لا تكن (دون كيشوت)
(دون كيشوت)...
رجل نحيف طويل، ناهز الخمسين من عمره، متوسط الحال، كان يعيش في إحدى قرى أسبانيا إبان القرن السادس عشر، وكان يقرأ كثيرًا في كتب الفروسية؛ حتى تصور نفسه فارسًا نبيلًا، يخرج للناس ليحررهم من الظلم ويعيد إليهم الأمان.
وأول المعارك التي سعى دون كيشوت إلى خوضها كانت ضد طواحين الهواء!! إذ توهم ـ ولم يكن قد تعامل معها من قبل أو حتى شاهد مثلها! ـ أنها شياطين ذات أذرع هائلة، واعتقد أنها مصدر الشر في الدنيا، فهاجمها ورشق فيها رمحه، فرفعته أذرعها في الفضاء ودارت به، ورمته أرضًا، فرضَّت عظامه.
ثم تجيء بعد ذلك معركة الأغنام الشهيرة؛ فلا يكاد (دون كيشوت) يبصر غبار قطيع من الأغنام يملأ الجو، حتى يخيل إليه أنه زحف جيش جرار، فيندفع بجواده ليخوض المعركة التي أتاحها له القدر؛ ليثبت فيها شجاعته ويخلد اسمه، وتنجلي المعركة عن قتل عدد من الأغنام، وعن سقوط (دون كيشوت) نفسه تحت وابل من أحجار الرعاة، يفقد فيها بعض ضروسه!!!
أكاد ألمح عزيزي الشاب سيلًا من الأسئلة يندفع إلى عقلك الآن، وتحتاج للإجابة الفورية عنها:
ما علاقتي أنا (بدون كيشوت) هذا؟ ما الذي يربط بيني وبينه؟
ثم ما العلاقة أساسًا بين (دون كيشوت) وبين موضوع الشهوة؟
والإجابة عزيزي الشاب ربما تكون مفاجئة لك، ولكنها فعلًا الحقيقة: فقصة صراع (دون كيشوت) مع طواحين الهواء ثم صراعه مع قطيع الأغنام، وهو يتوهم الأولى شيطانًا مريدًا، والثاني مجموعة من الفرسان؛ تشبه إلى حد كبير ـ إن لم تكن تتطابق ـ مع تعاملك أنت مع موضوع الشهوة!!
لا تتعجب ودعني أشرح لك...
توهم (دون كيشوت) أن طاحونة الهواء شيطان مريد؛ نتيجة للنظرة الخاطئة التي نظر بها إليها، والتي جاءت من قلة خبرته في التعامل معها، وأنت تتوهم أن الشهوة أيضًا وحش كبير؛ نتيجة للنظرة الخاطئة التي تنظر بها إليها، والتي جاءت أيضًا من قلة خبرتك في التعامل مع قضية الشهوة.
ومن ناحية أخرى، باءت كل محاولات (دون كيشوت) في التغلب على هذا الوحش بالفشل؛ لأنه في الحقيقة يصارع وهمًا ولا يصارع وحشًا.
وأنت أيضًا تبوء أغلب محاولاتك بالفشل في صراعك مع وهم الشهوة؛ لأنك تعتقد أنها وحش، ولكنها في الواقع ليست كذلك على الإطلاق.
وأخيرًا، لو تخيلنا أن (دون كيشوت) صحَّح نظرته ومفهومه عن طواحين الهواء؛ ألم يكن سهلًا أن يوقفها بذراع بسيط إذا أراد، بل وأن يستغلها أيضًا في توليد الطاقة، وبالتالي بدلًا من أن يحاربها، ينتفع بها؟
وكذلك أنت أيضًا عزيزي الشاب، إذا صححت مفهومك عن قضية الشهوة، وبدلًا من أن تحاربها وتحاول أن تقضي عليها؛ تستغلها للبناء، وتحولها إلى طاقة إيجابية تدفعك إلى مزيد من النجاح في دنياك وآخرتك؛ ألن يكون هذا أفضل لك ولمن حولك؟
عزيزي الشاب، نظرتك الخاطئة لقضية الشهوة؛ أدت بك في النهاية إلى أن تسيء التعامل معها، كما فعل (دون كيشوت) تماما مع طواحين الهواء.
فنحن الذين نُسيء التعامل مع الشهوة فنجعلها كالوحش، أو نحسن التعامل معها فتكون أمرًا عاديًا تتعامل معه كما تتعامل مع إحساسك بالجوع أو العطش، أو غيرها من الأمور الفطرية التي جبلنا عليها.
الشهوة ليست شرًا ولا غُولًا ولا وحشًا، إذا هاج حطم كل الحواجز والحدود، بل هو طاقة أودعها الله الجسد لتُصرَف في مصارفها؛ فتستقيم الحياة وتتزن.
عزيزي الشاب، هذه دعوة منا لك كي ندخل معًا إلى عالم الشهوة الغامض لنسبر أغواره، ونكتشف خفاياه، ونعينك بإذن الله على تجلية غموضه، نسير فيه معًا خطوة بخطوة نحو التحرر من وَهْم الشهوة كي نفهمها على حقيقتها؛ لتذوق عزيزي الشاب مشاعر جديدة رائعة تختلف عن الماضي القريب والبعيد.
مشاعر ما أجملها! وما أروعها! تلك التي أريدك أن تشعر بها وتراها بعين قلبك لا بعين عينك، بعد أن تنتهي من قراءة هذه الرسالة، وتعمل بما جاء فيها بإذن الله.
وها أنا أتخيل تلك المشاعر وقد ملأت قلبك، وسكنت سويداءه، وفاضت وانتشرت؛ لتغمر من حولك ما بين الطمأنينة وراحة البال، والعزة والقوة والنصر، والهدوء النفسي وصفاء الذهن وانشراح الصدر.
وما أروع الإمام ابن القيم رحمه الله حين عبر عن حالك، بعد أن تنتصر على أوهامك، ونفسك الأمارة بالسوء، وشيطانك:
( فهنالك السرور، والنعيم، واللذة، والبهجة، والفرح، وقرة العين، وطيب الحياة، وانشراح الصدر، والفوز بالغنائم ).
فهيا بنا معًا عزيزي الشاب، نركب معًا قارب الاستعانة؛ لنمخر به عباب بحر الشهوة المجهول، تدفعنا للأمام رياح العزيمة، ويوجهنا شراع النصح في الله، حتى نصل لبر الأمان معًا في الدنيا ثم في الآخرة بإذن الله.