فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وزه هو والذين آمنوا معه " القول في تأويل قوله تعالى : { فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } وفي هذا الخبر من الله تعالى ذكره متروك قد استغني بدلالة ما ذكر عليه عن ذكره . ومعنى الكلام : إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين , فأتاهم التابوت فيه سكينة من ربهم , وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة , فصدقوا عند ذلك نبيهم , وأقروا بأن الله قد بعث طالوت ملكا عليهم , وأذعنوا له بذلك . يدل على ذلك قوله : { فلما فصل طالوت بالجنود } وما كان ليفصل بهم إلا بعد رضاهم به وتسليمهم الملك له , لأنه لم يكن ممن يقدرون على إكراههم على ذلك فيظن به أنه حملهم على ذلك كرها . وأما قوله : { فصل } فإنه يعني به شخص بالجند ورحل بهم . وأصل الفصل : القطع , يقال منه : فصل الرجل من موضع كذا وكذا , يعني به قطع ذلك , فجاوزه شاخصا إلى غيره , يفصل فصولا ; وفصل العظم والقول من غيره فهو يفصله فصلا : إذا قطعه فأبانه ; وفصل الصبي فصالا : إذا قطعه عن اللبن ; وقول فصل : يقطع فيفرق بين الحق والباطل لا يرد . وقيل : إن طالوت فصل بالجنود يومئذ من بيت المقدس وهم ثمانون ألف مقاتل , لم يتخلف من بني إسرائيل عن الفصول معه إلا ذو علة لعلته , أو كبير لهرمه , أو معذور لا طاقة له بالنهوض معه . ذكر من قال ذلك : 4451 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال : ثني بعض أهل العلم , عن وهب بن منبه , قال : خرج بهم طالوت حين استوثقوا له , ولم يتخلف عنه إلا كبير ذو علة , أو ضرير معذور , أو رجل في ضيعة لا بد له من تخلف فيها . 4452 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : لما جاءهم التابوت آمنوا بنبوة شمعون , وسلموا ملك طالوت , فخرجوا معه , وهم ثمانون ألفا . قال أبو جعفر : فلما فصل بهم طالوت على ما وصفنا قال : { إن الله مبتليكم بنهر } يقول : إن الله مختبركم بنهر , ليعلم كيف طاعتكم له . وقد دللنا على أن معنى الابتلاء : الاختبار فيما مضى بما أغنى عن إعادته . وبما قلنا في ذلك كان قتادة يقول . 4453 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة في قول الله تعالى : { إن الله مبتليكم بنهر } قال : إن الله يبتلي خلقه بما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه . وقيل : إن طالوت قال : { إن الله مبتليكم بنهر } لأنهم شكوا إلى طالوت قلة المياه بينهم وبين عدوهم , وسألوه أن يدعو الله لهم أن يجري بينهم وبين عدوهم نهرا , فقال لهم طالوت حينئذ ما أخبر عنه أنه قاله من قوله : { إن الله مبتليكم بنهر } ذكر من قال ذلك : 4454 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال : ثني بعض أهل العلم , عن وهب بن منبه , قال : لما فصل طالوت بالجنود , قالوا : إن المياه لا تحملنا , فادع الله لنا يجري لنا نهرا ! فقال لهم طالوت : { إن الله مبتليكم بنهر } الآية . والنهر الذي أخبرهم طالوت أن الله مبتليهم به قيل : هو نهر بين الأردن وفلسطين . ذكر من قال ذلك : 4455 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع , قال : { إن الله مبتليكم بنهر } قال الربيع : ذكر لنا والله أعلم أنه نهر بين الأردن وفلسطين . 4456 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { إن الله مبتليكم بنهر } قال : ذكر لنا أنه نهر بين الأردن وفلسطين . * حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة قوله : { إن الله مبتليكم بنهر } قال : هو نهر بين الأردن وفلسطين . 4457 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , عن ابن عباس : { فلما فصل طالوت بالجنود } غازيا إلى جالوت , قال طالوت لبني إسرائيل : { إن الله مبتليكم بنهر } قال : نهر بين فلسطين والأردن , نهر عذب الماء طيبه . وقال آخرون : بل هو نهر فلسطين . ذكر من قال ذلك : 4458 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس , قال : { إن الله مبتليكم بنهر } فالنهر الذي ابتلي به بنو إسرائيل نهر فلسطين . 