أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ القول في تأويل قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } يعني تعالى ذكره : { ألم تر } ألم تعلم يا محمد . وهو من رؤية القلب لا رؤية العين ; لأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لم يدرك الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر ورؤية القلب : ما رآه وعلمه به . فمعنى ذلك : ألم تعلم يا محمد الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف . ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { وهم ألوف } فقال بعضهم : في العدد بمعنى جماع ألف . ذكر من قال ذلك : 4362 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , وحدثنا عمرو بن علي , قال : ثنا وكيع , قال : ثنا سفيان , عن ميسرة النهدي , عن المنهال بن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس في قوله : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون , قالوا : نأتي أرضا ليس فيها موت . حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا , قال لهم الله : موتوا ! فمر عليهم نبي من الأنبياء , فدعا ربه أن يحييهم , فأحياهم . فتلا هذه الآية : { إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } * حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا سفيان , عن ميسرة النهدي , عن المنهال , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } قال : كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون , فأماتهم الله , فمر عليهم نبي من الأنبياء , فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه , فأحياهم . 4363 - حدثنا محمد بن سهل بن عسكر , قال : أخبرنا إسماعيل بن عبد الكريم , قال : ثني عبد الصمد أنه سمع وهب بن منبه يقول : أصاب ناسا من بني إسرائيل بلاء وشدة من الزمان , فشكوا ما أصابهم , وقالوا : يا ليتنا قد متنا فاسترحنا مما نحن فيه ! فأوحى الله إلى حزقيل : إن قومك صاحوا من البلاء , وزعموا أنهم ودوا لو ماتوا فاستراحوا , وأي راحة لهم في الموت ! أيظنون أني لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت ؟ فانطلق إلى جبانة كذا وكذا , فإن فيها أربعة آلاف - قال وهب : وهم الذين قال الله : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } - فقم فيهم فنادهم ! وكانت عظامهم قد تفرقت , فرقتها الطير والسباع . فناداهم حزقيل , فقال : يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي ! فاجتمع عظام كل إنسان منهم معا . ثم نادى ثانية حزقيل , فقال : أيتها العظام , إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم ! فاكتست اللحم , وبعد اللحم جلدا , فكانت أجسادا . ثم نادى حزقيل الثالثة فقال : أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن تعودي إلى أجسادك , فقاموا بإذن الله , وكبروا تكبيرة واحدة . * حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قل : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس قوله : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف } يقول : عدد كثير خرجوا فرارا من الجهاد في سبيل الله , فأماتهم الله , ثم أحياهم , وأمرهم أن يجاهدوا عدوهم ; فذلك قوله : { وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } 4364 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا حكام , عن عنبسة , عن أشعث بن أسلم البصري , قال : بينما عمر يصلي ويهوديان خلفه - وكان عمر إذا أراد أن يركع خوى - فقال أحدهم لصاحبه : أهو هو ؟ فلما انفتل عمر قال : رأيت قول أحدكما لصاحبه أهو هو ! فقالا : إنا نجد في كتابنا قرنا من حديد يعطى ما يعطى حزقيل الذي أحيا الموتى بإذن الله . فقال عمر : ما نجد في كتاب الله حزقيل , ولا أحيا الموتى بإذن الله إلا عيسى . فقالا : أما تجد في كتاب { ورسلا لم نقصصهم عليك } 4 164 فقال عمر : بلى . قالا : وأما إحياء الموتى فسنحدثك أن بني إسرائيل وقع عليهم الوباء , فخرج منهم قوم , حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله , فبنوا عليهم حائطا , حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل , فقام عليهم وما شاء الله , فبعثهم الله له , فأنزل الله في ذلك : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف } الآية . * حدثنا ابن حميد , قال : ثنا حكام , عن عنبسة , عن الحجاج بن أرطأة , قال : كانوا أربعة آلاف . 4366 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف } إلى قوله : { ثم أحياهم } قال : كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط , وقع بها الطاعون , فهرب عامة أهلها , فنزلوا ناحية منها , فهلك من بقي في القرية وسلم الآخرون , فلم يمت منهم كبير . فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين , فقال الذين بقوا : أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا , لو صنعنا كما صنعوا بقينا , ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم ! فوقع في قابل فهربوا , وهم بضعة وثلاثون ألفا , حتى نزلوا ذلك المكان , وهو واد أفيح , فناداهم ملك من أسفل الوادي , وآخر من أعلاه : أن موتوا ! فماتوا , حتى إذا هلكوا وبليت أجسادهم , مر بهم نبي يقال له حزقيل ; فلما رآهم وقف عليهم , فجعل يتفكر فيهم , ويلوي شدقيه وأصابعه , فأوحى الله إليه : يا حزقيل , أتريد أن أريك فيهم كيف أحييهم ؟ - قال : وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم - فقال : نعم . فقيل له : ناد فنادى : يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي ! فجعلت تطير العظام بعضها إلى بعض حتى كانت أجسادا من عظام . ثم أوحى الله إليه أن ناد يا أيتها العظام , إن الله يأمرك أن تكتسي لحما ! فاكتست لحما ودما وثيابها التي ماتت فيها وهي عليها . ثم قيل له : ناد ! فنادى يا أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي , فقاموا . 4367 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , فزعم منصور بن المعتمر , عن مجاهد أنهم قالوا حين أحيوا : سبحانك ربنا وبحمدك , لا إله إلا أنت ! فرجعوا إلى قومهم أحياء , يعرفون أنهم كانوا موتى , سحنة الموت على وجوههم , لا يلبسون ثوبا إلا عاد كفنا دسما مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم . 4368 - حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا عبد الرحمن بن عوسجة , عن عطاء الخراساني : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف } قال : كانوا ثلاثة آلاف أو أكثر . 4369 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قال ابن عباس : كانوا أربعين ألفا أو ثمانية آلاف حظر عليهم حظائر , وقد أروحت أجسادهم وأنتنوا , فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح , وهم ألوف فرارا من الجهاد في سبيل الله , فأماتهم الله , ثم أحياهم , فأمرهم بالجهاد , فذلك قوله : { وقاتلوا في سبيل الله } الآية . 4370 - حدثنا ابن حميد , قال : حدثنا سلمة , قال : ثنا محمد بن إسحاق , عن وهب بن منبه : أن كالب بن يوقنا لما قبضه الله بعد يوشع , خلف فيهم - يعني في بني إسرائيل - حزقيل بن بوزي , وهو ابن العجوز . وإنما سمي ابن العجوز , أنها سألت الله الولد وقد كبرت وعقمت , فوهبه الله لها , فلذلك قيل له ابن العجوز . وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم كما بلغنا : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } 4371 - حدثني ابن حميد , قال : حدثنا سلمة , قال : حدثني محمد بن إسحاق , قال : بلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء من الطاعون - أو من سقم كان يصيب الناس - حذرا من الموت , وهم ألوف . حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد , قال لهم الله : موتوا ! فماتوا جميعا , فعمد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع , ثم تركوهم فيها , وذلك أنهم كثروا عن أن يغيبوا . فمرت بهم الأزمان والدهور , حتى صاروا عظاما نخرة . فمر بهم حزقيل بن بوزي , فوقف عليهم , فتعجب لأمرهم , ودخله رحمة لهم , فقيل له : أتحب أن يحييهم الله ؟ فقال : نعم . فقيل له : نادهم ! فقال : أيها العظام الرميم التي قد رمت وبليت , ليرجع كل عظم إلى صاحبه ! فناداهم بذلك , فنظر إلى العظام تواثب يأخذ بعضها بعضا . ثم قيل له : قل أيها اللحم والعصب والجلد اكس العظام بإذن ربك ! قال : فنظر إليها والعصب يأخذ العظام ثم اللحم والجلد والأشعار , حتى استووا خلقا ليست فيهم الأرواح , ثم دعا لهم بالحياة , فتغشاهم من السماء كدية حتى غشي عليه منه . ثم أفاق والقوم جلوس يقولون : سبحان الله , سبحان الله ! قد أحياهم الله . وقال آخرون : معنى قوله { وهم ألوف } وهم مؤتلفون . ذكر من قال ذلك : 4372 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال ابن زيد في قول الله : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } قال : قرية كانت نزل بها الطاعون , فخرجت طائفة منهم وأقامت طائفة . فألح الطاعون بالطائفة التي أقامت , والتي خرجت لم يصبها شيء . ثم ارتفع , ثم نزل العام القابل , فخرجت طائفة أكثر من التي خرجت أولا . فاستحر الطاعون بالطائفة التي أقامت . فلما كان العام الثالث نزل , فخرجوا بأجمعهم وتركوا ديارهم , فقال الله تعالى ذكره : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف } ليست الفرقة أخرجتهم كما يخرج للحرب والقتال . قلوبهم مؤتلفة , إنما خرجوا فرارا , فلما كانوا حيث ذهبوا يبتغون الحياة , قال لهم الله : موتوا ! في المكان الذي ذهبوا إليه يبتغون فيه الحياة , فماتوا . ثم أحياهم الله ; { إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } قال : ومر بها رجل وهي عظام تلوح , فوقف ينظر , فقال : { أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام } ذكر الأخبار عمن قال : كان خروج هؤلاء القوم من ديارهم فرارا من الطاعون : 4373 - حدثنا عمرو بن علي , قال : حدثنا ابن أبي عدي , عن الأشعث , عن الحسن في قوله : 34 { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } قال . خرجوا فرارا من الطاعون , فأماتهم قبل آجالهم , ثم أحياهم إلى آجالهم . * حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن الحسن في قوله : 34 { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } قال : فروا من الطاعون , فقال لهم الله : موتوا ! ثم أحياهم ليكملوا بقية آجالهم . 4374 - حدثني محمد بن عمرو , قال : حدثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن عمرو بن دينار في قول الله تعالى ذكره : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } قال : وقع الطاعون في قريتهم , فخرج أناس وبقي أناس . فهلك الذين بقوا في القرية وبقي الآخرون . ثم وقع الطاعون في قريتهم الثانية , فخرج أناس , وبقي أناس ومن خرج أكثر ممن بقي , فنجى الله الذين خرجوا , وهلك الذين بقوا . فلما كانت الثالثة خرجوا بأجمعهم إلا قليلا , فأماتهم الله ودوابهم ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم وكثروا بها , حتى يقول بعضهم لبعض : من أنتم ؟ * حدثني المثنى , قال : حدثنا أبو حذيفة , قال : حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , قال : سمعت عمرو بن دينار يقول : وقع الطاعون في قريتهم , ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو , عن أبي عاصم . 4375 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : حدثنا سويد , قال : حدثنا سعيد , عن قتادة : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف } الآية . مقتهم الله على فرارهم من الموت , فأماتهم الله عقوبة ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها , ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم . 4376 - حدثت عن عمار بن الحسن , قال : حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن حصين , عن هلال بن يساف في قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا } الآية . قال : كان هؤلاء القوم من بني إسرائيل إذا وقع فيهم الطاعون خرج أغنياؤهم وأشرافهم وأقام فقراؤهم وسفلتهم . قال : فاستحر الموت على المقيمين منهم , ونجا من خرج منهم , فقال الذين خرجوا : لو أقمنا كما أقام هؤلاء لهلكنا كما هلكوا ! وقال المقيمون : لو ظعنا كما ظعن هؤلاء لنجونا كما نجوا ! فظعنوا جميعا في عام واحد , أغنياؤهم وأشرافهم وفقراؤهم وسفلتهم , فأرسل عليهم الموت , فصاروا عظاما تبرق . قال : فجاءهم أهل القرى فجمعوهم في مكان واحد , فمر بهم نبي , فقال : يا رب لو شئت أحييت هؤلاء فعمروا بلادك وعبدوك ! قال : أو أحب إليك أن أفعل ؟ قال نعم . قال : فقل كذا وكذا ! فتكلم به , فنظر إلى العظام , وإن العظم ليخرج من عند العظم الذي ليس منه إلى العظم الذي هو منه . ثم تكلم بما أمر , فإذا العظام تكسى لحما . ثم أمر بأمر فتكلم به , فإذا هم قعود يسبحون ويكبرون , ثم قيل لهم : { قاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } * حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : أخبرني سعيد بن أبي أيوب . عن حماد بن عثمان , عن الحسن أنه قال في الذين أماتهم الله ثم أحياهم , قال : هم قوم فروا من الطاعون , فأماتهم الله عقوبة ومقتا , ثم أحياهم لآجالهم . وأولى القولين في تأويل قوله : { وهم ألوف } بالصواب , قول من قال : عنى بالألوف . كثرة العدد , دون قول من قال : عنى به الائتلاف , بمعنى ائتلاف قلوبهم , وأنهم خرجوا من ديارهم من غير افتراق كان منهم ولا تباغض , ولكن فرارا , إما من الجهاد , وإما من الطاعون . لإجماع الحجة على أن ذلك تأويل الآية , ولا يعارض بالقول الشاذ ما استفاض به القول من الصحابة والتابعين . وأولى الأقوال في مبلغ عدد القوم الذين وصف الله خروجهم من ديارهم بالصواب , قول من حد عددهم بزيادة عن عشرة آلاف دون من حده بأربعة آلاف وثلاثة آلاف وثمانية آلاف . وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفا , وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم ألوف , وإنما يقال : هم آلاف إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف , وغير جائز أن يقال : هم خمسة ألوف , أو عشرة ألوف . وإنما جمع قليله على أفعال , ولم يجمع على أفعل مثل سائر الجمع القليل الذي يكون ثاني مفرده ساكنا للألف التي في أوله , وشأن العرب في كل حرف كان أوله ياء أو واوا أو ألفا اختيار جمع قليله على أفعال , كما جمعوا الوقت أوقاتا , واليوم أياما , واليسر أيسارا ; للواو والياء اللتين في أول ذلك , وقد يجمع ذلك أحيانا على " أفعل " , إلا أن الفصيح من كلامهم ما ذكرنا , ومنه قول الشاعر : كانوا ثلاثة آلف وكتيبة ألفين أعجم من بني الفدام وأما قوله : { حذر الموت } فإنه يعني : أنهم خرجوا من حذر الموت فرارا منه . كما : 4377 - حدثني محمد بن سعد , قال : حدثني أبي , قال : حدثني عمي , قال : حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس قوله : { حذر الموت } فرارا من عدوهم , حتى ذاقوا الموت الذي فروا منه , فأمرهم فرجعوا وأمرهم أن يقاتلوا في سبيل الله . وهم الذين قالوا لنبيهم : { ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله } 2 246 وإنما حث الله تعالى ذكره عباده بهذه الآية على المواظبة على الجهاد في سبيل الله والصبر على قتال أعداء دينه , وشجعهم بإعلامه إياهم وتذكيره لهم أن الإماتة والإحياء بيديه وإليه دون خلقه , وأن الفرار من القتال والهرب من الجهاد ولقاء الأعداء إلى التحصن في الحصون والاختباء في المنازل والدور غير منج أحدا من قضائه إذا حل بساحته , ولا دافع عنه أسباب منيته إذا نزل بعقوبته , كما لم ينفع الهاربين من الطاعون الذين وصف الله تعالى ذكره صفتهم في قوله : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } فرارهم من أوطانهم , وانتقالهم من منازلهم إلى الموضع الذي أملوا بالمصير إليه السلامة , وبالموئل النجاة من المنية , حتى أتاهم أمر الله , فتركهم جميعا خمودا صرعى وفي الأرض هلكى , ونجا مما حل بهم الذين باشروا كرب الوباء وخالطوا بأنفسهم عظيم البلاء . إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ القول في تأويل قوله تعالى : { إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } يعني تعالى ذكره بذلك : إن الله لذو فضل ومن على خلقه بتبصيره إياهم سبيل الهدى وتحذيره لهم طرق الردى , وغير ذلك من نعمه التي ينعمها عليهم في دنياهم ودينهم وأنفسهم وأموالهم . كما أحيا الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بعد إماتته إياهم وجعلهم لخلقه مثلا وعظة يعظون بهم عبرة يعتبرون بهم . وليعلموا أن الأمور كلها بيده , فيستسلمون لقضائه , ويصرفون الرغبة كلها والرهبة إليه . ثم أخبر تعالى ذكره أن أكثر من ينعم عليه من عباده بنعمه الجليلة ويمن عليه بمننه الجسيمة , يكفر به , ويصرف الرغبة والرهبة إلى غيره , ويتخذ إلها من دونه , كفرانا منه لنعمه التي توجب أصغرها عليه من الشكر ما يفدحه ومن الحمد ما يثقله , فقال تعالى ذكره : { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } ; يقول : لا يشكرون نعمتي التي أنعمتها عليهم وفضلي الذي تفضلت به عليهم , بعبادتهم غيري وصرفهم رغبتهم ورهبتهم إلى من دوني , ممن لا يملك لهم ضرا ولا نفعا , ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا .
القول في تأويل قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } يعني تعالى ذكره : { ألم تر } ألم تعلم يا محمد . وهو من رؤية القلب لا رؤية العين ; لأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لم يدرك الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر ورؤية القلب : ما رآه وعلمه به . فمعنى ذلك : ألم تعلم يا محمد الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف . ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { وهم ألوف } فقال بعضهم : في العدد بمعنى جماع ألف . ذكر من قال ذلك : 4362 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , وحدثنا عمرو بن علي , قال : ثنا وكيع , قال : ثنا سفيان , عن ميسرة النهدي , عن المنهال بن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس في قوله : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون , قالوا : نأتي أرضا ليس فيها موت . حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا , قال لهم الله : موتوا ! فمر عليهم نبي من الأنبياء , فدعا ربه أن يحييهم , فأحياهم . فتلا هذه الآية : { إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } * حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا سفيان , عن ميسرة النهدي , عن المنهال , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } قال : كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون , فأماتهم الله , فمر عليهم نبي من الأنبياء , فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه , فأحياهم . 4363 - حدثنا محمد بن سهل بن عسكر , قال : أخبرنا إسماعيل بن عبد الكريم , قال : ثني عبد الصمد أنه سمع وهب بن منبه يقول : أصاب ناسا من بني إسرائيل بلاء وشدة من الزمان , فشكوا ما أصابهم , وقالوا : يا ليتنا قد متنا فاسترحنا مما نحن فيه ! فأوحى الله إلى حزقيل : إن قومك صاحوا من البلاء , وزعموا أنهم ودوا لو ماتوا فاستراحوا , وأي راحة لهم في الموت ! أيظنون أني لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت ؟ فانطلق إلى جبانة كذا وكذا , فإن فيها أربعة آلاف - قال وهب : وهم الذين قال الله : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } - فقم فيهم فنادهم ! وكانت عظامهم قد تفرقت , فرقتها الطير والسباع . فناداهم حزقيل , فقال : يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي ! فاجتمع عظام كل إنسان منهم معا . ثم نادى ثانية حزقيل , فقال : أيتها العظام , إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم ! فاكتست اللحم , وبعد اللحم جلدا , فكانت أجسادا . ثم نادى حزقيل الثالثة فقال : أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن تعودي إلى أجسادك , فقاموا بإذن الله , وكبروا تكبيرة واحدة . * حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قل : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس قوله : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف } يقول : عدد كثير خرجوا فرارا من الجهاد في سبيل الله , فأماتهم الله , ثم أحياهم , وأمرهم أن يجاهدوا عدوهم ; فذلك قوله : { وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } 4364 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا حكام , عن عنبسة , عن أشعث بن أسلم البصري , قال : بينما عمر يصلي ويهوديان خلفه - وكان عمر إذا أراد أن يركع خوى - فقال أحدهم لصاحبه : أهو هو ؟ فلما انفتل عمر قال : رأيت قول أحدكما لصاحبه أهو هو ! فقالا : إنا نجد في كتابنا قرنا من حديد يعطى ما يعطى حزقيل الذي أحيا الموتى بإذن الله . فقال عمر : ما نجد في كتاب الله حزقيل , ولا أحيا الموتى بإذن الله إلا عيسى . فقالا : أما تجد في كتاب { ورسلا لم نقصصهم عليك } 4 164 فقال عمر : بلى . قالا : وأما إحياء الموتى فسنحدثك أن بني إسرائيل وقع عليهم الوباء , فخرج منهم قوم , حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله , فبنوا عليهم حائطا , حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل , فقام عليهم وما شاء الله , فبعثهم الله له , فأنزل الله في ذلك : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف } الآية . * حدثنا ابن حميد , قال : ثنا حكام , عن عنبسة , عن الحجاج بن أرطأة , قال : كانوا أربعة آلاف . 