وطأة من آلام الجسد.
ـ أعرفها منذ أن كانت في المرحلة الابتدائية، وهي اليوم في الصف الثالث الثانوي، إنها طالبة، مجدة، اعتادت أن تكون الأولى في ترتيب صفها كل عام. إنها الآن ـ ومنذ بداية العام الدراسي ـ خائفة من امتحانات الثانوية العامة بما تحمله من تحديات تفوق طاقة معظم الطلاب، وتجعلهم يتيهون في أفكارهم يائسين منذ بداية السنة الدراسية.
لقد سيطر الخوف عليها إلى درجة أنه منعها عن الدراسة والتركيز على الرغم من مرور شهرين على بداية الفصل الأول، ولا يزال القلق يكبّلها ويمنعها من إثبات ذاتها كطالبة مجدة خاضت تجارب عديدة مع الامتحانات وخرجت بنتائج مشرفة. ألا ترى معي أنه يمكن للخوف والقلق أن يمنعا الإنسان الاستفادة من مواهبه التي أنعم الله بها عليه.
ـ عائلة مستورة سافر أحد أبنائها إلى استراليا لعله يجد مصدراً للرزق يستر به عائلته وأهله. الحزن لم يفارق قلب الأم منذ سفره، وكذلك فعل القلق مع قلب الأب، وكان الوالدان عندما يشتد الشوق بهما يوفران من طعامهما ليدخرا ثمن اتصال هاتفي مع ابنهما، وكانا يريان السعادة تبتسم لهما عندما يسمعان ولدهما يقول على الهاتف (حبيبتي ماما) و (أقبل يديك يا أبي).
حقاً إن النوم ليلتين أو ثلاثاً دون عشاء هو ثمن ضئيل مقابل جمل الحب تلك. ولا شك أن قصة كهذه تدل على أن الحاجة العاطفية والإشباع الروحي يطغيان على الحاجات المادية في أحوال كثيرة.
ـ بعد أن أنفق ثلاثين سنة من عمره في التدريس في المدارس الإعدادية، وادخر بشق الأنفس مبلغاً يسيراً من المال، أراد الذهاب إلى عمرة إلى بيت الله الحرام. قال له أصحابه معاتبين: أتنفق ادخار عمرك في العمرة، فأنت لا تكاد تسد رمقك؟ نظر إليهم بعينين دامعتين وقال:
«إنني احتملت الوقوف ساعات طوالاً في التدريس، وادخرت الليرة فوق الليرة حتى وصلت إلى مبلغ الادخار المتواضع هذا، وكنت طوال حياتي أصبر نفسي عن زيارة البيت الحرام ومسجد رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، ولكن الآن وقد بدأت أخطو نحو أرذل العمر فإنني أخشى أن يمنعني مرض أو موت عن زيارة تلك البقاع. وها قد أكرمني الله بهذا المبلغ، فسأنفقه في سبيل الوصول إلى كعبة الله المشرفة والوقوف بين يدي الله لأشكره وأسأله الصبر والثبات والمغفرة. ثم سأنتقل ـ بإذن الله ـ إلى حبيبي المصطفى عليه الصلاة والسلام، فقد اشتد بي الشوق إلى لقائه، وسأقف أمام مقامه أناجيه لعله يذكرني بشفاعة يوم الدين».
إنها قصة أخرى تثبت أن الحاجة الروحية والعاطفية تهزم الحاجة المادية في كثير من الأحوال. وخلاصة هذه القصص أن لا نحصر تفكيرنا في حوائج جسدنا المادية فقط، وأن لا نعتبر أن الألم هو ألم الجسد فقط، فقد تتعذب الروح وتتألم النفس أعظم من عذاب الجسد، وقد تشتد الحاجة الروحية والعاطفية إلى أن تطغى على حوائج الجسد المادية. وكم نتمنى أن يعتني الناسُ بعضهم ببعض روحياً وعاطفياً ونفسياً كما يعتنون في الملبس والمأكل والمشرب.
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران انهض إلى النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس قبل الجسم إنسان
المصدر : الدورية الطبية العربية .