4459 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { إن الله مبتليكم بنهر } هو نهر فلسطين . وأما قوله : { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم } فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن طالوت أنه قال لجنوده إذ شكوا إليه العطش , فأخبر أن الله مبتليهم بنهر , ثم أعلمهم أن الابتلاء الذي أخبرهم عن الله به من ذلك النهر , هو أن من شرب من مائه فليس هو منه , يعني بذلك أنه ليس من أهل ولايته وطاعته , ولا من المؤمنين بالله وبلقائه . ويدل على أن ذلك كذلك قول الله تعالى ذكره : { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } فأخرج من لم يجاوز النهر من الذين آمنوا . ثم أخلص ذكر المؤمنين بالله ولقائه عند دنوهم من جالوت وجنوده بقوله : { قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } وأخبرهم أنه من لم يطعمه , يعني من لم يطعم الماء من ذلك النهر والهاء في قوله : { فمن شرب منه } وفي قوله : { ومن لم يطعمه } عائدة على النهر , والمعنى لمائه . وإنما ترك ذكر الماء اكتفاء بفهم السامع بذكر النهر لذلك أن المراد به الماء الذي فيه ومعنى قوله : { لم يطعمه } لم يذقه , يعني : ومن لم يذق ماء ذلك النهر فهو مني , يقول : هو من أهل ولايتي وطاعتي والمؤمنين بالله وبلقائه . ثم استثنى من قوله : { ومن لم يطعمه } المغترفين بأيديهم غرفة , فقال : ومن لم يطعم ماء ذلك النهر إلا غرفة يغترفها بيده فإنه مني . ثم اختلفت القراء في قراءة قوله : { إلا من اغترف غرفة بيده } فقرأه عامة قراء أهل المدينة والبصرة : " غرفة " بنصب الغين من الغرفة , بمعنى الغرفة الواحدة , من قولك : اغترفت غرفة , والغرفة هي الفعل بعينه من الاغتراف . وقرأه آخرون بالضم , بمعنى : الماء الذي يصير في كف المغترف , فالغرفة الاسم , والغرفة المصدر . وأعجب القراءتين في ذلك إلي ضم الغين في الغرفة بمعنى : إلا من اغترف كفا من ماء , لاختلاف غرفة إذا فتحت غينها , وما هي له مصدر ; وذلك أن مصدر اغترف اغترافة , وإنما غرفة مصدر غرفت , فلما كانت غرفة مخالفة مصدر اغترف , كانت الغرفة التي بمعنى الاسم على ما قد وصفنا أشبه منها بالغرفة التي هي بمعنى الفعل وذكر لنا أن عامتهم شربوا من ذلك الماء , فكان من شرب منه عطش , ومن اغترف غرفة روي . ذكر من قال ذلك : 4460 - حدثني بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم } فشرب القوم على قدر يقينهم . أما الكفار فجعلوا يشربون فلا يروون , وأما المؤمنون فجعل الرجل يغترف غرفة بيده فتجزيه وترويه . * حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة : { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } قال : كان الكفار يشربون فلا يروون , وكان المسلمون يغترفون غرفة , فيجزيهم ذلك . 4461 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم } يعني المؤمنين منهم , وكان القوم كثيرا فشربوا منه إلا قليلا منهم , يعني المؤمنين منهم كان أحدهم يغترف الغرفة فيجزيه ذلك ويرويه . 4462 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : لما أصبح التابوت وما فيه في دار طالوت , آمنوا بنبوة شمعون , وسلموا ملك طالوت , فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا . وكان جالوت من أعظم الناس , وأشدهم بأسا , فخرج يسير بين يدي الجند , ولا تجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي . فلما خرجوا قال لهم طالوت : { إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني } فشربوا منه هيبة من جالوت , فعبر منهم أربعة آلاف , ورجع ستة وسبعون ألفا . فمن شرب منه عطش , ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي . 4463 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد : ألقى الله على لسان طالوت حين فصل بالجنود , فقال : لا يصحبني أحد إلا أحد له نية في الجهاد ! فلم يتخلف عنه مؤمن , ولم يتبعه منافق فلما رأى قلتهم , قالوا : لن نمس من هذا الماء غرفة ولا غيرها ! وذلك أنه قال لهم : { إن الله مبتليكم بنهر } الآية . فقالوا : لن نمس من هذا غرفة ولا غير غرفة ! قال : وأخذ البقية الغرفة , فشربوا منها حتى كفتهم , وفضل منهم . قال : والذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوها . 4464 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قال ابن عباس في قوله : { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } فشرب كل إنسان كقدر الذي في قلبه , فمن اغترف غرفة وأطاعه روي بطاعته , ومن شرب فأكثر عصى فلم يرو لمعصيته . 