الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعد:
· ففي قرن وبعض قرن وثب المسلمون وثبة ملأوا بها الأرض قوة وبأساً وعلماً ونوراً وهداية، فراضوا الأمم وهاضوا الممالك وركزوا ألويتهم في قلب آسيا وهامات أفريقية وأطراف أوربة، وتركوا دينهم وشرعهم ولغتهم وعملهم وأدبهم تدين لها القلوب وتتقلب بها الألسنة، وتحقق فيهم النموذج الفريد والمثال الأعلى للبشرية باعتبارهم (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: 110) بعد أن كانوا فرائق بدداً لا نظام ولا قوام ولا علم ولا شريعة.
· لقد قطع المسلمون تلك المرحلة التي سهم لها الدهر، ووجم لروعتها التاريخ، وهم يعرفون معالم طريق المجد ونهج السعادة في الدارين، وأمعنوا بكل ثقة في هذا السبيل مدفوعين بطاقة وقوة دافعة، فقد كانوا يدركون بكل دقة معالم الطريق، كأن معهم "خارطة" مفصلة أودعوها قوتهم العلمية، وكان الوقود الذي يتزودون به لبلوغ غايتهم "هو القوة العلمية" ولا حول ولا قوة إلا بالله.
· وذلك لأن هولاء المسلمين عرفوا أن نعيم الحياة في الدعوة إلى الله وذلك لما لها من فضل عظيم وشأن كريم، لذا فكان حرياً على كل مسلم أن ينفض عنه غبار الكسل ساعياً وراء هداية الخلق إلى الله ـ عز وجل ـ، أما رأيت ربعي بن عامر حينما أرسله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى رستم ملك الروم فقال له رستم: "من أنتم". فقال: "نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"، ولما رأينا حال أهل الإسلام وما هم عليه مما لا يحتاج إلى وصف رأينا أن نضع أنفسنا وإخواننا لكي ينهضوا لنصرة هذا الدين بالدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ فالدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ هي وظيفة المرسلين وأتباعهم ـ وهم خلفاء الرسل في أممهم ـ والناس تبع لهم، والله سبحانه قد أمر رسوله أن يُبلِّغ ما أنزل إليه، وضمن له حفظه وعصمته من الناس، وهكذا المبلغون عنه من أمته لهم من حفظ الله وعصمته إياهم بحسب قيامهم بدينه وتبليغهم له، وقد أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتبليغ عنه ولو آية، ودعا لمن بلغ عنه ولو حديثاً، وتبليغ سنته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو لأن هذا التبليغ يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم ـ جعلنا الله منهم بمنه وكرمه ـ وهم كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: "الحمد لله الذي امتن على العباد بان جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويبصرونهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله أهل العمى، كم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وضال تائه قد هدوه، بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، يقتلونهم في سالف الدهر وإلى يومنا هذا، فما نسيهم ربهم (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (مريم: 64) جعل قصصهم هدى، وأخبر عن حسن مقالتهم فلا تقصد عنهم فإنهم في منزلة رفيعة وإن أصابتهم الوضيعة.
· ويكفى في هذا قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلى ولمعاذ ـ رضي الله عنهما ـ "لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم"، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من دعا إلى هدى فأتبع عليه كان له مثل أجر من اتبعه على عمله إلى يوم القيامة".
·
فضل الدعوة إلى الله
* قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فيا رعاك الله:
اعلم إن الدعوة إلى الله أحسن كلمه تقال في الأرض وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء مع العمل الصالح الذي يصدق الكلمة ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات فتصبح الدعوة خالصة لله ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ، وما أروع ما قال ابن القيم رحمه الله " وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" ثم يقول " هو المؤمن: أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى من أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحاً في إجابته فهذا حبيب الله هذا ولى الله".
· وفى سورة العصر كفاية سطر واحد في القرآن فيه كفاية لأصحاب المنهج الصحيح، قال تعالى : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: 1-3).
· فكل واحد في خسر، كل إنسان في خسران إلا من كمل قوته العملية بالإيمان، وقوته العلمية بالعمل بطاعته، فهذا كماله في نفسه، ثم كمل غيره بوصيته له بذلك وأمره إياه به وبملاك ذلك كله وهو الصبر، فكمل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وكمل غيره بتعليمه إياه ذلك ووصيته بالصبر إليه.
· فالدعوة إلى الله سبيل النجاة لهذه الأمة إجمالاً، ولكل إنسان على التفصيل.
· قال تعالى: (قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً) (الجن: 22).
· فهذه القوله الرهيبة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي تملأ القلب بجدية هذا الأمر ـ أمر الرسالة والدعوة إلى الله تعالى ـ، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يؤمر بإعلان هذه الحقيقة الكبيرة (إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي ملجأ أو حماية إلا أن أبلغ هذا الأمر وأؤدى هذه الامانة، فهذا هو الملجأ الوحيد وهذه هي الإجارة المأمونة.
· فلتعلم يا حبيب الله أنها ليست تطوعاً يتقدم به صاحب الدعوة، إنما هو التكليف الجازم الصارم الذي لا مفر من أدائه، فالله ورائه وكفى به شرفاً.
كل الخير في الدعوة إلى الله تعالى
· قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110)، يقول الشيخ السعدي رحمه الله : "يمدح تعالى هذه الأمة ويخبر أنها التي أخرجها الله للناس وذلك بتكميلهم لأنفسهم بالإيمان المستلزم للقيام بكل ما أمر الله به وبتكميلهم لغيرهم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر المتضمن دعوة الخلق إلى الله وجهادهم على ذلك، وبذل المستطاع في ردهم عن ضلالتهم وغيهم وعصيانهم، فبهذا كانوا خير أمة أخرجت للناس، كما كانت الآية السابقة، وهى قوله: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (آل عمران: 104).
أمراً منه تعالى لهذه الأمة، والأمر قد يمتثله المأمور ويقوم به، وقد لا يقوم به، أخبر في هذه الآية أن الأمة قد قامت بما أمرها الله بالقيام به وامتثلت أمر ربها واستحقت الفضل على سائر الأمم.
· لذا فبالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تحصل خيرية هذه الأمة، والخير في كل مسلم بحسب دعوته إلى الله، فكن من أخيار هذه الأمة ولا تكن من غيرهم
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين