مقدمة الوحدة
البيئة التي تنفذ فيها أحكام النفس والحياة يأخذ هذا الدرس في بيان بعض الأحكام التشريعية الأساسية في الحياة البشرية وهي الأحكام المتعلقة بحماية النفس والحياة في المجتمع المسلم المحكوم بمنهج الله وشريعته وحماية النظام العام وصيانته من الخروج عليه وعلى السلطة التي تقوم عليه بأمر الله في ظل شريعة الله ; وعلى الجماعة المسلمة التي تعيش في ظل الشريعة الإسلامية والحكم الإسلامي وحماية المال والملكية الفردية في هذا المجتمع الذي يقوم نظامه الاجتماعي كله على شريعة الله وتستغرق هذه الأحكام المتعلقة بهذه الأمور الجوهرية في حياة المجتمع هذا الدرس ; مع تقدمة لهذه الأحكام بقصة ابني آدم التي تكشف عن طبيعة الجريمة وبواعثها في النفس البشرية ; كما تكشف عن بشاعة الجريمة وفجورها ; وضرورة الوقوف في وجهها والعقاب لفاعلها ; ومقاومة البواعث التي تحرك النفس للإقدام عليها وتبدو القصة وإيحاءاتها ملتحمة التحاما قويا مع الأحكام التالية لها في السياق القرآني ويحس القارى ء المتأمل للسياق بوظيفة هذه القصة في موضعها ; وبعمق الإيحاء الإقناعي الذي تسكبه في النفس وترسبه ; والاستعداد الذي تنشئه في القلب والعقل لتلقي الأحكام المشددة التي يواجه بها الإسلام جرائم الاعتداء على النفس والحياة ; والاعتداء على النظام العام ; والاعتداء على المال والملكية الفردية ; في ظل المجتمع الإسلامي ; القائم على منهج الله ; المحكوم بشريعته والمجتمع المسلم يقيم حياته كلها على منهج الله وشريعته ; وينظم شؤونه وارتباطاته وعلاقاته على أسس ذلك المنهج وعلى أحكام هذه الشريعة ومن ثم يكفل لكل فرد كما يكفل للجماعة كل عناصر العدالة والكفاية والاستقرار والطمأنينة ويكف عنه كل عوامل الاستفزاز والإثارة وكل عوامل الكبت والقمع وكل عوامل الظلم والاعتداء وكل عوامل الحاجة والضرورة وكذلك يصبح الاعتداء في مثل هذا المجتمع الفاضل العادل المتوازن المتكافل على النفس والحياة أو على النظام العام أو على الملكية الفردية ; جريمة بشعة منكرة مجردة عن البواعث المبررة أو المخففة بصفة عامة وهذا يفسر التشدد ضد الجريمة والمجرمين بعد تهيئة الظروف المساعدة على الاستقامة عند الأسوياء من الناس ; وتنحية البواعث على الجريمة من حياة الفرد وحياة الجماعة وإلى جانب هذا كله ومع هذا كله ; يكفل النظام الإسلامي للمجرم المعتدي كل الضمانات لسلامة التحقيق والحكم ; ويدرأ عنه الحدود بالشبهات ; ويفتح له كذلك باب التوبة التي تسقط الجريمة في حساب الدنيا في بعض الحالات وتسقطها في حساب الآخرة في كل الحالات وسنرى نماذج من هذا كله في هذا الدرس وفيما تضمنه من أحكام ولكن قبل أن نأخذ في المضي مع السياق وفي الحديث المباشر عن هذه الأحكام التي تضمنها لا بد أن نقول كلمة عامة ; عن البيئة التي تنفذ فيها هذه الأحكام ; والشروط التي تجعل لها قوة النفاذ إن هذه الأحكام الواردة في هذا الدرس سواء فيما يتعلق بالاعتداء على النفس أو الاعتداء على النظام العام ; أو الاعتداء على المال شأنها شأن سائر الأحكام الواردة في الشريعة في جرائم الحدود ; والقصاص ; والتعازيز كلها إنما تكون لها قوة التنفيذ في المجتمع المسلم في دار الإسلام ولا بد من بيان ما تعنيه الشريعة بدار الإسلام ينقسم العالم في نظر الإسلام وفي اعتبار المسلم إلى قسمين اثنين لا ثالث لهما الأول دار الإسلام وتشمل كل بلد تطبق فيه أحكام الإسلام وتحكمه شريعة الإسلام سواء كان أهله كلهم مسلمين أو كان أهله مسلمين وذميين أو كان أهله كلهم ذميين ولكن حكامه مسلمون يطبقون فيه أحكام الإسلام ويحكمونه بشريعة الإسلام أو كانوا مسلمين أو مسلمين وذميين ولكن غلب على بلادهم حربيون غير أن أهل البلد يطبقون أحكام الإسلام ويقضون بينهم حسب شريعة الإسلام فالمدار كله في اعتبار بلد ما دار إسلام هو تطبيقه لأحكام الإسلام وحكمه بشريعة الإسلام الثاني دار الحرب وتشمل كل بلد لا تطبق فيه أحكام الإسلام ولا يحكم بشريعة الإسلام كائنا أهله ما كانوا سواء قالوا إنهم مسلمون أو إنهم أهل كتاب أو أنهم كفار فالمدار كله في اعتبار بلد ما دار حرب هو عدم تطبيقه لأحكام الإسلام وعدم حكمه بشريعة الإسلام وهو يعتبر دار حرب بالقياس للمسلم وللجماعة المسلمة والمجتمع المسلم هو المجتمع الذي يقوم في دار الإسلام بتعريفها ذاك وهذا المجتمع القائم على منهج الله المحكوم بشريعته هو الذي يستحق أن تصان فيه الدماء وتصان فيه الأموال ; ويصان فيه النظام العام ; وأن توقع على المخلين بأمنه المعتدين على الأرواح والأموال فيه العقوبات التي تنص عليها الشريعة الإسلامية في هذا الدرس وفي سواه ذلك أنه مجتمع رفيع فاضل ; ومجتمع متحرر عادل ; ومجتمع مكفولة فيه ضمانات العمل وضمانات الكفاية لكل قادر ولكل عاجز ; ومجتمع تتوافر فيه الحوافز على الخير وتقل فيه الحوافز على الشر من جميع الوجوه فمن حقه إذن على كل من يعيش فيه أن يرعى هذه النعمة التي يسبغها عليه النظام ; وأن يرعى حقوق الآخرين كلها من أرواح وأموال وأعراض وأخلاق ; وأن يحافظ على سلامة دار الإسلام التي يعيش فيها آمنا سالما غانما مكفول الحقوق جميعا معترفا له بكل خصائصه الإنسانية وبكل حقوقه الاجتماعية بل مكلفا بحماية هذه الخصائص والحقوق فمن خرج بعد ذلك كله على نظام هذه الدار دار الإسلام فهو معتد أثيم شرير يستحق أن يؤخذ على يده بأشد العقوبات ; مع توفير كل الضمانات له في أن لا يؤخذ بالظن وأن تدرأ عنه الحدود بالشبهات فأما دار الحرب بتعريفها ذاك فليس من حقها ولا من حق أهلها أن يتمتعوا بما توفره عقوبات الشريعة الإسلامية من ضمانات لأنها ابتداء لا تطبق شريعة الإسلام ولا تعترف بحاكمية الإسلام وهي بالنسبة للمسلمين الذين يعيشون في دار الإسلام ويطبقون على حياتهم شريعة الإسلام ليست حمى فأرواحها وأموالها مباحة ; لا حرمة لها عند الإسلام إلا بعهد من المسلمين ; حين تقوم بينها وبين دار الإسلام المعاهدات كذلك توفر الشريعة هذه الضمانات كلها للأفراد الحربيين القادمين من دار الحرب إذا دخلوا دار الإسلام بعهد أمان ; مدة هذا العهد ; وفي حدود دار الإسلام التي تدخل في سلطان الحاكم المسلم والحاكم المسلم هو الذي يطبق شريعة الإسلام وعلى ضوء هذا البيان نستطيع أن نمضي مع السياق
الدرس الأول قصة ابني آدم والقصاص
واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين هذه القصة تقدم نموذجا لطبيعة الشر والعدوان ; ونموذجا كذلك من العدوان الصارخ الذي لا مبرر له كما تقدم نموذجا لطبيعة الخير والسماحة ; ونموذجا كذلك من الطيبة والوداعة وتقفهما وجها لوجه كل منهما يتصرف وفق طبيعته وترسم الجريمة المنكرة التي يرتكبها الشر والعدوان الصارخ الذي يثير الضمير ; ويثير الشعور بالحاجة إلى شريعة نافذة بالقصاص العادل تكف النموذج الشرير المعتدي عن الاعتداء وتخوفه وتردعه بالتخويف عن الإقدام على الجريمة ; فإذا ارتكبها على الرغم من ذلك وجد الجزاء العادل المكافى ء للفعلة المنكرة كما تصون النموذج الطيب الخير وتحفظ حرمة دمه فمثل هذه النفوس يجب أن تعيش وأن تصان وأن تأمن ; في ظل شريعة عادلة رادعة ولا يحدد السياق القرآني لا زمان ولا مكان ولا أسماء القصة وعلى الرغم من ورود بعض الآثار والروايات عن قابيل وهابيل وأنهما هما ابنا آدم في هذه القصة ; وورود تفصيلات عن القضية بينهما والنزاع على أختين لهما فإننا نؤثر أن نستبقي القصة كما وردت مجملة بدون تحديد لأن هذه الروايات كلها موضع شك في أنها مأخوذة عن أهل الكتاب والقصة واردة في العهد القديم محددة فيها الأسماء والزمان والمكان على النحو الذي تذكره هذه الروايات والحديث الوحيد الصحيح الوارد عن هذا النبأ لم يرد فيه تفصيل وهو من رواية ابن مسعود قال قال رسول الله ص < لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل > رواه الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدثنا الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن عبدالله بن مسعود وأخرجه الجماعة سوى أبى داود من طرق عن الأعمش وكل ما نستطيع أن نقوله هو أن الحادث وقع في فترة طفولة الإنسان وأنه كان أول حادث قتل عدواني متعمد وأن الفاعل لم يكن يعرف