بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ القول في تأويل قوله تعالى : { بديع السموات والأرض } يعني جل ثناؤه بقوله : { بديع السموات والأرض } مبدعها . وإنما هو " مفعل " صرف إلى " فعيل " , كما صرف المؤلم إلى أليم , والمسمع إلى سميع . ومعنى المبدع : المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد ; ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعا , لإحداثه فيه ما لم يسبقه إليه غيره . وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم , فإن العرب تسميه مبتدعا . ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة في مدح هوذة بن علي الحنفي : يرعى إلى قول سادات الرجال إذا أبدوا له الحزم أو ما شاء ابتدعا أي يحدث ما شاء . ومنه قول رؤبة بن العجاج : فأيها الغاشي القذاف الأتيعا إن كنت لله التقي الأطوعا فليس وجه الحق أن تبدعا يعني : أن تحدث في الدين ما لم يكن فيه . فمعنى الكلام : سبحان الله أنى يكون له ولد ! وهو مالك ما في السموات والأرض , تشهد له جميعا بدلالتها عليه بالوحدانية , وتقر له بالطاعة ; وهو بارئها وخالقها , وموجدها من غير أصل , ولا مثال احتذاها عليه ! وهذا إعلام من الله جل ثناؤه عباده , أن مما يشهد له بذلك المسيح الذي أضافوا إلى الله جل ثناؤه بنوته , وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال , هو الذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 1542 - حدثنا المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { بديع السموات والأرض } يقول : ابتدع خلقها , ولم يشركه في خلقها أحد . 1543 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { بديع السموات والأرض } يقول : ابتدعها فخلقها , ولم يخلق مثلها شيئا فتتمثل به . وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ القول في تأويل قوله تعالى : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } . يعني جل ثناؤه بقوله : { وإذا قضى أمرا } وإذا أحكم أمرا وحتمه . وأصل كل قضاء أمر الإحكام والفراغ منه ; ومن ذلك قيل للحاكم بين الناس : القاضي بينهم , لفصله القضاء بين الخصوم , وقطعه الحكم بينهم وفراغه منه . ومنه قيل للميت : قد قضى , يراد به قد فرغ من الدنيا , وفصل منها . ومنه قيل : ما ينقضي عجبي من فلان , يراد : ما ينقطع . ومنه قيل : تقضى النهار : إذا انصرم . ومنه قول الله عز وجل : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } 17 23 أي فصل الحكم فيه بين عباده بأمره إياهم بذلك , وكذلك قوله : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } 17 41 أي أعلمناهم بذلك وأخبرناهم به , ففرغنا إليهم منه . ومنه قول أبي ذؤيب : وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع ويروى : " وتعاورا مسرودتين قضاهما " . ويعني بقوله : قضاهما : أحكمهما . ومنه قول الآخر في مدح عمر بن الخطاب رضي الله عنه : قضيت أمورا ثم غادرت بعدها بوائق في أكمامها لم تفتق ويروى : " بوائج " . وأما قوله : { فإنما يقول له كن فيكون } فإنه يعني بذلك : وإذا أحكم أمرا فحتمه , فإنما يقول لذلك الأمر " كن " , فيكون ذلك الأمر على ما أمره الله أن يكون وأراده . فإن قال لنا قائل : وما معنى قوله : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } ؟ وفي أي حال يقول للأمر الذي يقضيه كن ؟ أفي حال عدمه , وتلك حال لا يجوز فيها أمره , إذ كان محالا أن يأمر إلا المأمور , فإذا لم يكن المأموم استحال الأمر ; وكما محال الأمر من غير آمر , فكذلك محال الأمر من آمر إلا لمأمور . أم يقول له ذلك في حال وجوده , وتلك حال لا يجوز أمره فيها بالحدوث , لأنه حادث موجود , ولا يقال للموجود : كن موجودا إلا بغير معنى الأمر بحدوث عينه ؟ قيل : قد تنازع المتأولون في معنى ذلك , ونحن مخبرون بما قالوا فيه , والعلل التي اعتل بها كل فريق منهم لقوله في ذلك : قال بعضهم : ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أمره المحتوم على وجه القضاء لمن قضى عليه قضاء من خلقه الموجودين أنه إذا أمره بأمر نفذ فيه قضاؤه , ومضى فيه أمره , نظير أمره من أمر من بني إسرائيل بأن يكونوا قردة خاسئين , وهم موجودون في حال أمره إياهم بذلك , وحتم قضائه عليهم بما قضى فيهم , وكالذي خسف به وبداره الأرض , وما أشبه ذلك من أمره وقضائه فيمن كان موجودا من خلقه في حال أمره المحتوم عليه . فوجه قائلو هذا القول قوله : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } إلى الخصوص دون العموم . وقال آخرون : بل الآية عام ظاهرها , فليس لأحد أن يحيلها إلى باطن بغير حجة يجب التسليم لها , وقال : إن الله عالم بكل ما هو كائن قبل كونه . فلما كان ذلك كذلك كانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة لعلمه بها قبل كونها , نظائر التي هي موجودة , فجاز أن يقول لها : " كوني " , ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود , لتصور جميعها له , ولعلمه بها في حال العدم . وقال آخرون : بل الآية وإن كان ظاهرها ظاهر عموم , فتأويلها الخصوص ; لأن الأمر غير جائز إلا لمأمور على ما وصفت قبل . قالوا : وإذا كان ذلك كذلك , فالآية تأويلها : وإذا قضى أمرا من إحياء ميت , أو إماتة حي , ونحو ذلك , فإنما يقول لحي كن ميتا , أو لميت كن حيا , وما أشبه ذلك من الأمر . وقال آخرون : بل ذلك من الله عز وجل خبر عن جميع ما ينشئه ويكونه أنه إذا قضاه وخلقه وأنشأه كان ووجد . ولا قول هنالك عند قائلي هذه المقالة إلا وجود المخلوق , وحدوث المقضي ; وقالوا : إنما قول الله عز وجل : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } نظير قول القائل : قال فلان برأسه , وقال بيده ; إذا حرك رأسه أو أومأ بيده ولم يقل شيئا . وكما قال أبو النجم : وقالت الأنساع للبطن الحق قدما فآضت كالفنيق المحنق ولا قول هنالك , وإنما عنى أن الظهر قد لحق بالبطن . وكما قال عمرو بن حممة الدوسي : فأصبحت مثل النسر طارت فراخه إذا رام تطيارا يقال له قع ولا قول هناك , وإنما معناه : إذا رام طيرانا ووقع , وكما قال الآخر : امتلأ الحوض وقال قطني سيلا رويدا قد ملأت بطني وأولى الأقوال بالصواب في قوله : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } أن يقال : هو عام في كل ما قضاه الله وبرأه , لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم , وغير جائز إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا : " كتاب البيان عن أصول الأحكام " . وإذ كان ذلك كذلك , فأمر الله جل وعز لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله : { كن } في حال إرادته إياه مكونا , لا يتقدم وجود الذي أراد إيجاده وتكوينه إرادته إياه , ولا أمره بالكون والوجود , ولا يتأخر عنه . فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود , ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك . ونظير قوله : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } قوله : { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } بأن خروج القوم من قبورهم لا يتقدم دعاء الله , ولا يتأخر عنه . ويسأل من زعم أن قوله : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } خاص في التأويل اعتلالا بأن أمر غير الموجود غير جائز , عن دعوة أهل القبور قبل خروجهم من قبورهم , أم بعده ؟ أم هي في خاص من الخلق ؟ فلن يقول في ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله . ويسأل الذين زعموا أن معنى قوله جل ثناؤه : { فإنما يقول له كن فيكون } نظير قول القائل : قال فلان برأسه أو بيده , إذا حركه وأومأ , ونظير قول الشاعر : تقول إذا درأت لها وضيني أهذا دينه أبدا وديني وما أشبه ذلك ؟ فإنهم لا صواب اللغة أصابوا ولا كتاب الله , وما دلت على صحته الأدلة اتبعوا . فيقال لقائلي ذلك : إن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه إذا قضى أمرا قال له : " كن " , أفتنكرون أن يكون قائلا ذلك ؟ فإن أنكروه كذبوا بالقرآن , وخرجوا من الملة , وإن قالوا : بل نقر به , ولكنا نزعم أن ذلك نظير قول القائل : قال الحائط فمال ولا قول هنالك , وإنما ذلك خبر عن ميل الحائط . قيل لهم : أفتجيزون للمخبر عن الحائط بالميل أن يقول : إنما قول الحائط إذا أراد أن يميل أن يقول هكذا فيميل ؟ فإن أجازوا ذلك خرجوا من معروف كلام العرب , وخالفوا منطقها وما يعرف في لسانها . وإن قالوا : ذلك غير جائز , قيل لهم : إن الله تعالى ذكره أخبرهم عن نفسه أن قوله للشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون , فأعلم عباده قوله الذي يكون به الشيء ووصفه ووكده . وذلك عندكم غير جائز في العبارة عما لا كلام له ولا بيان في مثل قول القائل : قال الحائط فمال . فكيف لم يعلموا بذلك فرق ما بين معنى قول الله : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } وقول القائل : قال الحائط فمال ؟ وللبيان عن فساد هذه المقالة موضع غير هذا نأتي فيه على القول بما فيه الكفاية إن شاء الله . وإذا كان الأمر في قوله جل ثناؤه : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } هو ما وصفنا من أن حال أمره الشيء بالوجود حال وجود المأمور بالوجود , فتبين بذلك أن الذي هو أولى بقوله : { فيكون } رفع على العطف على قوله : { يقول } لأن القول والكون حالهما واحد . وهو نظير قول القائل : تاب فلان فاهتدى , واهتدى فلان فتاب ; لأنه لا يكون تائبا إلا وهو مهتد , ولا مهتديا إلا وهو تائب . فكذلك لا يمكن أن يكون الله آمرا شيئا بالوجود إلا وهو موجود , ولا موجودا إلا وهو آمره بالوجود ; ولذلك استجاز من استجاز نصب " فيكون " من قرأ : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } 16 40 بالمعنى الذي وصفنا على معنى : أن نقول فيكون . وأما رفع من رفع ذلك , فإنه رأى أن الخبر قد تم عند قوله : { إذا أردناه أن نقول له كن } إذ كان معلوما أن الله إذا حتم قضاءه على شيء كان المحتوم عليه موجودا , ثم ابتدأ بقوله : فيكون , كما قال جل ثناؤه : { لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء } , 22 5 وكما قال ابن أحمر : يعالج عاقرا أعيت عليه ليلقحها فينتجها حوارا يريد : فإذا هو ينتجها حوارا . فمعنى الآية إذا : وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه أن يكون له ولد بل هو مالك السموات والأرض وما فيهما , كل ذلك مقر له بالعبودية بدلالته على وحدانيته . وأنى يكون له ولد , وهو الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل , كالذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته وسلطانه , الذي لا يتعذر عليه به شيء أراده ! بل إنما يقول له إذا قضاه فأراد تكوينه : " كن " , فيكون موجودا كما أراده وشاءه . فكذلك كان ابتداعه المسيح وإنشاءه إذ أراد خلقه من غير والد .
القول في تأويل قوله تعالى : { بديع السموات والأرض } يعني جل ثناؤه بقوله : { بديع السموات والأرض } مبدعها . وإنما هو " مفعل " صرف إلى " فعيل " , كما صرف المؤلم إلى أليم , والمسمع إلى سميع . ومعنى المبدع : المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد ; ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعا , لإحداثه فيه ما لم يسبقه إليه غيره . وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم , فإن العرب تسميه مبتدعا . ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة في مدح هوذة بن علي الحنفي : يرعى إلى قول سادات الرجال إذا أبدوا له الحزم أو ما شاء ابتدعا أي يحدث ما شاء . ومنه قول رؤبة بن العجاج : فأيها الغاشي القذاف الأتيعا إن كنت لله التقي الأطوعا فليس وجه الحق أن تبدعا يعني : أن تحدث في الدين ما لم يكن فيه . فمعنى الكلام : سبحان الله أنى يكون له ولد ! وهو مالك ما في السموات والأرض , تشهد له جميعا بدلالتها عليه بالوحدانية , وتقر له بالطاعة ; وهو بارئها وخالقها , وموجدها من غير أصل , ولا مثال احتذاها عليه ! وهذا إعلام من الله جل ثناؤه عباده , أن مما يشهد له بذلك المسيح الذي أضافوا إلى الله جل ثناؤه بنوته , وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال , هو الذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 1542 - حدثنا المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { بديع السموات والأرض } يقول : ابتدع خلقها , ولم يشركه في خلقها أحد . 1543 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { بديع السموات والأرض } يقول : ابتدعها فخلقها , ولم يخلق مثلها شيئا فتتمثل به .
القول في تأويل قوله تعالى : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } . يعني جل ثناؤه بقوله : { وإذا قضى أمرا } وإذا أحكم أمرا وحتمه . وأصل كل قضاء أمر الإحكام والفراغ منه ; ومن ذلك قيل للحاكم بين الناس : القاضي بينهم , لفصله القضاء بين الخصوم , وقطعه الحكم بينهم وفراغه منه . ومنه قيل للميت : قد قضى , يراد به قد فرغ من الدنيا , وفصل منها . ومنه قيل : ما ينقضي عجبي من فلان , يراد : ما ينقطع . ومنه قيل : تقضى النهار : إذا انصرم . ومنه قول الله عز وجل : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } 17 23 أي فصل الحكم فيه بين عباده بأمره إياهم بذلك , وكذلك قوله : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } 17 41 أي أعلمناهم بذلك وأخبرناهم به , ففرغنا إليهم منه . ومنه قول أبي ذؤيب : وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع ويروى : " وتعاورا مسرودتين قضاهما " . ويعني بقوله : قضاهما : أحكمهما . ومنه قول الآخر في مدح عمر بن الخطاب رضي الله عنه : قضيت أمورا ثم غادرت بعدها بوائق في أكمامها لم تفتق ويروى : " بوائج " . وأما قوله : { فإنما يقول له كن فيكون } فإنه يعني بذلك : وإذا أحكم أمرا فحتمه , فإنما يقول لذلك الأمر " كن " , فيكون ذلك الأمر على ما أمره الله أن يكون وأراده . فإن قال لنا قائل : وما معنى قوله : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } ؟ وفي أي حال يقول للأمر الذي يقضيه كن ؟ أفي حال عدمه , وتلك حال لا يجوز فيها أمره , إذ كان محالا أن يأمر إلا المأمور , فإذا لم يكن المأموم استحال الأمر ; وكما محال الأمر من غير آمر , فكذلك محال الأمر من آمر إلا لمأمور . أم يقول له ذلك في حال وجوده , وتلك حال لا يجوز أمره فيها بالحدوث , لأنه حادث موجود , ولا يقال للموجود : كن موجودا إلا بغير معنى الأمر بحدوث عينه ؟ قيل : قد تنازع المتأولون في معنى ذلك , ونحن مخبرون بما قالوا فيه , والعلل التي اعتل بها كل فريق منهم لقوله في ذلك : قال بعضهم : ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أمره المحتوم على وجه القضاء لمن قضى عليه قضاء من خلقه الموجودين أنه إذا أمره بأمر نفذ فيه قضاؤه , ومضى فيه أمره , نظير أمره من أمر من بني إسرائيل بأن يكونوا قردة خاسئين , وهم موجودون في حال أمره إياهم بذلك , وحتم قضائه عليهم بما قضى فيهم , وكالذي خسف به وبداره الأرض , وما أشبه ذلك من أمره وقضائه فيمن كان موجودا من خلقه في حال أمره المحتوم عليه . فوجه قائلو هذا القول قوله : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } إلى الخصوص دون العموم . وقال آخرون : بل الآية عام ظاهرها , فليس لأحد أن يحيلها إلى باطن بغير حجة يجب التسليم لها , وقال : إن الله عالم بكل ما هو كائن قبل كونه . فلما كان ذلك كذلك كانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة لعلمه بها قبل كونها , نظائر التي هي موجودة , فجاز أن يقول لها : " كوني " , ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود , لتصور جميعها له , ولعلمه بها في حال العدم . وقال آخرون : بل الآية وإن كان ظاهرها ظاهر عموم , فتأويلها الخصوص ; لأن الأمر غير جائز إلا لمأمور على ما وصفت قبل . قالوا : وإذا كان ذلك كذلك , فالآية تأويلها : وإذا قضى أمرا من إحياء ميت , أو إماتة حي , ونحو ذلك , فإنما يقول لحي كن ميتا , أو لميت كن حيا , وما أشبه ذلك من الأمر . وقال آخرون : بل ذلك من الله عز وجل خبر عن جميع ما ينشئه ويكونه أنه إذا قضاه وخلقه وأنشأه كان ووجد . ولا قول هنالك عند قائلي هذه المقالة إلا وجود المخلوق , وحدوث المقضي ; وقالوا : إنما قول الله عز وجل : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } نظير قول القائل : قال فلان برأسه , وقال بيده ; إذا حرك رأسه أو أومأ بيده ولم يقل شيئا . وكما قال أبو النجم : وقالت الأنساع للبطن الحق قدما فآضت كالفنيق المحنق ولا قول هنالك , وإنما عنى أن الظهر قد لحق بالبطن . وكما قال عمرو بن حممة الدوسي : فأصبحت مثل النسر طارت فراخه إذا رام تطيارا يقال له قع ولا قول هناك , وإنما معناه : إذا رام طيرانا ووقع , وكما قال الآخر : امتلأ الحوض وقال قطني سيلا رويدا قد ملأت بطني وأولى الأقوال بالصواب في قوله : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } أن يقال : هو عام في كل ما قضاه الله وبرأه , لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم , وغير جائز إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا : " كتاب البيان عن أصول الأحكام " . وإذ كان ذلك