هناك حقيقة أولية ينبغي الإشارة إليها ألا وهي أن تعاليم الإسلام قد نزلت وفق العلم الرباني المحيط بجوانب النفس البشرية، والعلم بما ينفعها وما يضرها، وتصب كذلك هذه التشريعات في جانب المصلحة؛ لذا أسهب القرآن في التحذير من صديق السوء ومغبة مصاحبته، وجاءت هذه التحذيرات كأبلغ ما يكون، إذ جاءت في سياق الحديث عن أحداث يوم القيامة، وما يتخلله من مواطن الأسى والندم على ما كان.
وتغشاه الندم
قال تعالى: (( ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلًا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانًا خليلًا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولًا )).
فما أشدها من لحظات، تلك التي يقطع الندم فيها الأوصال، ويعصر فيها القلوب، ندم يحاصر صاحبه الذي أعرض عن سبيل النبي r، ولم يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وإنما سلم دينه لقرين سوء، أورده موارد الخسران.
(والظالم هنا عقبة بن أبي معيط، وكان صديقًا لأمية بن خلف الجمحي، وكان قد صنع وليمة فدعا إليها قريشًا، ودعا رسول الله r، فأبى أن يأتيه، إلا أن يسلم، وكره عقبة أن يتأخر عن طعامه من أشراف قريش أحد، فأسلم ونطق بالشهادتين، فأتاه رسول الله r وأكل من طعامه.
فعاتبه خليله أمية بن خلف، وكان غائبًا، فقال عقبة: رأيت عظيمًا ألا يحضر طعامي رجل من أشراف قريش، فقال له خليله: لا أرضى حتى ترجع وتبصق في وجهه، وتطأ عنقه، وتقول كيت وكيت، ففعل عدو الله ما أمره به خليله فأنزل الله عز وجل: (( ويوم يعض الظالم على يديه... )) ).
والآية كما ذكر ابن كثير وغيره عامة في كل ظالم.
ترانيم النجاة
وها هو القرآن ينقل إلينا مشهدًا من قلب الجنان، لأحد الفائزين الناجين، وهو يستعيد الذكريات فرحًا بفضل الله عليه، إذ نجاه من قرين سوء كاد أن يكبه في النار، لطالما اجتذبه يثنيه عن سلوك درب الاستقامة: (( فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، قال قائل منهم إني كان لي قرين، يقول أئنك لمن المصدقين، أئذا متنا وكنا ترابًا وعظامًا أئنا لمدينون، قال هل أنتم مطلعون، فاطلع فرآه في سواء الجحيم، قال تالله إن كدت لتردين، ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين )).
(لقد كان صاحبه وقرينه ذاك يكذب باليوم الآخر، ويسائله في دهشة: أهو من المصدقين بأنهم مبعوثون فمحاسبون بعد إذ هم تراب وعظام؟!
وبينما هو ماض في قصته يعرضها في سمره مع إخوانه، يخطر له أن يتفقد صاحبه وقرينه ذاك ليعرف مصيره، وهو يعرف بطبيعة الحال أنه قد صار إلى الجحيم، فيتطلع ويدعو إخوانه إلى التطلع معه:
قال: (( هل أنتم مطلعون؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم )).
عندئذ يتوجه إلى قرينه الذي وجده في وسط الجحيم، يتوجه إليه ليقول له: يا هذا؛ لقد كدت توردني موارد الردى بوسوستك، لولا أن الله قد أنعم علي، فعصمني من الاستماع إليك: (( قال تالله إن كدت لتردين، ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ))؛ أي: لكنت من الذين يساقون إلى الموقف وهم كارهون).
اللون الواحد
ويسجل القرآن المآلات الحتمية لتلك الصداقات الزائفة، والتي خلا أساسها من مادة التقوى، وأقيمت على شفا جرف هار، إنها نتيجة واحدة لهذا النمط من الصداقات: العداوة التي هي لون العلاقات الوحيد بين الأصدقاء حينذاك، يتبرأ الصاحب من صاحبه، يحمله المسؤوليات، ويلقي عليه التبعات، ويسعى للنجاة على أكتافه.
قال تعالى: (( الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ))، تأمل معي أيها الحبيب هذه الآية الكريمة وأمعن النظر تقف على حقيقة في غاية الخطورة، أتدري ما معنى "الخليل"؟
هو الذي أحبك وتحبه حبًا جمًا، حتى يتخلل حبه جميع البدن كما قال بشار: (قد تخللت مسلك الروح مني).
إذًا فهؤلاء الأصدقاء الذين يعادي بعضهم بعضًا يوم القيامة، كانت بينهم محبة ومودة في الدنيا، ومع ذلك كانت ثمار هذه الصداقات مُرة: عداوة وبغضاء، لا لشيء إلا لأنها لم تقم في الله وعلى طاعته، أظلتها الشهوات، والوقوع في المحرمات، والإغراق في التفاهات.
فلا يغتر الصديق ببريق هذه العلاقة وزخرفها؛ فإن إطارها زائف، ولا ينخدع بتلك المحبة ورؤيته الصدق فيها؛ فإنها ولا شك ستمسخ إلى عداوة معلنة.
وفي ختام الآية الكريمة يحدد القرآن وبحسم الهيئة الوحيدة المقبولة للصداقة، إنها تلك الصداقة التي نبتت في رياض التقوى، وسقيت بالمحبة في ذات الجليل واستوى زرعها على ساق الطاعة لله ورسوله r، وهو ما يفيده الاستثناء في قوله تعالى: (( إلا المتقين )).
قال صاحب الظلال: (وإن عداء الأخلاء لينبع من معين ودادهم، لقد كانوا في الحياة الدنيا يجتمعون على الشر، ويملي بعضهم لبعض في الضلال، فاليوم يتلاومون، واليوم يلقي بعضهم على بعض تبعة الضلال وعاقبة الشر، واليوم ينقلبون إلى خصوم يتلاحون، من حيث كانوا أخلاء يتناجون! (( إلا المتقين ))، فهؤلاء مودتهم باقية؛ فقد كان اجتماعهم على الهدى، وتناصحهم على الخير، وعاقبتهم إلى النجاة).
الأشباه والنظائر
ثم ها هو القرآن مرة أخرى يقرع أسماع الغافلين عن خطورة أصدقاء السوء ويتوعدهم، أتدري بم يتوعدهم؟
يتوعدهم بـ (( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ))، قال ابن عباس: (قرناءهم)، وقال: شريك عن سماك عن النعمان قال: سمعت عمر يقول: (( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ))، قال: (أشباههم، قال: يجيء صاحب الربا مع أصحاب الربا، وصاحب الزّنا مع أصحاب الزّنا، وصاحب الخمر مع أصحاب الخمر).
وفوج من مثل هذه الأفواج بعد هذا التزيل والتمايز، ألا تشم معي رائحة العقاب الأليم يحيق به في هذا الموقف؟ فما بالك وقد صرح القرآن بهذا (( فاهدوهم إلى صراط الجحيم )).
إنه لمشهد رهيب حقًا أن يرى المرء زمر الخير قد حُشرت ليس له بينهم مكان، بينما يرى نفسه بين أهل التفريط والإسراف، هذا في ذاته عذاب قبل العذاب.
أنوار السنة
وأما السنة باعتبارها وحيًا متممًا للقرآن وقسيمًا له في التشريع، فقد اعتنت بدورها بأمر الصحبة، وحذرت من مصاحبة رفقاء السوء.
يثير الانتباه
فبين النبي r ـ كما أسلفنا ـ حتمية تخلق الصديق بخلق صديقه، ولفت الأنظار إلى حسن اختيار الصحبة بقوله r (( الرجل على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل ))([1]).
ويعمق الإدراك
وضرب النبي r مثلًا بليغًا للرفيق الصالح ورفيق السوء فقال: (( إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء؛ كحامل المسك، ونافخ الكير: فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة ))([2]).
