بسم الله الرحمن الرحيم الصدق من الأخلاق الحميدة، وصفة من الصفات الجميلة، وهو أصل الإيمان وأساس النجاة من عذاب الواحد الديان، الصدق كالسيف إذا وضع على شيء قطعه، وإذا واجه باطلا صرعه، وإذا نطق به عاقل علت كلمته، وسمت محجته، الصدق مفتاح لجميع الأعمال الصالحة، والأحوال الإيمانية، وهو من أفضل أعمال القلوب بعد الإخلاص لله - تعالى -، يقول شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله تعالى - يوم قال "الصدق أساس الحسنات وجماعها، والكذب أساس السيئات ونظامها"[الفتاوى 20/74] نعم.. بالصدق تنال الحسنات، وترفع الدرجات، وتحط السيئات، وهو أساس قبول القربات والطاعات، وأصل يستلزم البر، وفي الحديث"عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر"[رواه البخاري] بالصدق يتميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران، وفي الحديث"آية المنافق ثلاث: إذ حدث كذب..."[رواه البخاري] أخي الكريم.. أختي الكريمة.. الصدق من أهم المطالب في هذه الحياة، لذا فهو منجاة، والطريق إليه صعب المنال، فلا يطيقه إلا أهل العزائم، ولا يصبر عليه إلا أصحاب الهمم، يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -"فحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي، لا يطيقه إلا أصحاب العزائم، فهم يتقلبون تحته تقلب الحامل بحمله الثقيل"[مدارج السالكين 2 / 276].ـ *حقيقة الصدق:ـ 1.اعلم رحمك الله أن حقيقة الصدق لا تعني الصدق في الأقوال وما يتضمن الأخبار فقط، بل مجاله ومفهومه أوسع من أن تحيط به هذه الدائرة، فهو أنواع ومجالاته كثيرة، فمن الصدق: صدق العبد في النية بأن تكون خالصة لله - تعالى - ابتغاء وجهه - سبحانه و تعالى -، لا تشوبها شائبة، ولا تداخلها خاطرة، فإن شابها شيء من حظوظ النفس وزينة الدنيا لم تكن خالصة.ـ 2.ومن الصدق: الصدق في الأعمال بأن يطابق قوله عمله، وباطنه ظاهره، وسريرته علانيته،"يا أيها الذين أمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"يقول يزيد الحارث - رحمه الله - تعالى -"إذا استوت سريرة العبد وعلانيته فذلك النصف، وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل، وإن كانت علا نيته أفضل من سريرته فذلك الجور"[إحياء علوم الدين للغزالي 4 / 598].ـ 3.ومن الصدق أيضا: الصدق في مقامات الدين، يقول الغزالي - رحمه الله - في كتابه الإحياء"وأعلى الدرجات وأعزها، الصدق في مقامات الدين، كالصدق في الخوف، والرجاء، والتعظيم، والزهد، والرضا، والتوكل، والحب، وسائر هذه الأمور"[4 / 598].ـ * مجالات الصدق:ـ 1.الصدق في الأقوال وهو: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها.ـ 2.الصدق في الأعمال وهو: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد.ـ 3.الصدق في الأحوال وهو: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوسع وبذل الطاقة [مدارج السالكين بتصرف 2/281].ـ *علامات الصدق:ـ 1.الإذعان للحق والتسليم له، فمن علامات الصادق أنه دائما للحق مذعن وللدين مقبل، فقط يتحرى الحقيقة في الأمر وصدق الله"وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم"ـ 2.إسرار الأعمال مخافة الظهور والشهرة للناس، فالعبد الصادق المخلص لربه هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس من أجل صلاح قلبه مع الله - عز وجل -، ولا يحب أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله.ـ 3.موافقة الباطن للظاهر والعكس، وهذا هو عمل السريرة، فمتى ما كانت موافقة للعلانية وهي مطابقة للسريرة، فهو صدق القلب في موافقة الجوارح.ـ 4.سلامة الصدر، فإذا كان الصدر خاليا والقلب سليما من الأمراض محبا لإخوانه، مجتنبا الظلم والبغي والعدوان، حريصا على العدل والنصح وتأليف القلوب، ساعيا في قضاء حاجاتهم، مستشعرا أفراحهم وأتراحهم، فحينها يكون العبد صادق القلب، سليم الصدر، مطمئن النفس، مستقر الحال.ـ 5.محاسبة النفس في الضراء والسراء، فالنفس بطبيعتها كثيرة التقلب والتلون، تؤثر فيها المؤثرات، وتعصف بها الأهواء والأدواء، أمارة بالسوء، تسير بصاحبها إلى الشر، فالصادق يوقفها عند حدها.. ويلجمها بلجام التقوى والخوف من الله، ويأطرها على الحق أطرا.ـ 6.كراهية الإطراء في المدح والثناء عليه، والمسلم الصادق يحذر على نفسه من الغرور والإعجاب ويوم سمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - رجلا يثني على رجل ويطريه في المدح قال"أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل"[رواه البخاري]. ـ * وسائل اكتساب الصدق:ـ 1.صحة المنهج وسلامة المعتقد، فإن أعظم ما يجلب الصدق، تحقيق التوحيد وتصحيح المعتقد، نعم..التوحيد الذي هو أشرف المقاصد وأجلى المحامد.ـ 2.الاستعداد والتأهب للقاء الله - تعالى - قولا وفعلا، فمتى ما أيقن العبد أنه ملاق ربه لا محالة، أظهر صدقه فيما يقول وفيما يعمل وفيما يعتقد، فيقبل على طاعة مولاه كما أمره ربه - عز وجل -، فيوقن بلقائه، ويثق بجزائه، ويبتغي رضاه.ـ 3.ملازمة المؤمنين الصادقين، ولذلك فإن العيش مع الإخوان الصادقين نعمة لا ينالها إلا كل سعيد، ومخالطتهم هنأ لا يحظى بها إلا كل موفق نبيه، بخلاف المنافقين الكذابين، فإنه لا يؤمن لهم جانب، ولا يطمئن إلى أقوالهم ولا يؤنس إلى أفعالهم.ـ 4.الانطراح بين يدي الله - عز وجل -، فالانكسار والانطراح بين يدي الله - تعالى - من أعظم العبادات وأجل القربات، يقول سهل بن عبد الله التستري - رحمه الله -"ليس بين العبد وبين ربه طريق أقرب إليه من الافتقار"[الفتاوى 10 / 108]ـ
5.تذكر الصدق وعاقبته الحميدة"ولا يزال الرجل يصدق يتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا"والله - عز وجل - يقول"ليجزي الصادقين بصدقهم".ـ *من ثمار الصدق:ـ 1.وعْد الله للصادقين بالفوز العظيم والأجر العميم"هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم".ـ 2.ثبات القلب وطمأنيته وسكونه فإن أحوج ما يكون إليه القلب في زمن الفتن والتقلبات ثباته على الحق، والتزامه للمنهج السوي والصراط المستقيم"يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ".ـ 3.التضحية في سبيل الله، فإن من تأمل سير أولئك الأعلام، الأئمة النبلاء، منذ بزوغ فجر الإسلام، ونور القرآن ورفع راية الإيمان، من الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة الأخيار، يرى حقيقة صدق التضحية في سبيل الله وإراقة الدم من أجل الله، بالنفس والولد والمال والجاه.ـ 4.إحياء روح المحبة والمودة بين الخلق، فالمجتمع المؤمن الصادق ينبع من جنباته مودة ورحمة وألفة وترابطا وتلاحما وتراحما لإخوانه المسلمين، بخلاف المجتمع الكاذب فلا يعيش أهله إلا بالحسد والظن السيئ والخداع والتناحر والتدابر، فترى التفكك في الروابط، والاختلاف في الصفوف، والتفرق بين الأسر. ـ 5.نزول البركة، فالبصدق تحل البركات، وتعم الخيرات، وتنزل الرحمات، فيكثر المال، ويصلح الولد، ويتبارك الوقت، وتجتمع الكلمة، ويلتم الشمل، وكل ذلك من بركة الصدق"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا، بورك لهما في بيعهما.."[رواه البخاري]ـ 6.حسن الخاتمة، فإن من أعظم السبل بعد الإيمان بالله - عز وجل - إلى حسن الخاتمة تحري الصدق في جميع الأمور حتى يلقى الله صادقا، فيوفيه أجره بغير حساب. وأخيرا.. فبالصدق تعلو منزلتك عند خالقك، ويشرف قدرك عند خلقه، وبالصدق يصفوا بالك، ويطيب عيشك، وينجيك من رجس الكذب، ويكسبك الثقة في النفس. ـ