طريقة دفن الجثث وبقاء القصة مجملة كما وردت في سياقها القرآني يؤدي الغرض من عرضها ; ويؤدي الإيحاءات كاملة ; ولا تضيف التفصيلات شيئا إلى هذه الأهداف الأساسية لذلك نقف نحن عند النص العام لا نخصصه ولا نفصله واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين واتل عليهم نبأ هذين النموذجين من نماذج البشرية بعدما تلوت من قصة بني إسرائيل مع موسى اتله عليهم بالحق فهو حق وصدق في روايته وهو ينبى ء عن حق في الفطرة البشرية ; وهو يحمل الحق في ضرورة الشريعة العادلة الرادعة إن ابني آدم هذين في موقف لا يثور فيه خاطر الاعتداء في نفس طيبة فهما في موقف طاعة بين يدي الله موقف تقديم قربان يتقربان به إلى الله إذ قربا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر والفعل مبني للمجهول ; ليشير بناؤه هكذا إلى أن أمر القبول أو عدمه موكول إلى قوة غيبية ; وإلى كيفية غيبية وهذه الصياغة تفيدنا أمرين الأول ألا نبحث نحن عن كيفية هذا التقبل ولا نخوض فيه كما خاضت كتب التفسير في روايات نرجح إنها مأخوذة عن أساطير العهد القديم والثاني الإيحاء بأن الذي قبل قربانه لا جريره له توجب الحفيظة عليه وتبييت قتله فالأمر لم يكن له يد فيه ; وإنما تولته قوة غيبية بكيفية غيبية ; تعلو على إدراك كليهما وعلى مشيئته فما كان هناك مبرر ليحنق الأخ على أخيه وليجيش خاطر القتل في نفسه فخاطر القتل هو أبعد ما يرد على النفس المستقيمة في هذا المجال مجال العبادة والتقرب ومجال القدرة الغيبية الخفية التي لا دخل لإرادة أخيه في مجالها قال لأقتلنك وهكذا يبدو هذا القول بهذا التأكيد المنبى ء عن الإصرار نابيا مثيرا للاستنكار لأنه ينبعث من غير موجب ; اللهم إلا ذلك الشعور الخبيث المنكر شعور الحسد الأعمى ; الذي لا يعمر نفسا طيبة وهكذا نجدنا منذ اللحظة الأولى ضد الاعتداء بإيحاء الآية التي لم تكمل من السياق ولكن السياق يمضي يزيد هذا الاعتداء نكارة وبشاعة ; بتصوير استجابة النموذج الآخر ; ووداعته وطيبة قلبه قال إنما يتقبل الله من المتقين هكذا في براءة ترد الأمر إلى وضعه وأصله ; وفي إيمان يدرك أسباب القبول ; وفي توجيه رفيق للمعتدي أن يتقي الله ; وهداية له إلى الطريق الذي يؤدي إلى القبول ; وتعريض لطيف به لا يصرح بما يخدشه أو يستثيره ثم يمضى الأخ المؤمن التقي الوديع المسالم يكسر من شرة الشر الهائج في نفس أخيه الشرير لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين وهكذا يرتسم نموذج من الوداعة والسلام والتقوى ; في أشد المواقف استجاشة للضمير الإنساني ; وحماسة للمعتدى عليه ضد المعتدي ; وإعجابا بهدوئه واطمئنانه أمام نذر الاعتداء ; وتقوى قلبه وخوفه من رب العالمين ولقد كان في هذا القول اللين ما يفثأ الحقد ; ويهدى ء الحسد ويسكن الشر ويمسح على الأعصاب المهتاجة ; ويرد صاحبها إلى حنان الأخوة وبشاشة الإيمان وحساسية التقوى أجل لقد كان في ذلك كفاية ولكن الأخ الصالح يضيف إليه النذير والتحذير إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين إذا أنت مددت يدك إلي لتقتلني فليس من شأني ولا من طبعي أن أفعل هذه الفعلة بالنسبة لك فهذا الخاطر خاطر القتل لا يدور بنفسي أصلا ولا يتجه اليه فكري إطلاقا خوفا من الله رب العالمين لا عجزا عن إتيانه وأنا تاركك تحمل إثم قتلي وتضيفه إلى إثمك الذي جعل الله لا يتقبل منك قربانك ; فيكون إثمك مضاعفا وعذابك مضاعفا وذلك جزاء الظالمين وبذلك صور له إشفاقه هو من جريمة القتل ليثنيه عما تراوده به نفسه وليخجله من هذا الذي تحدثه به نفسه تجاه أخ مسالم وديع تقي وعرض له وزر جريمة القتل لينفره منه ويزين له الخلاص من الإثم المضاعف بالخوف من الله رب العالمين ; وبلغ من هذا وذلك أقصى ما يبلغه إنسان في صرف الشر ودوافعه عن قلب إنسان ولكن النموذج الشرير لا تكمل صورته حتى نعلم كيف كانت استجابته فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين بعد هذا كله بعد التذكير والعظة والمسالمة والتحذير بعد هذا كله اندفعت النفس الشريرة فوقعت الجريمة وقعت وقد ذللت له نفسه كل عقبة وطوعت له كل مانع طوعت له نفسه القتل وقتل من قتل أخيه وحق عليه النذير فأصبح من الخاسرين خسر نفسه فأوردها موارد الهلاك وخسر أخاه ففقد الناصر والرفيق وخسر دنياه فما تهنأ للقاتل حياة وخسر آخرته فباء بأثمه الأول وإثمه الأخير ومثلت له سوأة الجريمة في صورتها الحسية صورة الجثة التي فارفتها الحياة وباتت لحما يسري فيه العفن فهو سوأة لا تطيقها النفوس وشاءت حكمة الله أن تقفه أمام عجزه وهو الباطش القاتل الفاتك عن أن يواري سوأة أخيه عجزه عن أن يكون كالغراب في أمة الطير فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين وتقول بعض الروايات إن الغراب قتل غرابا آخر أو وجد جثة غراب أو جاء ومعه جثة غراب فجعل يحفر في الأرض ثم واراه وأهال عليه التراب فقال القاتل قولته وفعل مثلما رأى الغراب يفعل وظاهر أن القاتل لم يكن قد رأى من قبل ميتا يدفن وإلا لفعل وقد يكون ذلك لأن هذا كان أول ميت في الأرض من أبناء آدم أو لأن هذا القاتل كان حدثا ولم ير من يدفن ميتا والاحتمالان قائمان وظاهر كذلك أن ندمه لم يكن ندم التوبة وإلا لقبل الله توبته وإنما كان الندم الناشى ء من عدم جدوى فعلته وما أعقبته له من تعب وعناء وقلق كما أن دفن الغراب لأخيه الغراب قد يكون من عادات الغربان كما يقول بعض الناس وقد يكون حدثا خارقا أجراه الله وهذه كتلك سواء فالذي يودع الأحياء غرائزهم هو الذي يجري أي حدث على يد أي حي هذا من قدرته وهذا من قدرته على السواء وهنا يلتقط السياق الآثار العميقة التي تتركها في النفس رواية النبأ بهذا التسلسل ليجعل منها ركيزة شعورية للتشريع الذي فرض لتلافي الجريمة في نفس المجرم ; أو للقصاص العادل إن هو أقدم عليها بعد أن يعلم آلام القصاص التي تنتظره من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ; ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ; ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون من أجل ذلك من أجل وجود هذه النماذج في البشرية من أجل الاعتداء على المسالمين الوادعين الخيرين الطيبين الذين لا يريدون شرا ولا عدوانا ومن أجل أن الموعظة والتحذير لا يجديان في بعض الجبلات المطبوعة على الشر ; وأن المسالمة والموادعة لا تكفان الاعتداء حين يكون الشر عميق الجذور في النفس من أجل ذلك جعلنا جريمة قتل النفس الواحدة كبيرة كبيرة تعدل جريمة قتل الناس جميعا ; وجعلنا العمل على دفع القتل واستحياء نفس واحدة عملا عظيما يعدل إنقاذ الناس جميعا وكتبنا ذلك على بني إسرائيل فيما شرعنا لهم من الشريعة وسيأتي في الدرس التالي في سياق السورة بيان شريعة القصاص مفصلة إن قتل نفس واحدة في غير قصاص لقتل وفي غير دفع فساد في الأرض يعدل قتل الناس جميعا لأن كل نفس ككل نفس ; وحق الحياة واحد ثابت لكل نفس فقتل واحدة من هذه النفوس هو اعتداء على حق الحياة ذاته ; الحق الذي تشترك فيه كل النفوس كذلك دفع القتل عن نفس واستحياؤها بهذا الدفع سواء كان بالدفاع عنها في حالة حياتها أو بالقصاص لها في حالة الاعتداء عليها لمنع وقوع القتل على نفس أخرى هو استحياء للنفوس جميعا لأنه صيانة لحق الحياة الذي تشترك فيه النفوس جميعا وبالرجوع إلى البيان الذي قدمنا به لهذه الأحكام يتبين أن هذا التقرير ينطبق فقط على أهل دار الإسلام من مسلمين وذميين ومستأمنين فأما دم أهل دار الحرب فهو مباح ما لم تقم بينهم وبين أهل دار الإسلام معاهدة وكذلك ما لهم فيحسن أن نكون دائما على ذكر من هذه القاعدة التشريعية ; وأن نتذكر كذلك أن دار الإسلام هي الأرض التي تقام فيها شريعة الإسلام ويحكم فيها بهذه الشريعة وأن دار الحرب هي الأرض التي لا تقام فيها شريعة الله ولا يحكم فيها بهذه الشريعة ولقد كتب الله ذلك المبدأ على بني إسرائيل ; لأنهم كانوا في ذلك الحين هم أهل الكتاب ; الذين يمثلون دار الإسلام ما أقاموا بينهم شريعة التوراة بلا تحريف ولا التواء ولكن بني إسرائيل تجاوزوا حدود شريعتهم بعد ما جاءتهم الرسل بالبينات الواضحة وكانوا على عهد رسول الله ص وما يزالون يكثر فيهم المسرفون المتجاوزون لحدود شريعتهم والقرآن يسجل عليهم هذا الإسراف والتجاوز والاعتداء ; بغير عذر ; ويسجل عليهم كذلك انقطاع حجتهم على الله وسقوطها بمجيء الرسل إليهم وببيان شريعتهم لهم ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ; ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون
الدرس الثاني حد الحرابة وقطع الطريق
وهل من إسراف أشد من تجاوز حدود الله ; والتعدي على شريعته بالتغيير أو بالإهمال وفي الآية السابقة قرن الله قتل النفس بالفساد في الأرض ; وجعل كلا منهما مبررا للقتل واستثناء من صيانة حق الحياة ; وتفظيع جريمة إزهاق الروح ذلك أن أمن الجماعة المسلمة في دار الإسلام وصيانة النظام العام الذي تستمتع في ظله بالأمان وتزاول نشاطها الخير في طمأنينة ذلك كله ضروري كأمن الأفراد بل أشد ضرورة ; لأن أمن الأفراد لا يتحقق إلا به ; فضلا على صيانة هذا النموذج الفاضل من المجتمعات وإحاطته بكل ضمانات الاستقرار ; كيما يزاول الأفراد فيه نشاطهم الخير وكيما تترقى الحياة الإنسانية في ظله وتثمر وكيما تتفتح في جوه براعم الخير والفضيلة والإنتاج والنماء وبخاصة أن هذا المجتمع يوفر للناس جميعا ضمانات الحياة كلها وينتشر من حولهم جوا تنمو فيه بذور الخير وتذوي بذور الشر ويعمل على الوقاية قبل أن يعمل على العلاج ثم يعالج ما لم تتناوله وسائل الوقاية ولا يدع دافعا ولا عذرا للنفس السوية أن تميل إلى الشر وإلى الاعتداء فالذي يهدد أمنه بعد ذلك كله هو عنصر خبيث يجب استئصاله ; ما لم يثب إلى الرشد والصواب فالآن يقرر عقوبة هذا العنصر الخبيث وهو المعروف في الشريعة الإسلامية بحد الحرابة إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم وحدود هذه الجريمة التي ورد فيها هذا النص هي الخروج على الإمام المسلم الذي يحكم بشريعة الله والتجمع في شكل عصابة خارجة على سلطان هذا الإمام تروع أهل دار الإسلام ; وتعتدي على أرواحهم وأموالهم وحرماتهم ويشترط بعض الفقهاء أن يكون ذلك خارج المصر بعيدا عن مدى سلطان الإمام ويرى بعضهم أن مجرد تجمع مثل هذه العصابة وأخذها في الاعتداء على أهل دار الإسلام بالقوة يجعل النص منطبقا عليها سواء خارج المصر أو داخلة وهذا هو الأقرب للواقع العملي ومجابهته بما يستحقه وهؤلاء الخارجون على حاكم يحكم بشريعة الله ; المعتدون على أهل دار الإسلام المقيمين للشريعة سواء كانوا مسلمين أو ذميين أو مستأمنين بعهد لا يحاربون الحاكم وحده ولا يحاربون الناس وحدهم إنما هم يحاربون الله ورسوله حينما يحاربون شريعته ويعتدون على الأمة القائمة على هذه الشريعة ويهددون دار الإسلام المحكومة بهذه الشريعة كما أنهم بحربهم لله ورسوله وحربهم لشريعته وللأمة القائمة عليها وللدار التي تطبقها يسعون في الأرض فسادا فليس هناك فساد أشنع من محاولة تعطيل شريعة الله وترويع الدار التي تقام فيها هذه الشريعة إنهم يحاربون الله ورسوله وإن كانوا إنما يحاربون الجماعة المسلمة والإمام المسلم فهم قطعا لا يحاربون الله سبحانه بالسيف وقد لا يحاربون شخص رسول الله بعد اختياره الرفيق الأعلى ولكن الحرب لله ورسوله متحققة بالحرب لشريعة الله ورسوله وللجماعة التي ارتضت شريعة الله ورسوله وللدار التي تنفذ فيها شريعة الله ورسوله كما أن للنص في صورته هذه مفهوما آخر متعينا كهذا المفهوم هو أن السلطان الذي يحق له بأمر الله أن يأخذ الخارجين عليه بهذه العقوبات المقررة لهذه الجريمة هو السلطان الذي يقوم على شريعة الله ورسوله في دار الإسلام المحكومة بشريعة الله ورسوله وليس أي سلطان آخر لا تتوافر له هذه الصفة في أية دار أخرى لا يتوافر لها هذا الوصف نقرر هذا بوضوح لأن بعض أذناب السلطة في كل زمان كانوا يفتون لحكام لا يستمدون سلطانهم من شريعة الله ولا يقومون على تنفيذ هذه الشريعة ولا يحققون وجود دار إسلام في بلادهم ولو زعموا أنهم مسلمون كانوا يفتون لهم بأن يأخذوا الخارجين عليهم بهذه العقوبات باسم شريعة الله بينما كان هؤلاء الخارجون لا يحاربون الله ورسوله ; بل يحاربون سلطة خارجة على الله ورسوله إنه ليس