وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ القول في تأويل قوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن الميثاق مفعال , من التوثق باليمين ونحوها من الأمور التي تؤكد القول . فمعنى الكلام إذا : واذكروا أيضا يا معشر بني إسرائيل إذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله . كما : 1192 - حدثني به ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : حدثني ابن إسحاق , قال : حدثني محمد بن أبي محمد , عن سعيد بن جبير أو عكرمة , عن ابن عباس : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } أي ميثاقكم { لا تعبدون إلا الله } . قال أبو جعفر : والقراءة مختلفة في قراءة قوله : { لا تعبدون } فبعضهم يقرؤها بالتاء , وبعضهم يقرؤها بالياء , والمعنى في ذلك واحد . وإنما جازت القراءة بالياء والتاء وأن يقال : { لا تعبدون } ; و { لا يعبدون } وهم غيب ; لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف , فكما تقول : استحلفت أخاك ليقومن , فتخبر عنه خبرك عن الغائب لغيبته عنك , وتقول : استحلفته لتقومن , فتخبر عنه خبرك عن المخاطب ; لأنك قد كنت خاطبته بذلك , فيكون ذلك صحيحا جائزا , فكذلك قوله : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } و { لا يعبدون } . من قرأ ذلك بالتاء فمعنى الخطاب إذ كان الخطاب قد كان بذلك , ومن قرأ بالياء فلأنهم ما كانوا مخاطبين بذلك في وقت الخبر عنهم . وأما رفع لا تعبدون فبالتاء التي في تعبدون , ولا ينصب ب " أن " التي كانت تصلح أن تدخل مع : { لا تعبدون إلا الله } لأنها إذا صلح دخولها على فعل فحذفت ولم تدخل كان وجه الكلام فيه الرفع كما قال جل ثناؤه : { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } فرفع " أعبد " إذ لم تدخل فيها أن بالألف الدالة على معنى الاستقبال . وكما قال الشاعر : ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي فرفع " أحضر " وإن كان يصلح دخول " أن " فيها , إذ حذفت بالألف التي تأتي بمعنى الاستقبال . وإنما صلح حذف " أن " من قوله : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون } لدلالة ما ظهر من الكلام عليها , فاكتفى بدلالة الظاهر عليها منها . وقد كان بعض نحويي البصرة يقول : معنى قوله : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } حكاية , كأنك قلت : استحلفناهم لا تعبدون , أي قلنا لهم : والله لا تعبدون , وقالوا : والله لا يعبدون . والذي قال من ذلك قريب معناه من معنى القول الذي قلنا في ذلك . وبنحو الذي قلنا في قوله : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } تأوله أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 1193 - حدثني المثنى , قال : ثنا آدم , قال : ثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية : أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له وأن لا يعبدوا غيره . 1194 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : أخبرنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } قال : أخذنا ميثاقهم أن يخلصوا لله ولا يعبدوا غيره . 1195 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } قال : الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة . وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا القول في تأويل قوله تعالى : { وبالوالدين إحسانا } . وقوله جل ثناؤه : { وبالوالدين إحسانا } عطف على موضع " أن " المحذوفة في { لا تعبدون إلا الله } . فكان معنى الكلام : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلا الله وبالوالدين إحسانا . فرفع { لا تعبدون } لما حذف " أن " , ثم عطف بالوالدين على موضعها , كما قال الشاعر : معاوي إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا فنصب " الحديد " على العطف به على موضع الجبال ; لأنها لو لم تكن فيها باء خافضة كانت نصبا , فعطف بالحديث على معنى الجبال لا على لفظها , فكذلك ما وصفت من قوله : { وبالوالدين إحسانا } . وأما الإحسان فمنصوب بفعل مضمر يؤدي معناه قوله : { وبالوالدين } إذ كان مفهوما معناه , فكان معنى الكلام لو أظهر المحذوف : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلا الله , وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا . فاكتفى بقوله : { وبالوالدين } من أن يقال : وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا , إذ كان مفهوما أن ذلك معناه بما ظهر من الكلام . وقد زعم بعض أهل العربية في ذلك أن معناه : وبالوالدين فأحسنوا إحسانا ; فجعل " الباء " التي في " الوالدين " من صلة الإحسان مقدمة عليه . وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن لا تعبدوا إلا الله , وأحسنوا بالوالدين إحسانا . فزعموا أن " الباء " التي في " الوالدين " من صلة المحذوف , أعني " أحسنوا " , فجعلوا ذلك من كلامين . وإنما يصرف الكلام إلى ما ادعوا من ذلك إذا لم يوجد لاتساق الكلام على كلام واحد وجه , فأما وللكلام وجه مفهوم على اتساقه على كلام واحد فلا وجه لصرفه إلى كلامين . وأخرى : أن القول في ذلك لو كان على ما قالوا لقيل : " وإلى الوالدين إحسانا " ; لأنه إنما يقال : أحسن فلان إلى والديه , ولا يقال : أحسن بوالديه , إلا على استكراه للكلام . ولكن القول فيه ما قلنا , وهو : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بكذا وبالوالدين إحسانا , على ما بينا قبل . فيكون والإحسان حينئذ مصدرا من الكلام لا من لفظه كما بينا فيما مضى من نظائره . فإن قال قائل : وما ذلك الإحسان الذي أخذ عليهم وبالوالدين الميثاق ؟ قيل : نظير ما فرض الله على أمتنا لهما من فعل المعروف لهما والقول الجميل , وخفض جناح الذل رحمة بهما والتحنن عليهما , والرأفة بهما والدعاء بالخير لهما , وما أشبه ذلك من الأفعال التي ندب الله عباده أن يفعلوا بهما . وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ القول في تأويل قوله تعالى : { وذي القربى واليتامى والمساكين } . يعني بقوله : { وذي القربى } وبذي القربى أن يصلوا قرابته منهم ورحمه . والقربى مصدر على تقدير " فعلى " من قولك : قربت مني رحم فلان قرابة وقربى وقربا بمعنى واحد . وأما اليتامى فهم جمع يتيم , مثل أسير وأسارى ; ويدخل في اليتامى الذكور منهم والإناث . ومعنى ذلك : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وحده دون من سواه من الأنداد وبالوالدين إحسانا وبذي القربى , أن تصلوا رحمه , وتعرفوا حقه , وباليتامى : أن تتعطفوا عليهم بالرحمة والرأفة , وبالمساكين : أن تؤتوهم حقوقهم التي ألزمها الله أموالكم . والمسكين : هو المتخشع المتذلل من الفاقة والحاجة , وهو " مفعيل " من المسكنة , والمسكنة هي ذل الحاجة والفاقة . وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا القول في تأويل قوله تعالى : { وقولوا للناس حسنا } . إن قال قائل : كيف قيل : { وقولوا للناس حسنا } فأخرج الكلام أمرا ولما يتقدمه أمر , بل الكلام جار من أول الآية مجرى الخبر ؟ قيل : إن الكلام وإن كان قد جرى في أول الآية مجرى الخبر فإنه مما يحسن في موضعه الخطاب بالأمر والنهي , فلو كان مكان : " لا تعبدون إلا الله " " لا تعبدوا إلا الله " على وجه النهي من الله لهم عن عبادة غيره كان حسنا صوابا ; وقد ذكر أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب . وإنما حسن ذلك وجاز لو كان مقروءا به لأن أخذ الميثاق قول , فكان معنى الكلام لو كان مقروءا كذلك : وإذ قلنا لبني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله , كما قال جل ثناؤه في موضع آخر : { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة } . 2 63 فلما كان حسنا وضع الأمر والنهي في موضع : { لا تعبدون إلا الله } ; عطف بقوله : { وقولوا للناس حسنا } على موضع { لا تعبدون } ; وإن كان مخالفا كل واحد منهما معناه معنى ما فيه , لما وصفنا من جواز وضع الخطاب بالأمر والنهي موضع لا تعبدون ; فكأنه قيل : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله , وقولوا للناس حسنا . وهو نظير ما قدمنا البيان عنه من أن العرب تبتدئ الكلام أحيانا على وجه الخبر عن الغائب في موضع الحكايات لما أخبرت عنه , ثم تعود إلى الخبر على وجه الخطاب , وتبتدئ أحيانا على وجه الخطاب ثم تعود إلى الإخبار على وجه الخبر عن الغائب لما في الحكاية من المعنيين ; كما قال الشاعر : أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت يعني تقليت , وأما " الحسن " فإن القراءة اختلفت في قراءته , فقرأته عامة قراءة الكوفة غير عاصم : { وقولوا للناس حسنا } بفتح الحاء والسين . وقرأته عامة قراء المدينة : { حسنا } بضم الحاء وتسكين السين . وقد روي عن بعض القراء أنه كان يقرأ : { وقولوا للناس حسنا } على مثال " فعلى " . واختلف أهل العربية في فرق ما بين معنى قوله : حسنا , وحسنا . فقال بعض البصريين : هو على أحد وجهين : إما أن يكون يراد بالحسن الحسن , وكلاهما لغة , كما يقال : البخل والبخل . إما أن يكون جعل الحسن هو الحسن في التشبيه , وذلك أن الحسن مصدر , والحسن هو الشيء الحسن , ويكون ذلك حينئذ كقولك : " إنما أنت أكل وشرب " , وكما قال الشاعر : وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع فجعل التحية ضربا . وقال آخر : بل " الحسن " هو الاسم العام الجامع جميع معاني الحسن , " والحسن " هو البعض من معاني الحسن , قال : ولذلك قال جل ثناؤه إذ أوصى بالوالدين : { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } 29 8 يعني بذلك أنه وصاه فيهما بجميع معاني الحسن , وأمر في سائر الناس ببعض الذي أمره به في والديه فقال : { وقولوا للناس حسنا } يعني بذلك بعض معاني الحسن . والذي قاله هذا القائل في معنى " الحسن " بضم الحاء وسكون السين غير بعيد من الصواب , وأنه اسم لنوعه الذي سمي به . وأما " الحسن " فإنه صفة وقعت لما وصف به , وذلك يقع بخاص . وإذا كان الأمر كذلك , فالصواب من القراءة في قوله : { وقولوا للناس حسنا } لأن القوم إنما أمروا في هذا العهد الذي قيل لهم : وقولوا للناس باستعمال الحسن من القول دون سائر معاني الحسن , الذي يكون بغير القول , وذلك نعت لخاص من معاني الحسن وهو القول . فلذلك أخترت قراءته بفتح الحاء والسين , على قراءته بضم الحاء وسكون السين . وأما الذي قرأ ذلك : { وقولوا للناس حسنا } فإنه خالف بقراءته إياه كذلك قراءة أهل الإسلام , وكفى شاهدا على خطأ القراءة بها كذلك خروجها من قراءة أهل الإسلام لو لم يكن على خطئها شاهد غيره , فكيف وهي مع ذلك خارجة من المعروف من كلام العرب ؟ وذلك أن العرب لا تكاد أن تتكلم بفعلى وأفعل إلا بالألف واللام أو بالإضافة , لا يقال : جاءني أحسن حتى يقولوا الأحسن , ولا يقال أجمل حتى يقولوا الأجمل , وذلك أن الأفعل والفعلى لا يكادان يوجدان صفة إلا لمعهود معروف , كما تقول : بل أخوك الأحسن , وبل أختك الحسنا , وغير جائز أن يقال : امرأة حسنا , ورجل أحسن . وأما تأويل القول الحسن الذي أمر الله به الذين وصف أمرهم من بني إسرائيل في هذه الآية أن يقولوه للناس , فهو ما : 1196 - حدثنا به أبو كريب , قال : ثنا عثمان بن سعيد , عن بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله : { وقولوا للناس حسنا } أمرهم أيضا بعد هذا الخلق أن يقولوا للناس حسنا : أن يأمروا بلا إله إلا الله من لم يقلها ورغب عنها حتى يقولوها كما قالوها , فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه . وقال الحسن أيضا : لين القول من الأدب الحسن الجميل , والخلق الكريم , وهو مما ارتضاه الله وأحبه . 1197 - حدثني المثنى , قال : ثنا آدم , قال ثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية : { وقولوا للناس حسنا } قال : قولوا للناس معروفا . 1198 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثنا حجاج , عن ابن جريج : { وقولوا للناس حسنا } قال : صدقا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم . 1199 - وحدثت عن يزيد بن هارون , قال : سمعت سفيان الثوري , يقول في قوله : { وقولوا للناس حسنا } قال : مروهم بالمعروف , وانهوهم عن المنكر . 1200 - حدثني هارون بن إدريس الأصم , قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي , قال : ثنا عبد الملك بن أبي سليمان , قال : سألت عطاء بن أبي رباح , عن قول الله جل ثناؤه : { وقولوا للناس حسنا } قال : من لقيت من الناس فقل له حسنا من القول . قال : وسألت أبا جعفر , فقال مثل ذلك . 1201 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا القاسم , قال : أخبرنا عبد الملك , عن أبي جعفر وعطاء بن أبي رباح في قوله : { وقولوا للناس حسنا } قال : للناس كلهم . * - حدثني يعقوب , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا عبد الملك , عن عطاء مثله . وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ القول في تأويل قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة } . يعني بقوله : { وأقيموا الصلاة } أدوها بحقوقها الواجبة عليكم فيها . كما : 1202 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا عثمان بن سعيد , عن بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن مسعود , قال : { وأقيموا الصلاة } هذه , وإقامة الصلاة تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها . وَآتُوا الزَّكَاةَ القول في تأويل قوله تعالى : { وآتوا الزكاة } . قد بينا فيما مضى قبل معنى الزكاة وما أصلها . وأما الزكاة التي كان الله أمر بها بني إسرائيل الذين ذكر أمرهم في هذه الآية , فهي ما : 1203 - حدثنا به أبو كريب , قال : ثنا عثمان بن سعيد , عن بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس : { وآتوا الزكاة } قال : إيتاء الزكاة ما كان الله فرض عليهم في أموالهم من الزكاة , وهي سنة كانت لهم غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم ; كانت زكاة أموالهم قربانا تهبط إليه نار فتحملها , فكان ذلك تقبله , ومن لم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل . وكان الذي قرب من مكسب لا يحل من ظلم أو غشم , أو أخذ بغير ما أمر الله به وبينه له . 1204 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : حدثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس : { وآتوا الزكاة } يعني بالزكاة : طاعة الله والإخلاص . ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ القول في تأويل قوله تعالى : { ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون } . وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بني إسرائيل أنهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه , بعدما أخذ الله ميثاقهم على الوفاء له بأن لا يعبدوا غيره , وأن يحسنوا إلى الآباء والأمهات , ويصلوا الأرحام , ويتعطفوا على الأيتام , ويؤدوا حقوق أهل المسكنة إليهم , ويأمروا عباد الله بما أمرهم الله به ويحثوهم على طاعته , ويقيموا الصلاة بحدودها وفرائضها , ويؤتوا زكاة أموالهم . فخالفوا أمره في ذلك كله , وتولوا عنه معرضين , إلا من عصمه الله منهم فوفى لله بعهده وميثاقه . كما : 1205 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا عثمان بن سعيد , عن بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك عن ابن عباس , قال : لما فرض الله جل وعز عليهم - يعني على هؤلاء الذين وصف الله أمرهم في كتابه من بني إسرائيل - هذا الذي ذكر أنه أخذ ميثاقهم به , أعرضوا عنه استثقالا وكراهية , وطلبوا ما خف عليهم إلا قليلا منهم , وهم الذين استثنى الله فقال : { ثم توليتم } يقول : أعرضتم عن طاعتي { إلا قليلا منكم } قال : القليل الذين اخترتهم لطاعتي , وسيحل عقابي بمن تولى وأعرض عنها ; يقول : تركها استخفافا بها . 1206 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : ثنا ابن إسحاق , قال : حدثني محمد بن أبي محمد , عن سعيد بن جبير أو عن عكرمة , عن ابن عباس : { ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون } أي تركتم ذلك كله . وقال بعضهم : عنى الله جل ثناؤه بقوله : { وأنتم معرضون } اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , وعنى بسائر الآية أسلافهم ; كأنه ذهب إلى أن معنى الكلام : { ثم توليتم إلا قليلا منكم } ثم تولى سلفكم إلا قليلا منهم , ولكنه جعل خطابا لبقايا نسلهم على ما ذكرناه فيما مضى قبل . ثم قال : وأنتم يا معشر بقاياهم معرضون أيضا عن الميثاق الذي أخذ عليكم بذلك وتاركوه ترك أوائلكم . وقال آخرون : بل قوله : { ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون } خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل , وذم لهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة وتبديلهم أمر الله وركوبهم معاصيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن الميثاق مفعال , من التوثق باليمين ونحوها من الأمور التي تؤكد القول . فمعنى الكلام إذا : واذكروا أيضا يا معشر بني إسرائيل إذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله . كما : 1192 - حدثني به ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : حدثني ابن إسحاق , قال : حدثني محمد بن أبي محمد , عن سعيد بن جبير أو عكرمة , عن ابن عباس : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } أي ميثاقكم { لا تعبدون إلا الله } . قال أبو جعفر : والقراءة مختلفة في قراءة قوله : { لا تعبدون } فبعضهم يقرؤها بالتاء , وبعضهم يقرؤها بالياء , والمعنى في ذلك واحد . وإنما جازت القراءة بالياء والتاء وأن يقال : { لا تعبدون } ; و { لا يعبدون } وهم غيب ; لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف , فكما تقول : استحلفت أخاك ليقومن , فتخبر عنه خبرك عن الغائب لغيبته عنك , وتقول : استحلفته لتقومن , فتخبر عنه خبرك عن المخاطب ; لأنك قد كنت خاطبته بذلك , فيكون ذلك صحيحا جائزا , فكذلك قوله : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } و { لا يعبدون } . من قرأ ذلك بالتاء فمعنى الخطاب إذ كان الخطاب قد كان بذلك , ومن قرأ بالياء فلأنهم ما كانوا مخاطبين بذلك في وقت الخبر عنهم . وأما رفع لا تعبدون فبالتاء التي في تعبدون , ولا ينصب ب " أن " التي كانت تصلح أن تدخل مع : { لا تعبدون إلا الله } لأنها إذا صلح دخولها على فعل فحذفت ولم تدخل كان وجه الكلام فيه الرفع كما قال جل ثناؤه : { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } فرفع " أعبد " إذ لم تدخل فيها أن بالألف الدالة على معنى الاستقبال . وكما قال الشاعر : ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي فرفع " أحضر " وإن كان يصلح دخول " أن " فيها , إذ حذفت بالألف التي تأتي بمعنى الاستقبال . وإنما صلح حذف " أن " من قوله : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون } لدلالة ما ظهر من الكلام عليها , فاكتفى بدلالة الظاهر عليها منها . وقد كان بعض نحويي البصرة يقول : معنى قوله : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } حكاية , كأنك قلت : استحلفناهم لا تعبدون , أي قلنا لهم : والله لا تعبدون , وقالوا : والله لا يعبدون . والذي قال من ذلك قريب معناه من معنى القول الذي قلنا في ذلك . وبنحو الذي قلنا في قوله : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } تأوله أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 1193 - حدثني المثنى , قال : ثنا آدم , قال : ثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية : أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له وأن لا يعبدوا غيره . 1194 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : أخبرنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } قال : أخذنا ميثاقهم أن يخلصوا لله ولا يعبدوا غيره . 1195 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } قال : الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وبالوالدين إحسانا } . وقوله جل ثناؤه : { وبالوالدين إحسانا } عطف على موضع " أن " المحذوفة في { لا تعبدون إلا الله } . فكان معنى الكلام : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلا الله وبالوالدين إحسانا . فرفع { لا تعبدون } لما حذف " أن " , ثم عطف بالوالدين على موضعها , كما قال الشاعر : معاوي إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا فنصب " الحديد " على العطف به على موضع الجبال ; لأنها لو لم تكن فيها باء خافضة كانت نصبا , فعطف بالحديث على معنى الجبال لا على لفظها , فكذلك ما وصفت من قوله : { وبالوالدين إحسانا } . وأما الإحسان فمنصوب بفعل مضمر يؤدي معناه قوله : { وبالوالدين } إذ كان مفهوما معناه , فكان معنى الكلام لو أظهر المحذوف : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلا الله , وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا . فاكتفى بقوله : { وبالوالدين } من أن يقال : وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا , إذ كان مفهوما أن ذلك معناه بما ظهر من الكلام . وقد زعم بعض أهل العربية في ذلك أن معناه : وبالوالدين فأحسنوا إحسانا ; فجعل " الباء " التي في " الوالدين " من صلة الإحسان مقدمة عليه . وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن لا تعبدوا إلا الله , وأحسنوا بالوالدين إحسانا . فزعموا أن " الباء " التي في " الوالدين " من صلة المحذوف , أعني " أحسنوا " , فجعلوا ذلك من كلامين . وإنما يصرف الكلام إلى ما ادعوا من ذلك إذا لم يوجد لاتساق الكلام على كلام واحد وجه , فأما وللكلام وجه مفهوم على اتساقه على كلام واحد فلا وجه لصرفه إلى كلامين . وأخرى : أن القول في ذلك لو كان على ما قالوا لقيل : " وإلى الوالدين إحسانا " ; لأنه إنما يقال : أحسن فلان إلى والديه , ولا يقال : أحسن بوالديه , إلا على استكراه للكلام . ولكن القول فيه ما قلنا , وهو : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بكذا وبالوالدين إحسانا , على ما بينا قبل . فيكون والإحسان حينئذ مصدرا من الكلام لا من لفظه كما بينا فيما مضى من نظائره . فإن قال قائل : وما ذلك الإحسان الذي أخذ عليهم وبالوالدين الميثاق ؟ قيل : نظير ما فرض الله على أمتنا لهما من فعل المعروف لهما والقول الجميل , وخفض جناح الذل رحمة بهما والتحنن عليهما , والرأفة بهما والدعاء بالخير لهما , وما أشبه ذلك من الأفعال التي ندب الله عباده أن يفعلوا بهما .
القول في تأويل قوله تعالى : { وذي القربى واليتامى والمساكين } . يعني بقوله : { وذي القربى } وبذي القربى أن يصلوا قرابته منهم ورحمه . والقربى مصدر على تقدير " فعلى " من قولك : قربت مني رحم فلان قرابة وقربى وقربا بمعنى واحد . وأما اليتامى فهم جمع يتيم , مثل أسير وأسارى ; ويدخل في اليتامى الذكور منهم والإناث . ومعنى ذلك : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وحده دون من سواه من الأنداد وبالوالدين إحسانا وبذي القربى , أن تصلوا رحمه , وتعرفوا حقه , وباليتامى : أن تتعطفوا عليهم بالرحمة والرأفة , وبالمساكين : أن تؤتوهم حقوقهم التي ألزمها الله أموالكم . والمسكين : هو المتخشع المتذلل من الفاقة والحاجة , وهو " مفعيل " من المسكنة , والمسكنة هي ذل الحاجة والفاقة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وقولوا للناس حسنا } . إن قال قائل : كيف قيل : { وقولوا للناس حسنا } فأخرج الكلام أمرا ولما يتقدمه أمر , بل الكلام جار من أول الآية مجرى الخبر ؟ قيل : إن الكلام وإن كان قد جرى في أول الآية مجرى الخبر فإنه مما يحسن في موضعه الخطاب بالأمر والنهي , فلو كان مكان : " لا تعبدون إلا الله " " لا تعبدوا إلا الله " على وجه النهي من الله لهم عن عبادة غيره كان حسنا صوابا ; وقد ذكر أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب . وإنما حسن ذلك وجاز لو كان مقروءا به لأن أخذ الميثاق قول , فكان معنى الكلام لو كان مقروءا كذلك : وإذ قلنا لبني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله , كما قال جل ثناؤه في موضع آخر : { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة } . 2 63 فلما كان حسنا وضع الأمر والنهي في موضع : { لا تعبدون إلا الله } ; عطف بقوله : { وقولوا للناس حسنا } على موضع { لا تعبدون } ; وإن كان مخالفا كل واحد منهما معناه معنى ما فيه , لما وصفنا من جواز وضع الخطاب بالأمر والنهي موضع لا تعبدون ; فكأنه قيل : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله , وقولوا للناس حسنا . وهو نظير ما قدمنا البيان عنه من أن العرب تبتدئ الكلام أحيانا على وجه الخبر عن الغائب في موضع الحكايات لما أخبرت عنه , ثم تعود إلى الخبر على وجه الخطاب , وتبتدئ أحيانا على وجه الخطاب ثم تعود إلى الإخبار على وجه الخبر عن الغائب لما في الحكاية من المعنيين ; كما قال الشاعر : أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت يعني تقليت , وأما " الحسن " فإن القراءة اختلفت في قراءته , فقرأته عامة قراءة الكوفة غير عاصم : { وقولوا للناس حسنا } بفتح الحاء والسين . وقرأته عامة قراء المدينة : { حسنا } بضم الحاء وتسكين السين . وقد روي عن بعض القراء أنه كان يقرأ : { وقولوا للناس حسنا } على مثال " فعلى " . واختلف أهل العربية في فرق ما بين معنى قوله : حسنا , وحسنا . فقال بعض البصريين : هو على أحد وجهين : إما أن يكون يراد بالحسن الحسن , وكلاهما لغة , كما يقال : البخل والبخل . إما أن يكون جعل الحسن هو الحسن في التشبيه , وذلك أن الحسن مصدر , والحسن هو الشيء الحسن , ويكون ذلك حينئذ كقولك : " إنما أنت أكل وشرب " , وكما قال الشاعر : وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع فجعل التحية ضربا . وقال آخر : بل " الحسن " هو الاسم العام الجامع جميع معاني الحسن , " والحسن " هو البعض من معاني الحسن , قال : ولذلك قال جل ثناؤه إذ أوصى بالوالدين : { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } 29 8 يعني بذلك أنه وصاه فيهما بجميع معاني الحسن , وأمر في سائر الناس ببعض الذي أمره به في والديه فقال : { وقولوا للناس حسنا } يعني بذلك بعض معاني الحسن . والذي قاله هذا القائل في معنى " الحسن " بضم الحاء وسكون السين غير بعيد من الصواب , وأنه اسم لنوعه الذي سمي به . وأما " الحسن " فإنه صفة وقعت لما وصف به , وذلك يقع بخاص . وإذا كان الأمر كذلك , فالصواب من القراءة في قوله : { وقولوا للناس حسنا } لأن القوم إنما أمروا في هذا العهد الذي قيل لهم : وقولوا للناس باستعمال الحسن من القول دون سائر معاني الحسن , الذي يكون بغير القول , وذلك نعت لخاص من معاني الحسن وهو القول . فلذلك أخترت قراءته بفتح الحاء والسين , على قراءته بضم الحاء وسكون السين . وأما الذي قرأ ذلك : { وقولوا للناس حسنا } فإنه خالف بقراءته إياه كذلك قراءة أهل الإسلام , وكفى شاهدا على خطأ القراءة بها كذلك خروجها من قراءة أهل الإسلام لو لم يكن على خطئها شاهد غيره , فكيف وهي مع ذلك خارجة من المعروف من كلام العرب ؟ وذلك أن العرب لا تكاد أن تتكلم بفعلى وأفعل إلا بالألف واللام أو بالإضافة , لا يقال : جاءني أحسن حتى يقولوا الأحسن , ولا يقال أجمل حتى يقولوا الأجمل , وذلك أن الأفعل والفعلى لا يكادان يوجدان صفة إلا لمعهود معروف , كما تقول : بل أخوك الأحسن , وبل أختك الحسنا , وغير جائز أن يقال : امرأة حسنا , ورجل أحسن . وأما تأويل القول الحسن الذي أمر الله به الذين وصف أمرهم من بني إسرائيل في هذه الآية أن يقولوه للناس , فهو ما : 1196 - حدثنا به أبو كريب , قال : ثنا عثمان بن سعيد , عن بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله : { وقولوا للناس حسنا } أمرهم أيضا بعد هذا الخلق أن يقولوا للناس حسنا : أن يأمروا بلا إله إلا الله من لم يقلها ورغب عنها حتى يقولوها كما قالوها , فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه . وقال الحسن أيضا : لين القول من الأدب الحسن الجميل , والخلق الكريم , وهو مما ارتضاه الله وأحبه . 1197 - حدثني المثنى , قال : ثنا آدم , قال ثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية : { وقولوا للناس حسنا } قال : قولوا للناس معروفا . 1198 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثنا حجاج , عن ابن جريج : { وقولوا للناس حسنا } قال : صدقا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم . 1199 - وحدثت عن يزيد بن هارون , قال : سمعت سفيان الثوري , يقول في قوله : { وقولوا للناس حسنا } قال : مروهم بالمعروف , وانهوهم عن المنكر . 1200 - حدثني هارون بن إدريس الأصم , قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي , قال : ثنا عبد الملك بن أبي سليمان , قال : سألت عطاء بن أبي رباح , عن قول الله جل ثناؤه : { وقولوا للناس حسنا } قال : من لقيت من الناس فقل له حسنا من القول . قال : وسألت أبا جعفر , فقال مثل ذلك . 1201 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا القاسم , قال : أخبرنا عبد الملك , عن أبي جعفر وعطاء بن أبي رباح في قوله : { وقولوا للناس حسنا } قال : للناس كلهم . * - حدثني يعقوب , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا عبد الملك , عن عطاء مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة } . يعني بقوله : { وأقيموا الصلاة } أدوها بحقوقها الواجبة عليكم فيها . كما : 1202 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا عثمان بن سعيد , عن بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن مسعود , قال : { وأقيموا الصلاة } هذه , وإقامة الصلاة تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وآتوا الزكاة } . قد بينا فيما مضى قبل معنى الزكاة وما أصلها . وأما الزكاة التي كان الله أمر بها بني إسرائيل الذين ذكر أمرهم في هذه الآية , فهي ما : 1203 - حدثنا به أبو كريب , قال : ثنا عثمان بن سعيد , عن بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس : { وآتوا الزكاة } قال : إيتاء الزكاة ما كان الله فرض عليهم في أموالهم من الزكاة , وهي سنة كانت لهم غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم ; كانت زكاة أموالهم قربانا تهبط إليه نار فتحملها , فكان ذلك تقبله , ومن لم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل . وكان الذي قرب من مكسب لا يحل من ظلم أو غشم , أو أخذ بغير ما أمر الله به وبينه له . 1204 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : حدثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس : { وآتوا الزكاة } يعني بالزكاة : طاعة الله والإخلاص .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون } . وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بني إسرائيل أنهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه , بعدما أخذ الله ميثاقهم على الوفاء له بأن لا يعبدوا غيره , وأن يحسنوا إلى الآباء والأمهات , ويصلوا الأرحام , ويتعطفوا على الأيتام , ويؤدوا حقوق أهل المسكنة إليهم , ويأمروا عباد الله بما أمرهم الله به ويحثوهم على طاعته , ويقيموا الصلاة بحدودها وفرائضها , ويؤتوا زكاة أموالهم . فخالفوا أمره في ذلك كله , وتولوا عنه معرضين , إلا من عصمه الله منهم فوفى لله بعهده وميثاقه . كما : 1205 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا عثمان بن سعيد , عن بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك عن ابن عباس , قال : لما فرض الله جل وعز عليهم - يعني على هؤلاء الذين وصف الله أمرهم في كتابه من بني إسرائيل - هذا الذي ذكر أنه أخذ ميثاقهم به , أعرضوا عنه استثقالا وكراهية , وطلبوا ما خف عليهم إلا قليلا منهم , وهم الذين استثنى الله فقال : { ثم توليتم } يقول : أعرضتم عن طاعتي { إلا قليلا منكم } قال : القليل الذين اخترتهم لطاعتي , وسيحل عقابي بمن تولى وأعرض عنها ; يقول : تركها استخفافا بها . 1206 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : ثنا ابن إسحاق , قال : حدثني محمد بن أبي محمد , عن سعيد بن جبير أو عن عكرمة , عن ابن عباس : { ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون } أي تركتم ذلك كله . وقال بعضهم : عنى الله جل ثناؤه بقوله : { وأنتم معرضون } اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , وعنى بسائر الآية أسلافهم ; كأنه ذهب إلى أن معنى الكلام : { ثم توليتم إلا قليلا منكم } ثم تولى سلفكم إلا قليلا منهم , ولكنه جعل خطابا لبقايا نسلهم على ما ذكرناه فيما مضى قبل . ثم قال : وأنتم يا معشر بقاياهم معرضون أيضا عن الميثاق الذي أخذ عليكم بذلك وتاركوه ترك أوائلكم . وقال آخرون : بل قوله : { ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون } خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل , وذم لهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة وتبديلهم أمر الله وركوبهم معاصيه .