كذلك , فأمر الله جل وعز لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله : { كن } في حال إرادته إياه مكونا , لا يتقدم وجود الذي أراد إيجاده وتكوينه إرادته إياه , ولا أمره بالكون والوجود , ولا يتأخر عنه . فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود , ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك . ونظير قوله : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } قوله : { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } بأن خروج القوم من قبورهم لا يتقدم دعاء الله , ولا يتأخر عنه . ويسأل من زعم أن قوله : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } خاص في التأويل اعتلالا بأن أمر غير الموجود غير جائز , عن دعوة أهل القبور قبل خروجهم من قبورهم , أم بعده ؟ أم هي في خاص من الخلق ؟ فلن يقول في ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله . ويسأل الذين زعموا أن معنى قوله جل ثناؤه : { فإنما يقول له كن فيكون } نظير قول القائل : قال فلان برأسه أو بيده , إذا حركه وأومأ , ونظير قول الشاعر : تقول إذا درأت لها وضيني أهذا دينه أبدا وديني وما أشبه ذلك ؟ فإنهم لا صواب اللغة أصابوا ولا كتاب الله , وما دلت على صحته الأدلة اتبعوا . فيقال لقائلي ذلك : إن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه إذا قضى أمرا قال له : " كن " , أفتنكرون أن يكون قائلا ذلك ؟ فإن أنكروه كذبوا بالقرآن , وخرجوا من الملة , وإن قالوا : بل نقر به , ولكنا نزعم أن ذلك نظير قول القائل : قال الحائط فمال ولا قول هنالك , وإنما ذلك خبر عن ميل الحائط . قيل لهم : أفتجيزون للمخبر عن الحائط بالميل أن يقول : إنما قول الحائط إذا أراد أن يميل أن يقول هكذا فيميل ؟ فإن أجازوا ذلك خرجوا من معروف كلام العرب , وخالفوا منطقها وما يعرف في لسانها . وإن قالوا : ذلك غير جائز , قيل لهم : إن الله تعالى ذكره أخبرهم عن نفسه أن قوله للشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون , فأعلم عباده قوله الذي يكون به الشيء ووصفه ووكده . وذلك عندكم غير جائز في العبارة عما لا كلام له ولا بيان في مثل قول القائل : قال الحائط فمال . فكيف لم يعلموا بذلك فرق ما بين معنى قول الله : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } وقول القائل : قال الحائط فمال ؟ وللبيان عن فساد هذه المقالة موضع غير هذا نأتي فيه على القول بما فيه الكفاية إن شاء الله . وإذا كان الأمر في قوله جل ثناؤه : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } هو ما وصفنا من أن حال أمره الشيء بالوجود حال وجود المأمور بالوجود , فتبين بذلك أن الذي هو أولى بقوله : { فيكون } رفع على العطف على قوله : { يقول } لأن القول والكون حالهما واحد . وهو نظير قول القائل : تاب فلان فاهتدى , واهتدى فلان فتاب ; لأنه لا يكون تائبا إلا وهو مهتد , ولا مهتديا إلا وهو تائب . فكذلك لا يمكن أن يكون الله آمرا شيئا بالوجود إلا وهو موجود , ولا موجودا إلا وهو آمره بالوجود ; ولذلك استجاز من استجاز نصب " فيكون " من قرأ : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } 16 40 بالمعنى الذي وصفنا على معنى : أن نقول فيكون . وأما رفع من رفع ذلك , فإنه رأى أن الخبر قد تم عند قوله : { إذا أردناه أن نقول له كن } إذ كان معلوما أن الله إذا حتم قضاءه على شيء كان المحتوم عليه موجودا , ثم ابتدأ بقوله : فيكون , كما قال جل ثناؤه : { لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء } , 22 5 وكما قال ابن أحمر : يعالج عاقرا أعيت عليه ليلقحها فينتجها حوارا يريد : فإذا هو ينتجها حوارا . فمعنى الآية إذا : وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه أن يكون له ولد بل هو مالك السموات والأرض وما فيهما , كل ذلك مقر له بالعبودية بدلالته على وحدانيته . وأنى يكون له ولد , وهو الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل , كالذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته وسلطانه , الذي لا يتعذر عليه به شيء أراده ! بل إنما يقول له إذا قضاه فأراد تكوينه : " كن " , فيكون موجودا كما أراده وشاءه . فكذلك كان ابتداعه المسيح وإنشاءه إذ أراد خلقه من غير والد .