4465 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق في حديث ذكره , عن بعض أهل العلم , عن وهب بن منبه في قوله : { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } يقول الله تعالى ذكره : { فشربوا منه إلا قليلا منهم } وكان فيما يزعمون من تتابع منهم في الشرب الذي نهي عنه لم يروه , ومن لم يطعمه إلا كما أمر غرفة بيده أجزأه وكفاه . القول في تأويل قوله تعالى : { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } يعني تعالى ذكره بقوله : { فلما جاوزه هو } فلما جاوز النهر طالوت . والهاء في " جاوزه " عائدة على النهر , وهو كناية اسم طالوت . وقوله : { والذين آمنوا معه } يعني : وجاوز النهر معه الذين آمنوا . { قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } ثم اختلف في عدة من جاوز النهر معه يومئذ ومن قال منهم لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده , فقال بعضهم : كانت عدتهم عدة أهل بدر ثلثمائة رجل وبضعة عشر رجلا . ذكر من قال ذلك : 4466 - حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني , قال : ثنا مصعب بن المقدام , وحدثنا أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد الزبيري , قالا جميعا : ثنا إسرائيل , قال : ثنا أبو إسحاق , عن البراء بن عازب , قال : كنا نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا النهر معه , ولم يجز معه إلا مؤمن , ثلثمائة وبضعة عشر رجلا . * حدثنا أبو كريب , قال : ثنا أبو بكر , قال : ثنا أبو إسحاق , عن البراء , قال : كنا نتحدث أن أصحاب بدر يوم بدر كعدة أصحاب طالوت ثلثمائة رجل وثلاثة عشر رجلا الذين جاوزوا النهر . * حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا أبو عامر , قال : ثنا سفيان , عن أبي إسحاق , عن البراء , قال : كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر رجلا على عدة أصحاب طالوت من جاز معه , وما جاز معه إلا مؤمن . * حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن سفيان , عن أبي إسحاق , عن البراء بنحوه . * حدثنا ابن بشار , قال : ثنا مؤمل , قال : ثنا سفيان , عن أبي إسحاق , عن البراء , قال : كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر على عدة أصحاب طالوت يوم جاوزوا النهر , وما جاوز معه إلا مسلم . * حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا مسعر , عن أبي إسحاق , عن البراء مثله . 4467 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر : " أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي " , وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر رجلا . 4468 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع , قال : محص الله الذين آمنوا عند النهر وكانوا ثلثمائة , وفوق العشرة , ودون العشرين , فجاء داود صلى الله عليه وسلم فأكمل به العدة . وقال آخرون : بل جاوز معه النهر أربعة آلاف , وإنما خلص أهل الإيمان منهم من أهل الكفر والنفاق حين لقوا جالوت . ذكر من قال ذلك : 4469 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : عبر مع طالوت النهر من بني إسرائيل أربعة آلاف , فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه فنظروا إلى جالوت رجعوا أيضا وقالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ! فرجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون , وخلص في ثلثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر . 4470 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قال ابن عباس : لما جاوزه هو والذين آمنوا معه , قال الذين شربوا : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } وأولى القولين في ذلك بالصواب , ما روي عن ابن عباس وقاله السدي ; وهو أنه جاوز النهر مع طالوت المؤمن الذي لم يشرب من النهر إلا الغرفة , والكافر الذي شرب منه الكثير . ثم وقع التمييز بينهم بعد ذلك برؤية جالوت ولقائه , وانخزل عنه أهل الشرك والنفاق , وهم الذين قالوا : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } ومضى أهل البصيرة بأمر الله على بصائرهم , وهم أهل الثبات على الإيمان , فقالوا : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } فإن ظن ذو غفلة أنه غير جائز أن يكون جاوز النهر مع طالوت إلا أهل الإيمان الذين ثبتوا معه على إيمانهم , ومن لم يشرب من النهر إلا الغرفة , لأن الله تعالى ذكره قال : { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } فكان معلوما أنه لم يجاوز معه إلا أهل الإيمان , على ما روي به الخبر عن البراء بن عازب , ولأن أهل الكفر لو كانوا جاوزوا النهر كما جاوزه أهل الإيمان لما خص الله بالذكر في ذلك أهل الإيمان ; فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن . وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الفريقان , أعني فريق الإيمان وفريق الكفر جاوزوا النهر , وأخبر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم , عن المؤمنين بالمجاوزة , لأنهم كانوا من الذين جاوزوه مع ملكهم وترك ذكر أهل الكفر , وإن كانوا قد جاوزوا النهر مع المؤمنين . والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك قول الله تعالى ذكره : { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } فأوجب