4366 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف } إلى قوله : { ثم أحياهم } قال : كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط , وقع بها الطاعون , فهرب عامة أهلها , فنزلوا ناحية منها , فهلك من بقي في القرية وسلم الآخرون , فلم يمت منهم كبير . فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين , فقال الذين بقوا : أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا , لو صنعنا كما صنعوا بقينا , ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم ! فوقع في قابل فهربوا , وهم بضعة وثلاثون ألفا , حتى نزلوا ذلك المكان , وهو واد أفيح , فناداهم ملك من أسفل الوادي , وآخر من أعلاه : أن موتوا ! فماتوا , حتى إذا هلكوا وبليت أجسادهم , مر بهم نبي يقال له حزقيل ; فلما رآهم وقف عليهم , فجعل يتفكر فيهم , ويلوي شدقيه وأصابعه , فأوحى الله إليه : يا حزقيل , أتريد أن أريك فيهم كيف أحييهم ؟ - قال : وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم - فقال : نعم . فقيل له : ناد فنادى : يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي ! فجعلت تطير العظام بعضها إلى بعض حتى كانت أجسادا من عظام . ثم أوحى الله إليه أن ناد يا أيتها العظام , إن الله يأمرك أن تكتسي لحما ! فاكتست لحما ودما وثيابها التي ماتت فيها وهي عليها . ثم قيل له : ناد ! فنادى يا أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي , فقاموا . 4367 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , فزعم منصور بن المعتمر , عن مجاهد أنهم قالوا حين أحيوا : سبحانك ربنا وبحمدك , لا إله إلا أنت ! فرجعوا إلى قومهم أحياء , يعرفون أنهم كانوا موتى , سحنة الموت على وجوههم , لا يلبسون ثوبا إلا عاد كفنا دسما مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم . 4368 - حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا عبد الرحمن بن عوسجة , عن عطاء الخراساني : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف } قال : كانوا ثلاثة آلاف أو أكثر . 4369 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قال ابن عباس : كانوا أربعين ألفا أو ثمانية آلاف حظر عليهم حظائر , وقد أروحت أجسادهم وأنتنوا , فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح , وهم ألوف فرارا من الجهاد في سبيل الله , فأماتهم الله , ثم أحياهم , فأمرهم بالجهاد , فذلك قوله : { وقاتلوا في سبيل الله } الآية . 4370 - حدثنا ابن حميد , قال : حدثنا سلمة , قال : ثنا محمد بن إسحاق , عن وهب بن منبه : أن كالب بن يوقنا لما قبضه الله بعد يوشع , خلف فيهم - يعني في بني إسرائيل - حزقيل بن بوزي , وهو ابن العجوز . وإنما سمي ابن العجوز , أنها سألت الله الولد وقد كبرت وعقمت , فوهبه الله لها , فلذلك قيل له ابن العجوز . وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم كما بلغنا : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } 4371 - حدثني ابن حميد , قال : حدثنا سلمة , قال : حدثني محمد بن إسحاق , قال : بلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء من الطاعون - أو من سقم كان يصيب الناس - حذرا من الموت , وهم ألوف . حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد , قال لهم الله : موتوا ! فماتوا جميعا , فعمد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع , ثم تركوهم فيها , وذلك أنهم كثروا عن أن يغيبوا . فمرت بهم الأزمان والدهور , حتى صاروا عظاما نخرة . فمر بهم حزقيل بن بوزي , فوقف عليهم , فتعجب لأمرهم , ودخله رحمة لهم , فقيل له : أتحب أن يحييهم الله ؟ فقال : نعم . فقيل له : نادهم ! فقال : أيها العظام الرميم التي قد رمت وبليت , ليرجع كل عظم إلى صاحبه ! فناداهم بذلك , فنظر إلى العظام تواثب يأخذ بعضها بعضا . ثم قيل له : قل أيها اللحم والعصب والجلد اكس العظام بإذن ربك ! قال : فنظر إليها والعصب يأخذ العظام ثم اللحم والجلد والأشعار , حتى استووا خلقا ليست فيهم الأرواح , ثم دعا لهم بالحياة , فتغشاهم من السماء كدية حتى غشي عليه منه . ثم أفاق والقوم جلوس يقولون : سبحان الله , سبحان الله ! قد أحياهم الله . وقال آخرون : معنى قوله { وهم ألوف } وهم مؤتلفون . ذكر من قال ذلك : 4372 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال ابن زيد في قول الله : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } قال : قرية كانت نزل بها الطاعون , فخرجت طائفة منهم وأقامت طائفة . فألح الطاعون بالطائفة التي أقامت , والتي خرجت لم يصبها شيء . ثم ارتفع , ثم نزل العام القابل , فخرجت طائفة أكثر من التي خرجت أولا . فاستحر الطاعون بالطائفة التي أقامت . فلما كان العام الثالث نزل , فخرجوا بأجمعهم وتركوا ديارهم , فقال الله تعالى ذكره : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف } ليست الفرقة أخرجتهم كما يخرج للحرب والقتال . قلوبهم مؤتلفة , إنما خرجوا فرارا , فلما كانوا حيث ذهبوا يبتغون الحياة , قال لهم الله : موتوا ! في المكان الذي ذهبوا إليه يبتغون فيه الحياة , فماتوا . ثم أحياهم الله ; { إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } قال : ومر بها رجل وهي عظام تلوح , فوقف ينظر , فقال : { أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام } ذكر الأخبار عمن قال : كان خروج هؤلاء القوم من ديارهم فرارا من الطاعون : 4373 - حدثنا عمرو بن علي , قال : حدثنا ابن أبي عدي , عن الأشعث , عن الحسن في قوله : 34 { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } قال . خرجوا فرارا من الطاعون , فأماتهم قبل آجالهم , ثم أحياهم إلى آجالهم . * حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن الحسن في قوله : 34 { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } قال : فروا من الطاعون , فقال لهم الله : موتوا ! ثم أحياهم ليكملوا بقية آجالهم . 4374 - حدثني محمد بن عمرو , قال : حدثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن عمرو بن دينار في قول الله تعالى ذكره : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } قال : وقع الطاعون في قريتهم , فخرج أناس وبقي أناس . فهلك الذين بقوا في القرية وبقي الآخرون . ثم وقع الطاعون في قريتهم الثانية , فخرج أناس , وبقي أناس ومن خرج أكثر ممن بقي , فنجى الله الذين خرجوا , وهلك الذين بقوا . فلما كانت الثالثة خرجوا بأجمعهم إلا قليلا , فأماتهم الله ودوابهم ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم وكثروا بها , حتى يقول بعضهم لبعض : من أنتم ؟ * حدثني المثنى , قال : حدثنا أبو حذيفة , قال : حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , قال : سمعت عمرو بن دينار يقول : وقع الطاعون في قريتهم , ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو , عن أبي عاصم . 4375 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : حدثنا سويد , قال : حدثنا سعيد , عن قتادة : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف } الآية . مقتهم الله على فرارهم من الموت , فأماتهم الله عقوبة ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها , ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم . 4376 - حدثت عن عمار بن الحسن , قال : حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن حصين , عن هلال بن يساف في قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا } الآية . قال : كان هؤلاء القوم من بني إسرائيل إذا وقع فيهم الطاعون خرج أغنياؤهم وأشرافهم وأقام فقراؤهم وسفلتهم . قال : فاستحر الموت على المقيمين منهم , ونجا من خرج منهم , فقال الذين خرجوا : لو أقمنا كما أقام هؤلاء لهلكنا كما هلكوا ! وقال المقيمون : لو ظعنا كما ظعن هؤلاء لنجونا كما نجوا ! فظعنوا جميعا في عام واحد , أغنياؤهم وأشرافهم وفقراؤهم وسفلتهم , فأرسل عليهم الموت , فصاروا عظاما تبرق . قال : فجاءهم أهل القرى فجمعوهم في مكان واحد , فمر بهم نبي , فقال : يا رب لو شئت أحييت هؤلاء فعمروا بلادك وعبدوك ! قال : أو أحب إليك أن أفعل ؟ قال نعم . قال : فقل كذا وكذا ! فتكلم به , فنظر إلى العظام , وإن العظم ليخرج من عند العظم الذي ليس منه إلى العظم الذي هو منه . ثم تكلم بما أمر , فإذا العظام تكسى لحما . ثم أمر بأمر فتكلم به , فإذا هم قعود يسبحون ويكبرون , ثم قيل لهم : { قاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } * حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : أخبرني سعيد بن أبي أيوب . عن حماد بن عثمان , عن الحسن أنه قال في الذين أماتهم الله ثم أحياهم , قال : هم قوم فروا من الطاعون , فأماتهم الله عقوبة ومقتا , ثم أحياهم لآجالهم . وأولى القولين في تأويل قوله : { وهم ألوف } بالصواب , قول من قال : عنى بالألوف . كثرة العدد , دون قول من قال : عنى به الائتلاف , بمعنى ائتلاف قلوبهم , وأنهم خرجوا من ديارهم من غير افتراق كان منهم ولا تباغض , ولكن فرارا , إما من الجهاد , وإما من الطاعون . لإجماع الحجة على أن ذلك تأويل الآية , ولا يعارض بالقول الشاذ ما استفاض به القول من الصحابة والتابعين . وأولى الأقوال في مبلغ عدد القوم الذين وصف الله خروجهم من ديارهم بالصواب , قول من حد عددهم بزيادة عن عشرة آلاف دون من حده بأربعة آلاف وثلاثة آلاف وثمانية آلاف . وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفا , وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم ألوف , وإنما يقال : هم آلاف إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف , وغير جائز أن يقال : هم خمسة ألوف , أو عشرة ألوف . وإنما جمع قليله على أفعال , ولم يجمع على أفعل مثل سائر الجمع القليل الذي يكون ثاني مفرده ساكنا للألف التي في أوله , وشأن العرب في كل حرف كان أوله ياء أو واوا أو ألفا اختيار جمع قليله على أفعال , كما جمعوا الوقت أوقاتا , واليوم أياما , واليسر أيسارا ; للواو والياء اللتين في أول ذلك , وقد يجمع ذلك أحيانا على " أفعل " , إلا أن الفصيح من كلامهم ما ذكرنا , ومنه قول الشاعر : كانوا ثلاثة آلف وكتيبة ألفين أعجم من بني الفدام وأما قوله : { حذر الموت } فإنه يعني : أنهم خرجوا من حذر الموت فرارا منه . كما : 4377 - حدثني محمد بن سعد , قال : حدثني أبي , قال : حدثني عمي , قال : حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس قوله : { حذر الموت } فرارا من عدوهم , حتى ذاقوا الموت الذي فروا منه , فأمرهم فرجعوا وأمرهم أن يقاتلوا في سبيل الله . وهم الذين قالوا لنبيهم : { ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله } 2 246 وإنما حث الله تعالى ذكره عباده بهذه الآية على المواظبة على الجهاد في سبيل الله والصبر على قتال أعداء دينه , وشجعهم بإعلامه إياهم وتذكيره لهم أن الإماتة والإحياء بيديه وإليه دون خلقه , وأن الفرار من القتال والهرب من الجهاد ولقاء الأعداء إلى التحصن في الحصون والاختباء في المنازل والدور غير منج أحدا من قضائه إذا حل بساحته , ولا دافع عنه أسباب منيته إذا نزل بعقوبته , كما لم ينفع الهاربين من الطاعون الذين وصف الله تعالى ذكره صفتهم في قوله : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } فرارهم من أوطانهم , وانتقالهم من منازلهم إلى الموضع الذي أملوا بالمصير إليه السلامة , وبالموئل النجاة من المنية , حتى أتاهم أمر الله , فتركهم جميعا خمودا صرعى وفي الأرض هلكى , ونجا مما حل بهم الذين باشروا كرب الوباء وخالطوا بأنفسهم عظيم البلاء .
القول في تأويل قوله تعالى : { إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } يعني تعالى ذكره بذلك : إن الله لذو فضل ومن على خلقه بتبصيره إياهم سبيل الهدى وتحذيره لهم طرق الردى , وغير ذلك من نعمه التي ينعمها عليهم في دنياهم ودينهم وأنفسهم وأموالهم . كما أحيا الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بعد إماتته إياهم وجعلهم لخلقه مثلا وعظة يعظون بهم عبرة يعتبرون بهم . وليعلموا أن الأمور كلها بيده , فيستسلمون لقضائه , ويصرفون الرغبة كلها والرهبة إليه . ثم أخبر تعالى ذكره أن أكثر من ينعم عليه من عباده بنعمه الجليلة ويمن عليه بمننه الجسيمة , يكفر به , ويصرف الرغبة والرهبة إلى غيره , ويتخذ إلها من دونه , كفرانا منه لنعمه التي توجب أصغرها عليه من الشكر ما يفدحه ومن الحمد ما يثقله , فقال تعالى ذكره : { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } ; يقول : لا يشكرون نعمتي التي أنعمتها عليهم وفضلي الذي تفضلت به عليهم , بعبادتهم غيري وصرفهم رغبتهم ورهبتهم إلى من دوني , ممن لا يملك لهم ضرا ولا نفعا , ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا .