أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ القول في تأويل قوله تعالى : { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية . فقال بعضهم بما : 1473 - حدثنا به أبو كريب , قال : حدثني يونس بن بكير , وحدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة بن الفضل , قالا : ثنا ابن إسحاق , قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت , قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس : قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك ! فأنزل الله في ذلك من قولهم : { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } الآية . وقال آخرون بما : 1474 - حدثنا بشر بن معاذ , قال ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } وكان موسى يسأل فقيل له : { أرنا الله جهرة } . 4 153 1475 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } أن يريهم الله جهرة , فسألت العرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة . وقال آخرون بما : 1476 - حدثني به محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله : { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } أن يريهم الله جهرة . فسألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له الصفا ذهبا , قال : " نعم , وهو لكم كمائدة بني إسرائيل إن كفرتم " . فأبوا ورجعوا . * حدثنا القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد قال : سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا , فقال : " نعم , وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم " . فأبوا ورجعوا , فأنزل الله { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } أن يريهم الله جهرة . * حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد مثله . وقال آخرون بما : 1477 - حدثني به المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع , عن أبي العالية , قال : قال رجل : يا رسول الله لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم لا نبغيها ! ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل ; فقال النبي : كانت بنو إسرائيل إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها , فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا , وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة . وقد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل , قال : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } " 4 110 قال : وقال : " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن " . وقال : " من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة , فإن عملها كتبت له عشر أمثالها , ولا يهلك على الله إلا هالك " . فأنزل الله : { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } . واختلف أهل العربية في معنى { أم } التي في قوله : { أم تريدون } . فقال بعض البصريين : هي بمعنى الاستفهام , وتأويل الكلام : أتريدون أن تسألوا رسولكم ؟ وقال آخرون منهم : هي بمعنى استفهام مستقبل منقطع من الكلام , كأنك تميل بها إلى أوله كقول العرب : إنها لإبل يا قوم أم شاء , ولقد كان كذا وكذا أم حدس نفسي . قال : وليس قوله : { أم تريدون } على الشك ; ولكنه قاله ليقبح له صنيعهم . واستشهد لقوله ذلك ببيت الأخطل : كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا وقال بعض نحويي الكوفيين : إن شئت جعلت قوله : { أم تريدون } استفهاما على كلام قد سبقه , كما قال جل ثناؤه : { ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه } 32 1 - 3 فجاءت " أم " وليس قبلها استفهام . فكان ذلك عنده دليلا على أنه استفهام مبتدأ على كلام سبقه . وقال قائل هذه المقالة : " أم " في المعنى تكون ردا على الاستفهام على جهتين , إحداهما : أن تعرف معنى " أي " , والأخرى أن يستفهم بها , ويكون على جهة النسق , والذي ينوي به الابتداء ; إلا أنه ابتداء متصل بكلام , فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلام ثم استفهمت لم يكن إلا بالألف أو ب " هل " . قال : وإن شئت قلت في قوله : { أم تريدون } قبله استفهام , فرد عليه وهو في قوله : { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } . والصواب من القول في ذلك عندي على ما جاءت به الآثار التي ذكرناها عن أهل التأويل أنه استفهام مبتدأ بمعنى : أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم ؟ وإنما جاز أن يستفهم القوم ب " أم " وإن كانت " أم " أحد شروطها أن تكون نسقا في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام ; لأنها تكون استفهاما مبتدأ إذا تقدمها سابق من الكلام , ولم يسمع من العرب استفهام بها ولم يتقدمها كلام . ونظيره قوله جل ثناؤه : { ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه } . وقد تكون " أم " بمعنى " بل " إذا سبقها استفهام لا يصلح فيه " أي " , فيقولون : هل لك قبلنا حق , أم أنت رجل معروف بالظلم ؟ وقال الشاعر : فوالله ما أدري أسلمى تغولت أم القوم أم كل إلي حبيب يعني : بل كل إلي حبيب . وقد كان بعضهم يقول منكرا قول من زعم أن " أم " في قوله : { أم تريدون } استفهام مستقبل منقطع من الكلام يميل بها إلى أوله أن الأول خبر والثاني استفهام , والاستفهام لا يكون في الخبر , والخبر لا يكون في الاستفهام ; ولكن أدركه الشك بزعمه بعد مضي الخبر , فاستفهم . فإذا كان معنى " أم " ما وصفنا , فتأويل الكلام : أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم من الأشياء نظير ما سأل قوم موسى من قبلكم , فتكفروا إن منعتموه في مسألتكم ما لا يجوز في حكمة الله إعطاؤكموه , أو أن تهلكوا , إن كان مما يجوز في حكمته عطاؤكموه فأعطاكموه ثم كفرتم من بعد ذلك , كما هلك من كان قبلكم من الأمم التي سألت أنبياءها ما لم يكن لها مسألتها إياهم , فلما أعطيت كفرت , فعوجلت بالعقوبات لكفرها بعد إعطاء الله إياها سؤلها . وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ القول في تأويل قوله تعالى : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } . يعني جل ثناؤه بقوله : { ومن يتبدل } ومن يستبدل الكفر ; ويعني بالكفر : الجحود بالله وبآياته { بالإيمان } , يعني بالتصديق بالله وبآياته والإقرار به . وقد قيل عني بالكفر في هذا الموضع الشدة وبالإيمان الرخاء . ولا أعرف الشدة في معاني الكفر , ولا الرخاء في معنى الإيمان , إلا أن يكون قائل ذلك أراد بتأويله الكفر بمعنى الشدة في هذا الموضع وبتأويله الإيمان في معنى الرخاء ما أعد الله للكفار في الآخرة من الشدائد , وما أعد الله لأهل الإيمان فيها من النعيم , فيكون ذلك وجها وإن كان بعيدا من المفهوم بظاهر الخطاب . ذكر من قال ذلك : 1478 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن أبي العالية : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } يقول : يتبدل الشدة بالرخاء . * حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسن , قال : حدثني حجاج , عن ابن أبي جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية بمثله . وفي قوله : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } دليل واضح على ما قلنا من أن هذه الآيات من قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } خطاب من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعتاب منه لهم على أمر سلف منهم مما سر به اليهود وكرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم , فكرهه الله لهم . فعاتبهم على ذلك , وأعلمهم أن اليهود أهل غش لهم وحسد وبغي , وأنهم يتمنون لهم المكاره ويبغونهم الغوائل , ونهاهم أن ينتصحوهم , وأخبرهم أن من ارتد منهم عن دينه فاستبدل بإيمانه كفرا فقد أخطأ قصد السبيل . فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ القول في تأويل قوله تعالى : { فقد ضل سواء السبيل } . أما قوله : { فقد ضل } فإنه يعني به ذهب وحاد . وأصل الضلال عن الشيء : الذهاب عنه والحيد . ثم يستعمل في الشيء الهالك والشيء الذي لا يؤبه له , كقولهم للرجل الخامل الذي لا ذكر له ولا نباهة : ضل بن ضل , وقل بن قل ; كقول الأخطل في الشيء الهالك : كنت القذى في موج أكدر مزبد قذف الأتي به فضل ضلالا يعني : هلك فذهب . والذي عنى الله تعالى ذكره بقوله : { فقد ضل سواء السبيل } فقد ذهب عن سواء السبيل وحاد عنه . وأما تأويل قوله : { سواء السبيل } فإنه يعني بالسواء : القصد والمنهج , وأصل السواء : الوسط ; ذكر عن عيسى بن عمر النحوي أنه قال : " ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي " , يعني وسطي . وقال حسان بن ثابت : يا ويح أنصار النبي ونسله بعد المغيب في سواء الملحد يعني بالسواء الوسط . والعرب تقول : هو في سواء السبيل , يعني في مستوى السبيل . وسواء الأرض مستواها عندهم , وأما السبيل فإنها الطريق المسبول , صرف من مسبول إلى سبيل . فتأويل الكلام إذا : ومن يستبدل بالإيمان بالله وبرسوله الكفر فيرتد عن دينه , فقد حاد عن منهج الطريق ووسطه الواضح المسبول . وهذا القول ظاهره الخبر عن زوال المستبدل بالإيمان والكفر عن الطريق , والمعنى به الخبر عنه أنه ترك دين الله الذي ارتضاه لعباده وجعله لهم طريقا يسلكونه إلى رضاه , وسبيلا يركبونها إلى محبته والفوز بجناته . فجعل جل ثناؤه الطريق الذي إذا ركب محجته السائر فيه ولزم وسطه المجتاز فيه , نجا وبلغ حاجته وأدرك طلبته لدينه الذي دعا إليه عباده مثلا لإدراكهم بلزومه واتباعه إدراكهم طلباتهم في آخرتهم , كالذي يدرك اللازم محجة السبيل بلزومه إياها طلبته من النجاة منها , والوصول إلى الموضع الذي أمه وقصده . وجعل مثل الحائد عن دينه والحائد عن اتباع ما دعاه إليه من عبادته في حياته ما رجا أن يدركه بعمله في آخرته وينال به في معاده وذهابه عما أمل من ثواب عمله وبعده به من ربه , مثل الحائد عن منهج الطريق وقصد السبيل , الذي لا يزداد وغولا في الوجه الذي سلكه إلا ازداد من موضع حاجته بعدا , وعن المكان الذي أمه وأراده نأيا . وهذه السبيل التي أخبر الله عنها أن من يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواءها , هي الصراط المستقيم الذي أمرنا بمسألته الهداية له بقوله : { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } .
القول في تأويل قوله تعالى : { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية . فقال بعضهم بما : 1473 - حدثنا به أبو كريب , قال : حدثني يونس بن بكير , وحدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة بن الفضل , قالا : ثنا ابن إسحاق , قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت , قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس : قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك ! فأنزل الله في ذلك من قولهم : { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } الآية . وقال آخرون بما : 1474 - حدثنا بشر بن معاذ , قال ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } وكان موسى يسأل فقيل له : { أرنا الله جهرة } . 4 153 1475 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } أن يريهم الله جهرة , فسألت العرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة . وقال آخرون بما : 1476 - حدثني به محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله : { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } أن يريهم الله جهرة . فسألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له الصفا ذهبا , قال : " نعم , وهو لكم كمائدة بني إسرائيل إن كفرتم " . فأبوا ورجعوا . * حدثنا القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد قال : سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا , فقال : " نعم , وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم " . فأبوا ورجعوا , فأنزل الله { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } أن يريهم الله جهرة . * حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد مثله . وقال آخرون بما : 1477 - حدثني به المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع , عن أبي العالية , قال : قال رجل : يا رسول الله لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم لا نبغيها ! ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل ; فقال النبي : كانت بنو إسرائيل إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها , فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا , وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة . وقد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل , قال : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } " 4 110 قال : وقال : " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن " . وقال : " من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة , فإن عملها كتبت له عشر أمثالها , ولا يهلك على الله إلا هالك " . فأنزل الله : { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } . واختلف أهل العربية في معنى { أم } التي في قوله : { أم تريدون } . فقال بعض البصريين : هي بمعنى الاستفهام , وتأويل الكلام : أتريدون أن تسألوا رسولكم ؟ وقال آخرون منهم : هي بمعنى استفهام مستقبل منقطع من الكلام , كأنك تميل بها إلى أوله كقول العرب : إنها لإبل يا قوم أم شاء , ولقد كان كذا وكذا أم حدس نفسي . قال : وليس قوله : { أم تريدون } على الشك ; ولكنه قاله ليقبح له صنيعهم . واستشهد لقوله ذلك ببيت الأخطل : كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا وقال بعض نحويي الكوفيين : إن شئت جعلت قوله : { أم تريدون } استفهاما على كلام قد سبقه , كما قال جل ثناؤه : { ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه } 32 1 - 3 فجاءت " أم " وليس قبلها استفهام . فكان ذلك عنده دليلا على أنه استفهام مبتدأ على كلام سبقه . وقال قائل هذه المقالة : " أم " في المعنى تكون ردا على الاستفهام على جهتين , إحداهما : أن تعرف معنى " أي " , والأخرى أن يستفهم بها , ويكون على جهة النسق , والذي ينوي به الابتداء ; إلا أنه ابتداء متصل بكلام , فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلام ثم استفهمت لم يكن إلا بالألف أو ب " هل " . قال : وإن شئت قلت في قوله : { أم تريدون } قبله استفهام , فرد عليه وهو في قوله : { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } . والصواب من القول في ذلك عندي على ما جاءت به الآثار التي ذكرناها عن أهل التأويل أنه استفهام مبتدأ بمعنى : أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم ؟ وإنما جاز أن يستفهم القوم ب " أم " وإن كانت " أم " أحد شروطها أن تكون نسقا في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام ; لأنها تكون استفهاما مبتدأ إذا تقدمها سابق من الكلام , ولم يسمع من العرب استفهام بها ولم يتقدمها كلام . ونظيره قوله جل ثناؤه : { ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه } . وقد تكون " أم " بمعنى " بل " إذا سبقها استفهام لا يصلح فيه " أي " , فيقولون : هل لك قبلنا حق , أم أنت رجل معروف بالظلم ؟ وقال الشاعر : فوالله ما أدري أسلمى تغولت أم القوم أم كل إلي حبيب يعني : بل كل إلي حبيب . وقد كان بعضهم يقول منكرا قول من زعم أن " أم " في قوله : { أم تريدون } استفهام مستقبل منقطع من الكلام يميل بها إلى أوله أن الأول خبر والثاني استفهام , والاستفهام لا يكون في الخبر , والخبر لا يكون في الاستفهام ; ولكن أدركه الشك بزعمه بعد مضي الخبر , فاستفهم . فإذا كان معنى " أم " ما وصفنا , فتأويل الكلام : أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم من الأشياء نظير ما سأل قوم موسى من قبلكم , فتكفروا إن منعتموه في مسألتكم ما لا يجوز في حكمة الله إعطاؤكموه , أو أن تهلكوا , إن كان مما يجوز في حكمته عطاؤكموه فأعطاكموه ثم كفرتم من بعد ذلك , كما هلك من كان قبلكم من الأمم التي سألت أنبياءها ما لم يكن لها مسألتها إياهم , فلما أعطيت كفرت , فعوجلت بالعقوبات لكفرها بعد إعطاء الله إياها سؤلها .
القول في تأويل قوله تعالى : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } . يعني جل ثناؤه بقوله : { ومن يتبدل } ومن يستبدل الكفر ; ويعني بالكفر : الجحود بالله وبآياته { بالإيمان } , يعني بالتصديق بالله وبآياته والإقرار به . وقد قيل عني بالكفر في هذا الموضع الشدة وبالإيمان الرخاء . ولا أعرف الشدة في معاني الكفر , ولا الرخاء في معنى الإيمان , إلا أن يكون قائل ذلك أراد بتأويله الكفر بمعنى الشدة في هذا الموضع وبتأويله الإيمان في معنى الرخاء ما أعد الله للكفار في الآخرة من الشدائد , وما أعد الله لأهل الإيمان فيها من النعيم , فيكون ذلك وجها وإن كان بعيدا من المفهوم بظاهر الخطاب . ذكر من قال ذلك : 1478 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن أبي العالية : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } يقول : يتبدل الشدة بالرخاء . * حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسن , قال : حدثني حجاج , عن ابن أبي جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية بمثله . وفي قوله : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } دليل واضح على ما قلنا من أن هذه الآيات من قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } خطاب من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعتاب منه لهم على أمر سلف منهم مما سر به اليهود وكرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم , فكرهه الله لهم . فعاتبهم على ذلك , وأعلمهم أن اليهود أهل غش لهم وحسد وبغي , وأنهم يتمنون لهم المكاره ويبغونهم الغوائل , ونهاهم أن ينتصحوهم , وأخبرهم أن من ارتد منهم عن دينه فاستبدل بإيمانه كفرا فقد أخطأ قصد السبيل .
القول في تأويل قوله تعالى : { فقد ضل سواء السبيل } . أما قوله : { فقد ضل } فإنه يعني به ذهب وحاد . وأصل الضلال عن الشيء : الذهاب عنه والحيد . ثم يستعمل في الشيء الهالك والشيء الذي لا يؤبه له , كقولهم للرجل الخامل الذي لا ذكر له ولا نباهة : ضل بن ضل , وقل بن قل ; كقول الأخطل في الشيء الهالك : كنت القذى في موج أكدر مزبد قذف الأتي به فضل ضلالا يعني : هلك فذهب . والذي عنى الله تعالى ذكره بقوله : { فقد ضل سواء السبيل } فقد ذهب عن سواء السبيل وحاد عنه . وأما تأويل قوله : { سواء السبيل } فإنه يعني بالسواء : القصد والمنهج , وأصل السواء : الوسط ; ذكر عن عيسى بن عمر النحوي أنه قال : " ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي " , يعني وسطي . وقال حسان بن ثابت : يا ويح أنصار النبي ونسله بعد المغيب في سواء الملحد يعني بالسواء الوسط . والعرب تقول : هو في سواء السبيل , يعني في مستوى السبيل . وسواء الأرض مستواها عندهم , وأما السبيل فإنها الطريق المسبول , صرف من مسبول إلى سبيل . فتأويل الكلام إذا : ومن يستبدل بالإيمان بالله وبرسوله الكفر فيرتد عن دينه , فقد حاد عن منهج الطريق ووسطه الواضح المسبول . وهذا القول ظاهره الخبر عن زوال المستبدل بالإيمان والكفر عن الطريق , والمعنى به الخبر عنه أنه ترك دين الله الذي ارتضاه لعباده وجعله لهم طريقا يسلكونه إلى رضاه , وسبيلا يركبونها إلى محبته والفوز بجناته . فجعل جل ثناؤه الطريق الذي إذا ركب محجته السائر فيه ولزم وسطه المجتاز فيه , نجا وبلغ حاجته وأدرك طلبته لدينه الذي دعا إليه عباده مثلا لإدراكهم بلزومه واتباعه إدراكهم طلباتهم في آخرتهم , كالذي يدرك اللازم محجة السبيل بلزومه إياها طلبته من النجاة منها , والوصول إلى الموضع الذي أمه وقصده . وجعل مثل الحائد عن دينه والحائد عن اتباع ما دعاه إليه من عبادته في حياته ما رجا أن يدركه بعمله في آخرته وينال به في معاده وذهابه عما أمل من ثواب عمله وبعده به من ربه , مثل الحائد عن منهج الطريق وقصد السبيل , الذي لا يزداد وغولا في الوجه الذي سلكه إلا ازداد من موضع حاجته بعدا , وعن المكان الذي أمه وأراده نأيا . وهذه السبيل التي أخبر الله عنها أن من يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواءها , هي الصراط المستقيم الذي أمرنا بمسألته الهداية له بقوله : { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } .