المفتاح 143للشاب

الناقل : heba | المصدر : www.almoustshar.com


 

المفتاح 143

لازمة الطريق:

أيها الفتى السالك درب النور، الطريق رحب يسع ذويك، فأمسك بلجم جيادهم، واحذر صيحة منك تنفرها، فإن كان فاقترب منها، وتحمل ما يؤذيك من رهج سنابكها، وامسح بالأعناق تأنس إليك، واستأنف بأحبتك المسير، واقطعه بحداء ونشيد، ترقب ثغورًا باسمة، وقلوبًا تهفو، وعيونًا تحنو، يغار منكم الود، وإذ بالربوة الخضراء تبرز من أغوار الأرض، فتفترشون بساطها الأخضر، تداعبكم نسمات الربيع، يشجي مسامعكم إيقاع السكون الرتيب، فتهمس في حنان: (أنتم مني وأنا منكم).

أنعش ذاكرتك:

هذه الحلقات أخاطب بها الشاب الملتزم، تهدف إلى تحقيق الاستقرار في محيطه الأسري، بإرشاده إلى كيفية التعامل مع كل ما من شأنه أن يضعف الرابطة بينه وبين أسرته، والانتقال كذلك بالأسرة إلى واقع أفضل عبر مراقي الالتزام.

وكانت (أواصر دامعة) لنتعرف على أسباب ضعف هذه الروابط بين بعض الشباب المقبلين على الالتزام وبين أهليهم، وذكرنا الأسس التي ينبغي أن يبني عليها الشاب تعاملاته مع أسرته، ثم جاءت (جسر من حرير) لتعرض مشكلة الغلو والتشدد والخلل المفاهيمي والسلوكي الذي يعتري بعض الشباب مع بداية التزامهم في نظرتهم إلى الدنيا وأمور المعاش والكسب، وتوهم الانفصال بين طريقي الدنيا والآخرة، وكذلك الأوهام التي يظنها البعض من مظاهر الالتزام وليست منه في شيء، ومدى تأثير هذا الخلل سلبًا على المحيط الأسري، ثم كانت هذه السطور بين أيدينا لمواجهة المشكلة السالفة وفتح ذلك الباب المغلق والدلوف إلى سعة الإسلام.

(مفتاح السعادة):

((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)) [البقرة:143]، هذا هو الكنز الثمين، هو المفتاح الذي أعنيه، إنها الوسطية أيها الحبيب، تلك السمة التي هي من خصائص هذه الأمة، ودعامة من دعائم هيمنتها وعالمية دعوتها.

(في رحاب الآية):

قال ابن كثير: (وقوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا))، الوسط هنا: الخيار والأجود؛ كما يُقال في قريش أوسط العرب نسبًا ودارًا أي خيرها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطًا في قومه أي أشرفهم نسبًا، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها) [تفسير ابن كثير، (1/454)]، وقال السعدي: (أي عدلًا خيارًا، وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة وسطًا في كل أمور الدين، وسطًا في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم كاليهود بأن آمنوا بهم كل على الوجه اللائق بذلك ووسطًا في الشريعة؛ لا تشديدات اليهود وآصارهم ولا تهاون النصارى.

وفي باب الطهارة والمطاعم لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم ولا يطهرهم الماء من النجاسات وقد حرمت عليهم طيبات عقوبة لهم، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئًا ولا يحرمون شيئًا بل أباحوا ما دب ودرج، بل طهارتهم ـ أي هذه الآمة ـ أكمل طهارة وأتمها، وأباح لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح، وحرم عليهم الخبائث من ذلك، فلهذه الأمة من الدين أكمله ومن الأخلاق أجلها ومن الأعمال أفضلها) [تفسير السعدي، (1/70)].

وبجمع النصوص الأخرى إلى هذه الآية الكريمة يتضح لنا أن كلمة (وسط) تدل على معاني: العدل والفضل والخيرية والنصف والبينية والتوسط بين طرفين والتوازن.

ولا يصح إطلاق مصطلح الوسطية إلا إذا توافرت فيه صفتان: الخيرية أو ما يدل عليها، والبينية سواء كانت حسية أو معنوية؛ فما اتصف بالخيرية والبينية صح وصفه بالوسطية، ويلاحظ أن كلا المعنيين (الخيرية والبينية) يستلزم كل منهما الآخر؛ حيث أن الخيرية لم تتصف بها الأمة إلا لقيامها بالعدل والقسط و(البينية) ولكونها وسطًا بين الغالي والجافي، وكذلك من قام بالعدل والقسط فهو أولى بصفة الخيرية.

(كل يدعي وصلًا بليلى):

إن مجرد إيراد هذا التعريف للوسطية لا يكفل ضبط تحديديها، إذ بالإمكان أن يدعي أصحاب الأهواء وأرباب الشهوات هذه الوسطية، وما أكثر الأدعياء الذين يرفعون ألوية الفضائل بينما واقعهم يجافيها فتتميع حقيقتها مع علو قدرها، لذلك فقد استلهم أهل العلم من ضوء الوحيين سمات الوسطية التي تضبط تعيينها وتحديدها ومن أهمها:

1- الخيرية: وقد تقدم تفسير ابن كثير للآية الكريمة بقوله: (الوسط هنا: الخيار والأجود)، وهذه الخيرية لها مقوماتها المتمثلة في قوله تعالى: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران:110]، فأول تلك المقومات الإيمان والذي يشتمل ـ عند إفراده ـ على أمور الاعتقاد الباطنة، وأعمال الجوارح الظاهرة؛ أي الدين كله، وهو اعتقاد وقول وعمل عند أهل السنة، وثانيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرع عن الإيمان وأثر من آثاره ولكنه قد أفرد لأهمية أثره المباشر في تحقيق خيرية الأمة، وهو كذلك سياج الإيمان وحمايته.

2- الاستقامة: وهي كما يعرفها الفاروق: (أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب) [مدارج السالكين، (2/104)]، وقال ابن القيم: (كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد) [مدارج السالكين، (2/105)] والاستقامة من ملامح الوسيطة لأن الانحراف يتمثل في الإفراط أو التفريط وهما ضد الاستقامة، ولا تعني الوسطية إطلاقًا التنازل وتمييع الأمور وإنما حقيقتها كما ذكرنا.

3- اليسر ورفع الحرج: اليسر: (هو ما يقدم عليه الإنسان من غير أن يلحقه مشقة زائدة، ومن غير أن يحتاج لبذل كل ما لديه من طاقة و مجهود)، ورفع الحرج: (هو رفع أو إزالة كل ما أدى إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال عن المكلف)، فقال تعالى: ((وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)) [الحج:78]، وقال أيضًا: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) [البقرة:186].

وقال رسول الله صلى لله عليه وسلم: ((إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا)) [رواه مسلم]، وقال للصحابيين: ((يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا)) [متفق عليه]، وقال: ((إن الله تعالى رضي لهذه الأمة اليسر، وكره لها العسر)) [صححه الألباني]، والنصوص مستفيضة في تقرير ذلك، فاليسر ورفع الحرج سمة لازمة للوسطية، وإدراك حقيقة الوسطية ينبني على مفهوم اليسر ورفع الحرج.

4- البينية: وذلك واضح في كل أمور الدين، فالصراط المستقيم بين صراطي المغضوب عليهم والضالين، وقال الشيخ السعدي: (وبالجملة فإن الله العليم الحكيم أمر بالتوسط في كل شيء بين خلقين ذميمين تفريط وإفراط، وقال: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)) [البقرة:143]) [الوسطية في ضوء القرآن الكريم، ناصر العمر، (1/135)].

5- العدل: وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر قوله تعالى ((أمة وسطا)) بقوله: ((عدولًا))، وإذا كانت الوسطية بينية فلابد لها من العدل في اختيار الأمر الذي هو بين أمرين، قال القرطبي: (والوسط: العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها) [تفسير القرطبي، (2/153)]، والانحراف إلى أحد الطرفين خروج عن حقيقة العدل؛ ومن ثم فهو خروج عن الوسطية.

6- الحكمة: فالوسطية أمر نسبي يخضع تحديده لعدة عوامل لابد من مراعاتها، ولا يتحقق ذلك إلا بالحكمة، قال السعدي: (الحكمة هي العلوم النافعة، والمعارف الصائبة، والعقول المسددة، والألباب الرزينة، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال) [الوسطية في ضوء القرآن الكريم، (1/141)]، ثم قال: (وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة التي هي وضع الأشياء مواضعها وتنزيل الأمور منازلها والأقدام في محل الإقدام و الأحجام في موضع الأحجام) [الوسطية في ضوء القرآن الكريم، (1/141)]، ومن كلام السعدي ندرك العلاقة بين الحكمة والوسطية.

(قبس من نور النبوة):

قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)) [رواه البخاري]، هذا الحديث يضبط بعضًا من معالم الوسطية يجلي لنا ذلك د. سلمان العودة، إذ يقول: (فوصف الدين باليسر؛ لنجد أن من معالم الوسطية التيسير؛ لأنه هو الذي يستوعب الناس، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فسددوا))، فيه المطالبة بسداد عين الشيء وعين الحق إشارة إلى التزام النص الشرعي وجعله مصدرًا للعلم وعدم الأخذ بنص والمبالغة فيه على حساب نص آخر، بل الوسطية في ذلك، ((وقاربوا)) بمعنى القرب من الصواب، إشارة إلى قصور العقل البشري عن إدراك كل الحق والصواب، فطلب الكمال المطلق والمطالبة به يناقض الوسطية، فالوسطية ممنوحة لمن يسدد الهدف تمامًا أو يقاربه بما أوتي من قدرة.