لسلطة لا تقوم على شريعة الله في دار الإسلام أن تأخذ الخارجين عليها باسم شريعة الله وما لمثل هذه السلطة وشريعة الله إنها تغتصب حق الألوهية وتدعيه ; فما لها تتحكك بقانون الله وتدعيه إنما جزاء أفراد هذه العصابات المسلحة التي تخرج على سلطان الإمام المسلم المقيم لشريعة الله ; وتروع عباد الله في دار الإسلام وتعتدي على أموالهم وأرواحهم وحرماتهم أن يقتلوا تقتيلا عاديا أو أن يصلبوا حتى يموتوا وبعض الفقهاء يفسر النص بأنه الصلب بعد القتل للترويع والإرهاب أو أن تقطع أيديهم اليمنى مع أرجلهم اليسرى من خلاف ويختلف الفقهاء اختلافا واسعا حول هذا النص إن كان للإمام الخيار في هذه العقوبات أم أن هناك عقوبة معينة لكل جريمة تقع من الخارجين ويرى الفقهاء في مذهب أبى حنيفة والشافعي وأحمد أن العقوبات مرتبة على حسب الجناية التي وقعت فمن قتل ولم يأخذ مالا قتل ومن أخذ المال ولم يقتل قطع ومن قتل وأخذ المال قتل وصلب ومن أخاف السبيل ولكنه لم يقتل ولم يأخذ مالا نفي وعند مالك أن المحارب إذا قتل فلا بد من قتله وليس للإمام تخيير في قطعه ولا في نفيه وإنما التخيير في قتله أو صلبه وأما إن أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير في نفيه وإنما التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف وأما إذا أخاف السبيل فقط فالإمام مخير في قتله أو صلبه أو قطعة أو نفيه ومعنى التخيير عند مالك أن الأمر راجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه لأن القطع لا يدفع ضرره وإن كان لا رأي له وإنما هو ذو قوة وبأس قطعة من خلاف وإن كان ليس له شيء من هاتين الصفتين أخذ بأيسر ذلك وهو النفي والتعزير ونحن نختار رأي الإمام مالك في الفقرة الأخيرة منه وهي أن العقوبة قد توقع على مجرد الخروج وإخافة السبيل لأن هذا إجراء وقائي المقصود منه أولا منع وقوع الجريمة والتغليظ على المفسدين في الأرض الذين يروعون دار الإسلام ; ويفزعون الجماعة المسلمة القائمة على شريعة الله في هذه الدار وهي أجدر جماعة وأجدر دار بالأمن والطمأنينة والسلام كذلك يختلفون في معنى النفي من الأرض هل هو النفي من الأرض التي ارتكب فيها جريمته أم هو النفي من الأرض التي يملك فيها حريته وذلك بحبسه أم هو النفي من الأرض كلها ولا يكون ذلك إلا بالموت ونحن نختار النفي من أرض الجريمة إلى مكان ناء يحس فيه بالغربة والتشريد والضعف ; جزاء ما شرد الناس وخوفهم وطغى بقوته فيهم حيث يصبح في منفاه عاجزا عن مزاولة جريمته بضعف عصبيته أو بعزله عن عصابته ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم فالجزاء الذي يلقونه إذن في الدنيا لا يسقط عنهم العذاب في الآخرة ولا يطهرهم من دنس الجريمة كبعض الحدود الأخرى وهذا كذلك تغليظ للعقوبة وتبشيع للجريمة ذلك أن الجماعة المسلمة في دار الإسلام يجب أن تعيش آمنة وذلك أن السلطة المسلمة القائمة على شريعة الله يجب أن تكون مطاعة فهذا هو الوسط الخير الرفيع الذي يجب توفير الضمانات كلها لازدهاره وهذا هو النظام العادل الكامل الذي يجب أن يصان من المساس به فإذا ارتدع هؤلاء الخارجون المفسدون عن غيهم وفسادهم نتيجة استشعارهم نكارة الجريمة وتوبة منهم إلى الله ورجوعا إلى طريقه المستقيم وهم ما يزالون في قوتهم لم تنلهم يد السلطان سقطت جريمتهم وعقوبتها معا ولم يعد للسلطان عليهم من سبيل وكان الله غفورا لهم رحيما بهم في الحساب الأخير إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم والحكمة واضحة في إسقاط الجريمة والعقوبة في هذه الحالة عنهم من ناحيتين الأولى تقدير توبتهم وهم يملكون العدوان واعتبارها دليل صلاح واهتداء والثانية تشجيعهم على التوبة وتوفير مؤنة الجهد في قتالهم من أيسر سبيل والمنهج الإسلامي يتعامل مع الطبيعة البشرية بكل مشاعرها ومساربها واحتمالاتها ; والله الذي رضي للمسلمين هذا المنهج هو بارى ء هذه الطبيعة الخبير بمسالكها ودروبها العليم بما يصلحها وما يصلح لها ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير
الدرس الثالث ترغيب بالتقوى وبيان عاقبة الكفر
والمنهج الرباني لا يأخذ الناس بالقانون وحده إنما يرفع سيف القانون ويصلته ليرتدع من لا يردعه إلا السيف فأما اعتماده الأول فعلى تربية القلب وتقويم الطبع وهداية الروح ذلك إلى جانب إقامة المجتمع الذي تنمو فيه بذرة الخير وتزكو وتذبل فيه نبتة الشر وتذوي لذلك ما يكاد ينتهي السياق القرآني من الترويع بالعقوبة حتى يأخذ طريقه إلى القلوب والضمائر والأرواح ; يستجيش فيها مشاعر التقوى ; ويحثها على ابتغاء الوسيلة إلى الله والجهاد في سبيله رجاء الفلاح ; ويحذرها عاقبة الكفر به ; ويصور لها مصائر الكفار في الآخرة تصويرا موحيا بالخشية والاعتبار يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم إن هذا المنهج المتكامل يأخذ النفس البشرية من أقطارها جميعا ; ويخاطب الكينونة البشرية من مداخلها جميعا ; ويلمس أوتارها الحية كلها وهو يدفعها إلى الطاعة ويصدها عن المعصية إن الهدف الأول للمنهج هو تقويم النفس البشرية وكفها عن الانحراف والعقوبة وسيلة من الوسائل الكثيرة وليست العقوبة غاية كما أنها ليست الوسيلة الوحيدة وهنا نرى أنه يبدأ هذا الشوط بنبأ ابني آدم بكل ما فيه من موحيات ثم يثني بالعقوبة التي تخلع القلوب ثم يعقب بالدعوة إلى تقوى الله وخشيته والخوف من عقابه ومع الدعوة التصوير الرعيب للعقاب يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله فالخوف ينبغي أن يكون من الله فهذا هو الخوف اللائق بكرامة الإنسان أما الخوف من السيف والسوط فهو منزله هابطة لا تحتاج إليها إلا النفوس الهابطة والخوف من الله أولى وأكرم وأزكى على أن تقوى الله هي التي تصاحب الضمير في السر والعلن ; وهي التي تكف عن الشر في الحالات التي لا يراها الناس ولا تتناولها يد القانون وما يمكن أن يقوم القانون وحده مع ضرورته بدون التقوى ; لأن ما يفلت من يد القانون حينئذ أضعاف أضعاف ما تناله ولا صلاح لنفس ولا صلاح لمجتمع يقوم على القانون وحده ; بلا رقابة غيبية وراءه وبلا سلطة إلهية يتقيها الضمير وابتغوا إليه الوسيلة اتقوا الله ; واطلبوا إليه الوسيلة ; وتلمسوا ما يصلكم به من الأسباب وفي رواية عن ابن عباس ابتغوا إليه الوسيلة ; أى ابتغوا إليه الحاجة والبشر حين يشعرون بحاجتهم إلى الله وحين يطلبون عنده حاجتهم يكونون في الوضع الصحيح للعبودية أمام الربوبية ; ويكونون بهذا في أصلح أوضاعهم وأقربها إلى الفلاح وكلا التفسيرين يصلح للعبارة ; ويؤدي إلى صلاح القلب وحياة الضمير وينتهي إلى الفلاح المرجو لعلكم تفلحون وعلى الجانب الآخر مشهد الكفار الذين لا يتقون الله ولا يبتغون إليه الوسيلة ولا يفلحون وهو مشهد شاخص متحرك ; لا يعبر عنه السياق القرآني في أوصاف وتقريرات ولكن في حركات وانفعالات على طريقة القرآن في رسم مشاهد القيامة ; وفي أداء معظم الأغراض إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم إن أقصى ما يتصوره الخيال على أساس الافتراض هو أن يكون للذين كفروا كل ما في الأرض جميعا ولكن السياق يفترض لهم ما هو فوق الخيال في عالم الافتراض فيفرض أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ; ويصورهم يحاولون الافتداء بهذا وذلك لينجوا به من عذاب يوم القيامة ويرسم مشهدهم وهم يحاولون الخروج من النار ثم عجزهم عن بلوغ الهدف وبقاءهم في العذاب الأليم المقيم إنه مشهد مجسم ذو مناظر وحركات متواليات منظرهم ومعهم ما في الأرض ومثله معه ومنظرهم وهم يعرضونه ليفتدوا به ومنظرهم وهم مخيبو الطلب غير مقبولي الرجاء ومنظرهم وهم يدخلون النار ومنظرهم وهم يحاولون الخروج منها ومنظرهم وهم يرغمون على البقاء ويسدل الستار ويتركهم مقيمين هناك وفي نهاية هذا الدرس يرد حكم السرقة
الدرس الرابع حد السرقة والتوبة
