تفسير بن كثير - سورة البقرة - الآية 265

الناقل : elmasry | المصدر : quran.al-islam.com

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ

القول في تأويل قوله تعالى : { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم } يعني بذلك جل ثناؤه : ومثل الذين ينفقون أموالهم فيصدقون بها ويحملون عليها في سبيل الله ويقوون بها أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين في سبيل الله وفي غير ذلك من طاعات الله طلب مرضاته . { وتثبيتا من أنفسهم } يعني بذلك : وتثبيتا لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله وتحقيقا , من قول القائل : ثبت فلانا في هذا الأمر : إذ صححت عزمه وحققته وقويت فيه رأيه أثبته تثبيتا , كما قال ابن رواحة : فثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا وإنما عنى الله جل وعز بذلك , أن أنفسهم كانت موقنة مصدقة بوعد الله إياها فيما أنفقت في طاعته بغير من ولا أذى , فثبتهم في إنفاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله , وصحح عزمهم وآراءهم يقينا منها بذلك , وتصديقا بوعد الله إياها ما وعدها . ولذلك قال من قال من أهل التأويل في قوله : { وتثبيتا } وتصديقا , ومن قال منهم ويقينا , لأن تثبيت أنفس المنفقين أموالهم ابتغاء مرضاة الله إياهم , إنما كان عن يقين منها وتصديق بوعد الله . ذكر من قال ذلك من أهل التأويل : 4747 - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا يحيى , قال : ثنا سفيان , عن أبي موسى , عن الشعبي : { وتثبيتا من أنفسهم } قال : تصديقا ويقينا . * - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا سفيان , عن أبي موسى , عن الشعبي : { وتثبيتا من أنفسهم } قال : وتصديقا من أنفسهم ثبات ونصرة . 4748 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { وتثبيتا من أنفسهم } قال : يقينا من أنفسهم . قال : التثبيت اليقين . 4749 - حدثني يونس , قال : ثنا علي بن معبد , عن أبي معاوية , عن إسماعيل , عن أبي صالح في قوله : { وتثبيتا من أنفسهم } يقول : يقينا من عند أنفسهم . وقال آخرون : معنى قوله : { وتثبيتا من أنفسهم } أنهم كانوا يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم . ذكر من قال ذلك : 4750 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا مؤمل , قال : ثنا سفيان , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { وتثبيتا من أنفسهم } قال : يتثبتون أين يضعون أموالهم . * - حدثني المثنى , قال : ثنا سويد بن نصر , قال : ثنا ابن المبارك , عن عثمان بن الأسود , عن مجاهد : { وتثبيتا من أنفسهم } فقلت له : ما ذلك التثبيت ؟ قال : يتثبتون أين يضعون أموالهم . * - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن عثمان بن الأسود , عن مجاهد : { وتثبيتا من أنفسهم } قال : كانوا يتثبتون أين يضعونها . 4751 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن علي بن علي بن رفاعة , عن الحسن في قوله : { وتثبيتا من أنفسهم } قال : كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم , يعني زكاتهم . 4752 - حدثني المثنى , قال : ثنا سويد , قال : ثنا ابن المبارك , عن علي بن علي , قال : سمعت الحسن قرأ : { ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم } قال : كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت , فإن كان لله مضى , وإن خالطه شك أمسك . وهذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن تأويل بعيد المعنى مما يدل عليه ظاهر التلاوة , وذلك أنهم تأولوا قوله : { وتثبيتا من أنفسهم } بمعنى : وتثبتا , فزعموا أن ذلك إنما قيل كذلك لأن القوم كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم . ولو كان التأويل كذلك , لكان : وتثبتا من أنفسهم ; لأن المصدر من الكلام إن كان على تفعلت التفعل , فيقال : تكرمت تكرما , وتكلمت تكلما , وكما قال جل ثناؤه : { أو يأخذهم على تخوف } 16 47 من قول القائل : تخوف فلان هذا الأمر تخوفا . فكذلك قوله : { وتثبيتا من أنفسهم } لو كان من تثبت القوم في وضع صدقاتهم مواضعها لكان الكلام : " وتثبتا من أنفسهم " , لا " وتثبيتا " , ولكن معنى ذلك ما قلنا من أنه وتثبيت من أنفس القوم إياهم بصحة العزم واليقين بوعد الله تعالى ذكره . فإن قال قائل : وما تنكر أن يكون ذلك نظير قول الله عز وجل : { وتبتل إليه تبتيلا } 73 8 ولم يقل : تبتلا ؟ قيل : إن هذا مخالف لذلك , وذلك أن هذا إنما جاز أن يقال فيه : " تبتيلا " لظهور " وتبتل إليه " , فكان في ظهوره دلالة على متروك من الكلام الذي منه قيل : تبتيلا , وذلك أن المتروك هو : " تبتل فيبتلك الله إليه تبتيلا " , وقد تفعل العرب مثل ذلك أحيانا تخرج المصادر على غير ألفاظ الأفعال التي تقدمتها إذا كانت الأفعال المتقدمة تدل على ما أخرجت منه , كما قال جل وعز : { والله أنبتكم من الأرض نباتا } 71 17 وقال : { وأنبتها نباتا حسنا } 3 37 والنبات : مصدر نبت , وإنما جاز ذلك لمجيء أنبت قبله , فدل على المتروك الذي منه قيل نباتا , والمعنى : والله أنبتكم فنبتم من الأرض نباتا . وليس قوله : { وتثبيتا من أنفسهم } كلاما يجوز أن يكون متوهما به أنه معدول عن بنائه . ومعنى الكلام : ويتثبتون في وضع الصدقات مواضعها , فيصرف إلى المعاني التي صرف إليها قوله : { وتبتل إليه تبتيلا } وما أشبه ذلك من المصادر المعدولة عن الأفعال التي هي ظاهرة قبلها . وقال آخرون : معنى قوله : { وتثبيتا من أنفسهم } احتسابا من أنفسهم . ذكر من قال ذلك : 4753 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { وتثبيتا من أنفسهم } يقول : احتسابا من أنفسهم . وهذا القول أيضا بعيد المعنى من معنى التثبيت , لأن التثبيت لا يعرف في شيء من الكلام بمعنى الاحتساب , إلا أن يكون أراد مفسره كذلك أن أنفس المنفقين كانت محتسبة في تثبيتها أصحابها . فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام , فليس الاحتساب بمعنى حينئذ للتثبيت فيترجم عنه به .

كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ

القول في تأويل قوله تعالى : { كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل } يعني بذلك جل وعز : ومثل الذين ينفقون أموالهم , فيتصدقون بها , ويسبلونها في طاعة الله بغير من على من تصدقوا بها عليه ولا أذى منهم لهم بها ابتغاء رضوان الله وتصديقا من أنفسهم بوعده , { كمثل جنة } والجنة : البستان . وقد دللنا فيما مضى على أن الجنة البستان بما فيه الكفاية من إعادته . { بربوة } والربوة من الأرض : ما نشز منها فارتفع عن السيل . وإنما وصفها بذلك جل ثناؤه , لأن ما ارتفع عن المسايل والأودية أغلظ , وجنان ما غلظ من الأرض أحسن وأزكى ثمرا وغرسا وزرعا مما رق منها , ولذلك قال أعشى بني ثعلبة في وصف روضة : ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها مسبل هطل فوصفها بأنها من رياض الحزن , لأن الحزون : غرسها ونباتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها . وفي الربوة لغات ثلاث , وقد قرأ بكل لغة منهن جماعة من القراء , وهي " ربوة " بضم الراء , وبها قرأت عامة قراء أهل المدينة والحجاز والعراق . و " ربوة " بفتح الراء , وبها قرأ بعض أهل الشام , وبعض أهل الكوفة , ويقال إنها لغة لتميم . و " ربوة " بكسر الراء , وبها قرأ فيما ذكر ابن عباس . وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتين : إما بفتح الراء , وإما بضمها , لأن قراءة الناس في أمصارهم بإحداهما . وأنا لقراءتها بضمها أشد إيثارا مني بفتحها , لأنها أشهر اللغتين في العرب ; فأما الكسر فإن في رفض القراءة به دلالة واضحة على أن القراءة به غير جائزة . وإنما سميت الربوة لأنها ربت فغلظت وعلت , من قول القائل : ربا هذا الشيء يربو : إذا انفتح فعظم . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 4754 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قوله : { كمثل جنة بربوة } قال : الربوة : المكان الظاهر المستوي . * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , قال : قال مجاهد : هي الأرض المستوية المرتفعة . 4755 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { كمثل جنة بربوة } يقولا : بنشز من الأرض . 4756 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا أبو زهير , عن جويبر , عن الضحاك : { كمثل جنة بربوة } والربوة : المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار والذي فيه الجنان . 4757 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي قوله : { بربوة } برابية من الأرض . 4758 - حدثنا عن عمار , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { كمثل جنة بربوة } والربوة النشز من الأرض . 4759 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , قال : قال ابن جريج , قال ابن عباس : { كمثل جنة بربوة } قال : المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار . وكان آخرون يقولون : هي المستوية . ذكر من قال ذلك : 4760 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن الحسن في قوله : { كمثل جنة بربوة } قال : هي الأرض المستوية التي تعلو فوق المياه . وأما قوله : { أصابها وابل } فإنه يعني جل ثناؤه أصاب الجنة التي بالربوة من الأرض وابل من المطر , وهو الشديد العظيم القطر منه . وقوله : { فآتت أكلها ضعفين } فإنه يعني الجنة أنها أضعف ثمرها ضعفين حين أصابها الوابل من المطر , والأكل : هو الشيء المأكول , وهو مثل الرعب والهزء وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي على فعل ; وأما المأكول بفتح الألف وتسكين الكاف , فهو فعل الآكل , يقال منه : أكلت أكلا , وأكلت أكلة واحدة , كما قال الشاعر : وما أكلة أكلتها بغنيمة ولا جوعة إن جعتها بغرام ففتح الألف لأنها بمعنى الفعل . ويدلك على أن ذلك كذلك قوله : " ولا جوعة " , وإن ضمت الألف من " الأكلة " كان معناه : الطعام الذي أكلته , فيكون معنى ذلك حينئذ : ما طعام أكلته بغنيمة . وأما قوله : { فإن لم يصبها وابل فطل } فإن الطل : هو الندى واللين من المطر . كما : 4761 - حدثنا عباس بن محمد , قال : ثنا حجاج , قال : قال ابن جريج : { فطل } ندى . عن عطاء الخراساني , عن ابن عباس . 