الله تعالى ذكره أن الذين يظنون أنهم ملاقو الله هم الذين قالوا عند مجاوزة النهر : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } دون غيرهم الذين لا يظنون أنهم ملاقو الله , وأن الذين لا يظنون أنهم ملاقو الله هم الذين قالوا : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } وغير جائز أن يضاف الإيمان إلى من جحد أنه ملاقي الله أو شك فيه . قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ القول في تأويل قوله تعالى : { قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } اختلف أهل التأويل في أمر هذين الفريقين , أعني القائلين : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } والقائلين : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } من هما . فقال بعضهم : الفريق الذين قالوا : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } هم أهل كفر بالله ونفاق , وليسوا ممن شهد قتال جالوت وجنوده , لأنهم انصرفوا عن طالوت ومن ثبت معه لقتال عدو الله جالوت ومن معه , وهم الذين عصوا أمر الله لشربهم من النهر . ذكر من قال ذلك : 4471 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي بذلك ; وهو قول ابن عباس . وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه آنفا . 4472 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج : { قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله } الذين اغترفوا وأطاعوا الذين مضوا مع طالوت المؤمنون , وجلس الذين شكوا . وقال آخرون : كلا الفريقين كان أهل إيمان , ولم يكن منهم أحد شرب من الماء إلا غرفة , بل كانوا جميعا أهل طاعة , ولكن بعضهم كان أصح يقينا من بعض , وهم الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } والآخرون كانوا أضعف يقينا , وهم الذين قالوا : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } ذكر من قال ذلك : 4473 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } ويكون المؤمنون بعضهم أفضل جدا وعزما من بعض , وهم مؤمنون كلهم . 4474 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } أن النبي قال لأصحابه يوم بدر : " أنتم بعدة أصحاب طالوت ثلثمائة " قال قتادة : وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر . 4475 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد : الذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوا , وهم الذين قالوا : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } ويجب على القول الذي روي عن البراء بن عازب أنه لم يجاوز النهر مع طالوت إلا عدة أصحاب بدر أن يكون كلا الفريقين اللذين وصفهما الله بما وصفهما به أمرهما على نحو ما قال فيهما قتادة وابن زيد . وأولى القولين في تأويل الآية ما قاله ابن عباس والسدي وابن جريج . وقد ذكرنا الحجة في ذلك فيما مضى قبل آنفا . وأما تأويل قوله : { قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله } فإنه يعني : قال الذين يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقو الله . 4476 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله } الذين يستيقنون . فتأويل الكلام : قال الذين يوقنون بالمعاد ويصدقون بالمرجع إلى الله للذين قالوا : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده كم من فئة قليلة } يعني بكم كثيرا غلبت فئة قليلة فئة كثيرة بإذن الله , يعني : بقضاء الله وقدره . { والله مع الصابرين } يقول : مع الحابسين أنفسهم على رضاه وطاعته . وقد أتينا على البيان عن وجوه الظن وأن أحد معانيه العلم اليقين بما يدل على صحة ذلك فيما مضى , فكرهنا إعادته . وأما الفئة فإنهم الجماعة من الناس لا واحد له من لفظه , وهو مثل الرهط والنفر جمعه فئات وفئون في الرفع وفئين في النصب والخفض بفتح نونها في كل حال , وفئين بالرفع بإعراب نونها بالرفع وترك الياء فيها , وفي النصب فئينا , وفي الخفض فئين , فيكون الإعراب في الخفض والنصب في نونها , وفي كل ذلك مقرة فيها الياء على حالها , فإن أضيفت , قيل : هؤلاء فئينك بإقرار النون وحذف التنوين , كما قال الذين لغتهم هذه سنين في جمع السنة هذه سنينك بإثبات النون وإعرابها , وحذف التنوين منها للإضافة , وكذلك العمل في كل منقوص , مثل مائة وثبة وقلة وعزة , فأما ما كان نقصه من أوله ; فإن جمعه بالتاء مثل عدة وعدات وصلة وصلات . وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وأما قوله : { والله مع الصابرين } فإنه يعني : والله معين الصابرين على الجهاد في سبيله وغير ذلك من طاعته , وظهورهم ونصرهم على أعدائه الصادين عن سبيله , المخالفين منهاج دينه . وكذلك يقال لكل معين رجلا على غيره هو معه بمعنى هو معه بالعون له والنصرة .
وزه هو والذين آمنوا معه " القول في تأويل قوله تعالى : { فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } وفي هذا الخبر من الله تعالى ذكره متروك قد استغني بدلالة ما ذكر عليه عن ذكره . ومعنى الكلام : إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين , فأتاهم التابوت فيه سكينة من ربهم , وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة , فصدقوا عند ذلك نبيهم , وأقروا بأن الله قد بعث طالوت ملكا عليهم , وأذعنوا له بذلك . يدل على ذلك قوله : { فلما فصل طالوت بالجنود } وما كان ليفصل بهم إلا بعد رضاهم به وتسليمهم الملك له , لأنه لم يكن ممن يقدرون على إكراههم على ذلك فيظن به أنه حملهم على ذلك كرها . وأما قوله : { فصل } فإنه يعني به شخص بالجند ورحل بهم . وأصل الفصل : القطع , يقال منه : فصل الرجل من موضع كذا وكذا , يعني به قطع ذلك , فجاوزه شاخصا إلى غيره , يفصل فصولا ; وفصل العظم والقول من غيره فهو يفصله فصلا : إذا قطعه فأبانه ; وفصل الصبي فصالا : إذا قطعه عن اللبن ; وقول فصل : يقطع فيفرق بين الحق والباطل لا يرد . وقيل : إن طالوت فصل بالجنود يومئذ من بيت المقدس وهم ثمانون ألف مقاتل , لم يتخلف من بني إسرائيل عن الفصول معه إلا ذو علة لعلته , أو كبير لهرمه , أو معذور لا طاقة له بالنهوض معه . ذكر من قال ذلك : 4451 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال : ثني بعض أهل العلم , عن وهب بن منبه , قال : خرج بهم طالوت حين استوثقوا له , ولم يتخلف عنه إلا كبير ذو علة , أو ضرير معذور , أو رجل في ضيعة لا بد له من تخلف فيها . 4452 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : لما جاءهم التابوت آمنوا بنبوة شمعون , وسلموا ملك طالوت , فخرجوا معه , وهم ثمانون ألفا . قال أبو جعفر : فلما فصل بهم طالوت على ما وصفنا قال : { إن الله مبتليكم بنهر } يقول : إن الله مختبركم بنهر , ليعلم كيف طاعتكم له . وقد دللنا على أن معنى الابتلاء : الاختبار فيما مضى بما أغنى عن إعادته . وبما قلنا في ذلك كان قتادة يقول . 4453 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة في قول الله تعالى : { إن الله مبتليكم بنهر } قال : إن الله يبتلي خلقه بما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه . وقيل : إن طالوت قال : { إن الله مبتليكم بنهر } لأنهم شكوا إلى طالوت قلة المياه بينهم وبين عدوهم , وسألوه أن يدعو الله لهم أن يجري بينهم وبين عدوهم نهرا , فقال لهم طالوت حينئذ ما أخبر عنه أنه قاله من قوله : { إن الله مبتليكم بنهر } ذكر من قال ذلك : 4454 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال : ثني بعض أهل العلم , عن وهب بن منبه , قال : لما فصل طالوت بالجنود , قالوا : إن المياه لا تحملنا , فادع الله لنا يجري لنا نهرا ! فقال لهم طالوت : { إن الله مبتليكم بنهر } الآية . والنهر الذي أخبرهم طالوت أن الله مبتليهم به قيل : هو نهر بين الأردن وفلسطين . ذكر من قال ذلك : 4455 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع , قال : { إن الله مبتليكم بنهر } قال الربيع : ذكر لنا والله أعلم أنه نهر بين الأردن وفلسطين . 4456 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { إن الله مبتليكم بنهر } قال : ذكر لنا أنه نهر بين الأردن وفلسطين . * حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة قوله : { إن الله مبتليكم بنهر } قال : هو نهر بين الأردن وفلسطين . 4457 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , عن ابن عباس : { فلما فصل طالوت بالجنود } غازيا إلى جالوت , قال طالوت لبني إسرائيل : { إن الله مبتليكم بنهر } قال : نهر بين فلسطين والأردن , نهر عذب الماء طيبه . وقال آخرون : بل هو نهر فلسطين . ذكر من قال ذلك : 4458 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس , قال : { إن الله مبتليكم بنهر } فالنهر الذي ابتلي به بنو إسرائيل نهر فلسطين . 4459 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { إن الله مبتليكم بنهر } هو نهر فلسطين . وأما قوله : { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم } فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن طالوت أنه قال لجنوده إذ شكوا إليه العطش , فأخبر أن الله مبتليهم بنهر , ثم أعلمهم أن الابتلاء الذي أخبرهم عن الله به من ذلك النهر , هو أن من شرب من مائه فليس هو منه , يعني بذلك أنه ليس من أهل ولايته وطاعته , ولا من المؤمنين بالله وبلقائه . ويدل على أن ذلك كذلك قول الله تعالى ذكره : { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } فأخرج من لم يجاوز النهر من الذين آمنوا . ثم أخلص ذكر المؤمنين بالله ولقائه عند دنوهم من جالوت وجنوده بقوله : { قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } وأخبرهم أنه من لم يطعمه , يعني من لم يطعم الماء من ذلك النهر والهاء في قوله : { فمن شرب منه } وفي قوله : { ومن لم يطعمه } عائدة على النهر , والمعنى لمائه . وإنما ترك ذكر الماء اكتفاء بفهم السامع بذكر النهر لذلك أن المراد به الماء الذي فيه ومعنى قوله : { لم يطعمه } لم يذقه , يعني : ومن لم يذق ماء ذلك النهر فهو مني , يقول : هو من أهل ولايتي وطاعتي والمؤمنين بالله وبلقائه . ثم استثنى من قوله : { ومن لم يطعمه } المغترفين بأيديهم غرفة , فقال : ومن لم يطعم ماء ذلك النهر إلا غرفة يغترفها بيده فإنه مني . ثم اختلفت القراء في قراءة قوله : { إلا من اغترف غرفة بيده } فقرأه عامة قراء أهل المدينة والبصرة : " غرفة " بنصب الغين من الغرفة , بمعنى الغرفة الواحدة , من قولك : اغترفت غرفة , والغرفة هي الفعل بعينه من الاغتراف . وقرأه آخرون بالضم , بمعنى : الماء الذي يصير في كف المغترف , فالغرفة الاسم , والغرفة المصدر . وأعجب القراءتين في ذلك إلي ضم الغين في الغرفة بمعنى : إلا من اغترف كفا من ماء , لاختلاف غرفة إذا فتحت غينها , وما هي له مصدر ; وذلك أن مصدر اغترف اغترافة , وإنما غرفة مصدر غرفت , فلما كانت غرفة مخالفة مصدر اغترف , كانت الغرفة التي بمعنى الاسم على ما قد وصفنا أشبه منها بالغرفة التي هي بمعنى الفعل وذكر لنا أن عامتهم شربوا من ذلك الماء , فكان من شرب منه عطش , ومن اغترف غرفة روي . ذكر من قال ذلك : 4460 - حدثني بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم } فشرب القوم على قدر يقينهم . أما الكفار فجعلوا يشربون فلا يروون , وأما المؤمنون فجعل الرجل يغترف غرفة بيده فتجزيه وترويه . * حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة : { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } قال : كان الكفار يشربون فلا يروون , وكان المسلمون يغترفون غرفة , فيجزيهم ذلك . 4461 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم } يعني المؤمنين منهم , وكان القوم كثيرا فشربوا منه إلا قليلا منهم , يعني المؤمنين منهم كان أحدهم يغترف الغرفة فيجزيه ذلك ويرويه . 4462 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : لما أصبح التابوت وما فيه في دار طالوت , آمنوا بنبوة شمعون , وسلموا ملك طالوت , فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا . وكان جالوت من أعظم الناس , وأشدهم بأسا , فخرج يسير بين يدي الجند , ولا تجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي . فلما خرجوا قال لهم طالوت : { إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني } فشربوا منه هيبة من جالوت , فعبر منهم أربعة آلاف , ورجع ستة وسبعون ألفا . فمن شرب منه عطش , ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي . 4463 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد : ألقى الله على لسان طالوت حين فصل بالجنود , فقال : لا يصحبني أحد إلا أحد له نية في الجهاد ! فلم يتخلف عنه مؤمن , ولم يتبعه منافق فلما رأى قلتهم , قالوا : لن نمس من هذا الماء غرفة ولا غيرها ! وذلك أنه قال لهم : { إن الله مبتليكم بنهر } الآية . فقالوا : لن نمس من هذا غرفة ولا غير غرفة ! قال : وأخذ البقية الغرفة , فشربوا منها حتى كفتهم , وفضل منهم . قال : والذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوها . 4464 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قال ابن عباس في قوله : { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } فشرب كل إنسان كقدر الذي في قلبه , فمن اغترف غرفة وأطاعه روي بطاعته , ومن شرب فأكثر عصى فلم يرو لمعصيته . 4465 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق في حديث ذكره , عن بعض أهل العلم , عن وهب بن منبه في قوله : { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } يقول الله تعالى ذكره : { فشربوا منه إلا قليلا منهم } وكان فيما يزعمون من تتابع منهم في الشرب الذي نهي عنه لم يروه , ومن لم يطعمه إلا كما أمر غرفة بيده أجزأه وكفاه . القول في تأويل قوله تعالى : { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } يعني تعالى ذكره بقوله : { فلما جاوزه هو } فلما جاوز النهر طالوت . والهاء في " جاوزه " عائدة على النهر , وهو كناية اسم طالوت . وقوله : { والذين آمنوا معه } يعني : وجاوز النهر معه الذين آمنوا . { قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } ثم اختلف في عدة من جاوز النهر معه يومئذ ومن قال منهم لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده , فقال بعضهم : كانت عدتهم عدة أهل بدر ثلثمائة رجل وبضعة عشر رجلا . ذكر من قال ذلك : 4466 - حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني , قال : ثنا مصعب بن المقدام , وحدثنا أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد الزبيري , قالا جميعا : ثنا إسرائيل , قال : ثنا أبو إسحاق , عن البراء بن عازب , قال : كنا نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا النهر معه , ولم يجز معه إلا مؤمن , ثلثمائة وبضعة عشر رجلا . * حدثنا أبو كريب , قال : ثنا أبو بكر , قال : ثنا أبو إسحاق , عن البراء , قال : كنا نتحدث أن أصحاب بدر يوم بدر كعدة أصحاب طالوت ثلثمائة رجل وثلاثة عشر رجلا الذين جاوزوا النهر . * حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا أبو عامر , قال : ثنا سفيان , عن أبي إسحاق , عن البراء , قال : كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر رجلا على عدة أصحاب طالوت من جاز معه , وما جاز معه إلا مؤمن . * حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن سفيان , عن أبي إسحاق , عن البراء بنحوه . * حدثنا ابن بشار , قال : ثنا مؤمل , قال : ثنا سفيان , عن أبي إسحاق , عن البراء , قال : كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر على عدة أصحاب طالوت يوم جاوزوا النهر , وما جاوز معه إلا مسلم . * حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا مسعر , عن أبي إسحاق , عن البراء مثله . 4467 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر : " أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي " , وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر رجلا . 4468 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع , قال : محص الله الذين آمنوا عند النهر وكانوا ثلثمائة , وفوق العشرة , ودون العشرين , فجاء داود صلى الله عليه وسلم فأكمل به العدة . وقال آخرون : بل جاوز معه النهر أربعة آلاف , وإنما خلص أهل الإيمان منهم من أهل الكفر والنفاق حين لقوا جالوت . ذكر من قال ذلك : 4469 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : عبر مع طالوت النهر من بني إسرائيل أربعة آلاف , فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه فنظروا إلى جالوت رجعوا أيضا وقالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ! فرجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون , وخلص في ثلثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر . 4470 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قال ابن عباس : لما جاوزه هو والذين آمنوا معه , قال الذين شربوا : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } وأولى القولين في ذلك بالصواب , ما روي عن ابن عباس وقاله السدي ; وهو أنه جاوز النهر مع طالوت المؤمن الذي لم يشرب من النهر إلا الغرفة , والكافر الذي شرب منه الكثير . ثم وقع التمييز بينهم بعد ذلك برؤية جالوت ولقائه , وانخزل عنه أهل الشرك والنفاق , وهم الذين قالوا : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } ومضى أهل البصيرة بأمر الله على بصائرهم , وهم أهل الثبات على الإيمان , فقالوا : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } فإن ظن ذو غفلة أنه غير جائز أن يكون جاوز النهر مع طالوت إلا أهل الإيمان الذين ثبتوا معه على إيمانهم , ومن لم يشرب من النهر إلا الغرفة , لأن الله تعالى ذكره قال : { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } فكان معلوما أنه لم يجاوز معه إلا أهل الإيمان , على ما روي به الخبر عن البراء بن عازب , ولأن أهل الكفر لو كانوا جاوزوا النهر كما جاوزه أهل الإيمان لما خص الله بالذكر في ذلك أهل الإيمان ; فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن . وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الفريقان , أعني فريق الإيمان وفريق الكفر جاوزوا النهر , وأخبر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم , عن المؤمنين بالمجاوزة , لأنهم كانوا من الذين جاوزوه مع ملكهم وترك ذكر أهل الكفر , وإن كانوا قد جاوزوا النهر مع المؤمنين . والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك قول الله تعالى ذكره : { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } فأوجب الله تعالى ذكره أن الذين يظنون أنهم ملاقو الله هم الذين قالوا عند مجاوزة النهر : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } دون غيرهم الذين لا يظنون أنهم ملاقو الله , وأن الذين لا يظنون أنهم ملاقو الله هم الذين قالوا : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } وغير جائز أن يضاف الإيمان إلى من جحد أنه ملاقي الله أو شك فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } اختلف أهل التأويل في أمر هذين الفريقين , أعني القائلين : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } والقائلين : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } من هما . فقال بعضهم : الفريق الذين قالوا : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } هم أهل كفر بالله ونفاق , وليسوا ممن شهد قتال جالوت وجنوده , لأنهم انصرفوا عن طالوت ومن ثبت معه لقتال عدو الله جالوت ومن معه , وهم الذين عصوا أمر الله لشربهم من النهر . ذكر من قال ذلك : 4471 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي بذلك ; وهو قول ابن عباس . وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه آنفا . 4472 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج : { قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله } الذين اغترفوا وأطاعوا الذين مضوا مع طالوت المؤمنون , وجلس الذين شكوا . وقال آخرون : كلا الفريقين كان أهل إيمان , ولم يكن منهم أحد شرب من الماء إلا غرفة , بل كانوا جميعا أهل طاعة , ولكن بعضهم كان أصح يقينا من بعض , وهم الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } والآخرون كانوا أضعف يقينا , وهم الذين قالوا : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } ذكر من قال ذلك : 4473 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } ويكون المؤمنون بعضهم أفضل جدا وعزما من بعض , وهم مؤمنون كلهم . 4474 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } أن النبي قال لأصحابه يوم بدر : " أنتم بعدة أصحاب طالوت ثلثمائة " قال قتادة : وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر . 4475 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد : الذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوا , وهم الذين قالوا : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } ويجب على القول الذي روي عن البراء بن عازب أنه لم يجاوز النهر مع طالوت إلا عدة أصحاب بدر أن يكون كلا الفريقين اللذين وصفهما الله بما وصفهما به أمرهما على نحو ما قال فيهما قتادة وابن زيد . وأولى القولين في تأويل الآية ما قاله ابن عباس والسدي وابن جريج . وقد ذكرنا الحجة في ذلك فيما مضى قبل آنفا . وأما تأويل قوله : { قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله } فإنه يعني : قال الذين يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقو الله . 4476 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله } الذين يستيقنون . فتأويل الكلام : قال الذين يوقنون بالمعاد ويصدقون بالمرجع إلى الله للذين قالوا : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده كم من فئة قليلة } يعني بكم كثيرا غلبت فئة قليلة فئة كثيرة بإذن الله , يعني : بقضاء الله وقدره . { والله مع الصابرين } يقول : مع الحابسين أنفسهم على رضاه وطاعته . وقد أتينا على البيان عن وجوه الظن وأن أحد معانيه العلم اليقين بما يدل على صحة ذلك فيما مضى , فكرهنا إعادته . وأما الفئة فإنهم الجماعة من الناس لا واحد له من لفظه , وهو مثل الرهط والنفر جمعه فئات وفئون في الرفع وفئين في النصب والخفض بفتح نونها في كل حال , وفئين بالرفع بإعراب نونها بالرفع وترك الياء فيها , وفي النصب فئينا , وفي الخفض فئين , فيكون الإعراب في الخفض والنصب في نونها , وفي كل ذلك مقرة فيها الياء على حالها , فإن أضيفت , قيل : هؤلاء فئينك بإقرار النون وحذف التنوين , كما قال الذين لغتهم هذه سنين في جمع السنة هذه سنينك بإثبات النون وإعرابها , وحذف التنوين منها للإضافة , وكذلك العمل في كل منقوص , مثل مائة وثبة وقلة وعزة , فأما ما كان نقصه من أوله ; فإن جمعه بالتاء مثل عدة وعدات وصلة وصلات .
وأما قوله : { والله مع الصابرين } فإنه يعني : والله معين الصابرين على الجهاد في سبيله وغير ذلك من طاعته , وظهورهم ونصرهم على أعدائه الصادين عن سبيله , المخالفين منهاج دينه . وكذلك يقال لكل معين رجلا على غيره هو معه بمعنى هو معه بالعون له والنصرة .