فأوضح r أن رفيق الخير لن يعدم الاستفادة منه من يجالسه، وأن رفيق السوء لن يسلم من شره وأذاه من يجالسه، فالجليس الصالح كحامل المسك يهدي إليك، أو تشتري منه، وأقل الأحوال أن تشم منه رائحة طيبة، فكذلك رفيق الخير إما أن يهديك إلى خير أو يحذرك من شر، أو على الأقل ستكتسب من مخالطته سمعة طيبة.
وجليس السوء كنافخ الخير إما أن يحرق ثيابك، وفي أقل الأحوال ستشم منه رائحة خبيثة، وكذلك جليس السوء إما أن يضر دينك وخلقك، وإما أن تكتسب من مخالطته سمعة سيئة.
ويحسم الأمور
ثم يوجه النبي r الأمر الصريح بحصر الصحبة في الأبرار دون الأشرار بقوله: (( لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي ))([3]).
ويستثير الفكر
ويمسك بمجامع التصور ويرسله إلى الدار الآخرة فيقول: (( المرء مع من أحب ))([4])؛ هذه الكلمات الوضيئة لسيد الثقلين r، تحمل المرء على الوقوف عند أعتابها، وتستثير فكره، ليسأل نفسه ويرغمها على الإجابة بتجرد وإنصاف وصدق:
يا نفس مع أي الفريقين تبغين عيشًا في الآخرة، أهل الصلاح، أم أهل الفساد والضلال؟
ثم يتبع السؤال آخر: يا نفس فإلى أي الفريقين ينتمي صاحبي وخليلي؟
ثم يهيب بنفسه: أن عرفت فالزمي.
ويسأل السلامة
أيها الحبيب: بحسبك من صديق السوء أن النبي r نفسه قد استعاذ منه، فلقد كان صلوات ربي وسلامه عليه يدعو ربه قائلًا: (( اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء، ومن ليلة السوء، ومن ساعة السوء، ومن صاحب السوء، ومن جار السوء في دار المقامة )) ( صححه الألباني في السلسلة الصحيحة).
أخي وحبيبي؛ أبلغت التقوى عندك حدًا تأمن به على نفسك ممن لم يأمن منه سيد البشر على نفسه! فاعتبروا يا أولي الأبصار.
السياج الرباني
أخي الحبيب؛ إن هذه التوصيات النبوية ذات حكم بليغة، وفوائد عظيمة، تحافظ على الفرد في إطار مراعاة مصلحة المجتمع.
ففيها أولًا ـ الحفاظ على مريد الاستقامة، بأمره باجتناب رفيق السوء، ومن ثم تهيئ الشريعة لباغي الاستقامة المناخ اللازم لسلوكها، وهذه من سمات الشريعة الغراء التي تربي المنتسبين إليها، وتحيطهم بسياج من الرعاية عظيم، ومن أجل الأمثلة على ذلك قاعدة سد الذرائع، التي يسد على الناس منافذ الشر بمنع ما قد يتوهم المرء بساطته وهوانه، وكذلك تحريم النظر فبه يتوصل إلى الوقوع في الزنا، وتحريم الغلو في الناس لأنه يوصل إلى الوقوع في الشرك وهكذا.
وفيها ثانيًا ـ ردع لصديق السوء المسرف وحمله على الاستقامة، فعندما يهجر ويدرك أن ذلك بسبب فساده وسوء خلقه، فمما لاشك فيه أن في ذلك رادعًا له وحملًا على سلوك درب الاستقامة.
فكم أثمرت هذه الوسيلة وكانت سببًا في صلاح وهداية المهجور، وانظر في قصة كعب ابن مالك t، لما تخلف عن الغزو مع رسول الله r، وجاءه يعتذر إليه، فأمر النبي r بهجره فهجره الناس، فكان ذلك معينًا له على حسن الأوبة والتوبة إلى الله تعالى.
وفيها ثالثًا ـ محاصرة المعاصي ومنع تمددها وانتشارها، حيث أنها تنشر بعدوى الخلة والمجالسة، وهو ما يتحقق معه إلف المعاصي وانسلاخ استقباحها، والمجاهرة بها، مما يكون في حد ذاته دعوة للآخرين لإتيانها.