4762 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : أما الطل : فالندى . 4763 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { فإن لم يصبها وابل فطل } أي طش . 4764 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا أبو زهير , عن جويبر , عن الضحاك : { فطل } قال : الطل : الرذاذ من المطر , يعني اللين منه . 4765 - حدثت عن عمار , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { فطل } أي طش . وإنما يعني تعالى ذكره بهذا المثل كما أضعفت ثمرة هذه الجنة التي وصفت صفتها حين جاد الوابل فإن أخطأ هذا الوابل فالطل كذلك يضعف الله صدقة المتصدق والمنفق ماله ابتغاء مرضاته وتثبيتا من نفسه من غير من ولا أذى , قلت نفقته أو كثرت لا تخيب ولا تخلف نفقته , كما تضعف الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها قل ما أصابها من المطر أو كثر لا يخلف خيرها بحال من الأحوال . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 4766 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي قوله : { فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل } يقول : كما أضعفت ثمرة تلك الجنة , فكذلك تضاعف ثمرة هذا المنفق ضعفين . 4767 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل } هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن , يقول : ليس لخيره خلف , كما ليس لخير هذه الجنة خلف على أي حال , إما وابل , وإما طل . 4768 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا أبو زهير , عن جويبر , عن الضحاك , قال : هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله . 4769 - حدثت عن عمار , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قوله : { الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله } . الآية , قال : هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن . فإن قال قائل : وكيف قيل : { فإن لم يصبها وابل فطل } وهذا خبر عن أمر قد مضى ؟ قيل : يراد فيه : كان , ومعنى الكلام : فآتت أكلها ضعفين , فإن لم يكن الوابل أصابها , أصابها طل , وذلك في الكلام نحو قول القائل : حبست فرسين , فإن لم أحبس اثنين فواحدا بقيمته , بمعنى : إلا أكن , لا بد من إضمار " كان " , لأنه خبر ; ومنه قول الشاعر : إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تقري بها بدا

وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

القول في تأويل قوله تعالى : { والله بما تعملون بصير } . يعني بذلك : والله بما تعملون أيها الناس في نفقاتكم التي تنفقونها بصير , لا يخفى عليه منها ولا من أعمالكم فيها وفي غيرها شيء يعلم من المنفق منكم بالمن والأذى والمنفق ابتغاء مرضاة الله , وتثبيتا من نفسه , فيحصي عليكم حتى يجازي جميعكم جزاءه على عمله , إن خيرا فخيرا , وإن شرا فشرا . وإنما يعني بهذا القول جل ذكره , التحذير من عقابه في النفقات التي ينفقها عباده , وغير ذلك من الأعمال أن يأتي أحد من خلقه ما قد تقدم فيه بالنهي عنه , أو يفرط فيما قد أمر به , لأن ذلك بمرأى من الله ومسمع , يعلمه ويحصيه عليهم , وهو لخلقه بالمرصاد .