((وأبشروا)) إشاعة لروح الاستبشار في معنى الوسطية وعدم التنفير والمبالغة في التخويف والترهيب، ((واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)) إرشاد للاستعانة بما تيسر في إشارة إلى معنى التعددية والسعة؛ لأن القدرات تختلف، وهذا يؤصل أن الوسطية ليست لونًا واحدًا أو منهجًا محدد المعالم في كل دقيق وجليل، بحيث لا يمكن لأحد أن يخالفها أو يختلف فيها، وإنما هي إطار واسع وجمعية تحتوي أطيافًا ملونة ضمن ضوابط وأصول شرعية معتبرة).

منهج شامل:

(وهذه الوسطية التي تميز الإسلام ليست محصورة في جزئية من الجزيئات، ولا في ركن من الأركان، وإنما هي منهج شامل متكامل لا ينفصل بعضه عن بعض، فما تأملت في أي جانب من جوانب هذا الدين، سواء كان صغيرًا أم كبيرًا إلا وترى بجلاء معنى الوسطية فيه، بل إن الإسلام يعلمنا التوسط والاعتدال حتى في مشاعرنا؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أحب حبيبك هونًا ما؛ عسى أن يكون بغيضك يومًا مًا، وأبغض بغيضك هونًا ما؛ عسى أن يكون حبيبك يومًا ما)) [قال الألباني: صح مرفوعًا]، فهي إذًا منهج شامل يشمل العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاقيات والسلوكيات والحكم علي الناس إنها وصف لازم لدين الإسلام لا ينفك عنه).

فماذا بعد الحق الا الضلال:

تقتضي الوسطية أن يكون هناك طرفان مذمومان، أحدهما غلو وإفراط والثاني تضيع وتفريط، يقول ابن القيم: (وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان منه نزعتان؛ إما إلى تفريط وإما إلى مجاوزة وهي الإفراط، ولا يبالي بأيهما ظفر زيادة أو نقصان) [مدارج السالكين، (2/108)]، (والغلو: المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد، وحقيقة مبالغة في الالتزام في الدين وليس خروجًا عنه في الأصل، ويكون متعلقًا بفقه النصوص أو الأحكام أو الحكم على الآخرين، وكما يكون فعلًا فإنه يكون تركًا كترك النوم وتحريم الطيبات، وليس منه طلب الكمال من العبادة بل هو تجاوز الأكمل إلى المشقة).

وله مظاهر كثيرة منها المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك واجب، والاهتمام بالفروع على حساب الأصول ـ  وإن كان الواجب الاهتمام بهما معًا ـ وإلزام جمهور الناس بما لم يلزمهم به الله والتشديد في غير محله ونحو ذلك.

وأما التضييع والتفريط والتقصير فمنشؤه التساهل والتهاون في الغالب، وهو عين العجز والكسل، ويدل على غفلة عن الآخرة، وصوره كثيرة كتضييع الواجبات وترك إنكار المنكرات ونحوه.

وأن هذا صراطي مستقيمًا:

(وهو الطريق الواضح دين الله الذي لا اعوجاج فيه، والصراط المستقيم يدل على الوسطية بمفهومها الشرعي الاصطلاحي، فجعل الله تعالى في سورة الفاتحة الصراط المستقيم طريقًا وسطًا بين طريقين؛ طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين، فالصراط المستقيم هو أعلى درجات الوسطية.

أخي الحبيب: أراك تتهم قلمي بأنه قد حاد عن الإطار المرسوم لهذه الحلقات، واستغرق في الحديث عن الوسطية، فلتعلم أني أردت تأصيل معاني وملامح الوسطية في حسك أولًا ثم نربط بين هذا الأساس وبين مظاهر الغلو والتشديد الذي ينتاب بعض الشباب مع بداية الالتزام، ويكون له أثره علي الأجواء الأسرية، وكيف نعالج في ظل الوسطية هذه الآفة، ولكنه حديث آخر فانتظرني في (انسيابية الحياة).

أهم المصادر:

1- وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا، عبد العزيز بن ناصر الجليل.

2- الوسطية في ضوء القرآن الكريم، ناصر العمر.

3- الوسطية في القرآن، علي الصلابي.

4- وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا، هشام مصطفى عبد العزيز.

5- الوسطية من أبرز خصائص الأمة، عبد الحكيم بلال.

6- مقالة (الوسطية)، سلمان العودة.