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير إن المجتمع المسلم يوفر لأهل دار الإسلام على اختلاف عقائدهم ما يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية إنه يوفر لهم ضمانات العيش والكفاية وضمانات التربية والتقويم وضمانات العدالة في التوزيع وفي الوقت ذاته يجعل كل ملكية فردية فيه تنبت من حلال ; ويجعل الملكية الفردية وظيفة اجتماعية تنفع المجتمع ولا تؤذيه ومن أجل هذا كله يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية فمن حقه إذن أن يشدد في عقوبة السرقة والاعتداء على الملكية الفردية والاعتداء على أمن الجماعة ومع تشديده فهو يدرأ الحد بالشبهة ; ويوفر الضمانات كاملة للمتهم حتى لا يؤخذ بغير الدليل الثابت ولعله من المناسب أن نفصل شيئا في هذا الإجمال إن النظام الإسلامي كل متكامل فلا تفهم حكمة الجزئيات التشريعية فيه حق فهمها إلا أن ينظر في طبيعة النظام وأصوله ومبادئه وضماناته كذلك لا تصلح هذه الجزئيات فيه للتطبيق إلا أن يؤخذ النظام كاملا ; ويعمل به جملة أما الاجتزاء بحكم من أحكام الإسلام أو مبدأ من مبادئه في ظل نظام ليس كله إسلاميا فلا جدوى له ; ولا يعد الجزء المقتطع منه تطبيقا للإسلام لأن الإسلام ليس أجزاء وتفاريق الإسلام هو هذا النظام المتكامل الذي يشمل تطبيقه كل جوانب الحياة هذا بصفة عامة أما بالنسبة لموضوع السرقة فالأمر لا يختلف إن الإسلام يبدأ بتقرير حق كل فرد في المجتمع المسلم في دار الإسلام في الحياة وحقه في كل الوسائل الضرورية لحفظ الحياة من حق كل فرد أن يأكل وأن يشرب وأن يلبس وأن يكون له بيت يكنه ويؤويه ويجد فيه السكن والراحة من حق كل فرد على الجماعة وعلى الدولة النائبة عن الجماعة أن يحصل على هذه الضروريات أولا عن طريق العمل ما دام قادرا على العمل وعلى الجماعة والدولة النائبة عن الجماعة أن تعلمه كيف يعمل وأن تيسر له العمل وأداة العمل فإذا تعطل لعدم وجود العمل أو أداته أو لعدم قدرته على العمل جزئيا أو كليا وقتيا أو دائما أو إذا كان كسبه من عمله لا يكفي لضرورياته فله الحق في استكمال هذه الضروريات من عدة وجوه أولا من النفقة التي تفرض له شرعا على القادرين في أسرته وثانيا على القادرين من أهل محلته وثالثا من بيت مال المسلمين من حقه المفروض له في الزكاة فإذا لم تكف الزكاة فرضت الدولة المسلمة المنفذة لشريعة الإسلام كلها في دار الإسلام ما يحقق الكفاية للمحرومين في مال الواجدين ; بحيث لا تتجاوز هذه الحدود ولا تتوسع في غير ضرورة ولا تجور على الملكية الفردية الناشئة من حلال والإسلام كذلك يتشدد في تحديد وسائل جمع المال ; فلا تقوم الملكية الفردية فيه إلا من حلال ومن ثم لا تثير الملكية الفردية في المجتمع المسلم أحقاد الذين لا يملكون ; ولا تثير أطماعهم في سلب ما في أيدي الآخرين وبخاصة أن النظام يكفل لهم الكفاية ; ولا يدعهم محرومين والإسلام يربى ضمائر الناس وأخلاقهم ; فيجعل تفكيرهم يتجه إلى العمل والكسب عن طريقة ; لا إلى السرقة والكسب عن طريقها فإذا لم يوجد العمل أو لم يكف لتوفير ضرورياتهم أعطاهم حقهم بالوسائل النظيفة الكريمة وإذن فلماذا يسرق السارق في ظل هذا النظام إنه لا يسرق لسد حاجة إنما يسرق للطمع في الثراء من غير طريق العمل والثراء لا يطلب من هذا الوجه الذي يروع الجماعة المسلمة في دار الإسلام ويحرمها الطمأنينة التي من حقها أن تستمتع بها ويحرم أصحاب المال الحلال أن يطمئنوا على مالهم الحلال وإنه لمن حق كل فرد في مثل هذا المجتمع كسب ماله من حلال لا من ربا ولا من غش ولا من احتكار ولا من أكل أجور العمال ثم أخرج زكاته وقدم ما قد تحتاج إليه الجماعة من بعد الزكاة من حق كل فرد في مثل هذا النظام أن يأمن على ماله الخاص وألا يباح هذا المال للسرقات أو لغير السرقات فإذا سرق السارق بعد ذلك كله إذا سرق وهو مكفي الحاجة متبين حرمة الجريمة غير محتاج لسلب ما في أيدي الآخرين لأن الآخرين لم يغصبوا أموالهم ولم يجمعوها من حرام إذا سرق في مثل هذه الأحوال فإنه لا يسرق وله عذر ولا ينبغي لأحد أن يرأف به متى ثبتت عليه الجريمة فأما حين توجد شبهة من حاجة أو غيرها فالمبدأ العام في الإسلام هو درء الحدود بالشبهات لذلك لم يقطع عمر رضي الله عنه في عام الرمادة حينما عمت المجاعة ولم يقطع كذلك في حادثة خاصة ; عندما سرق غلمان ابن حاطب بن أبي بلتعة ناقة من رجل من مزينة فقد أمر بقطعهم ; ولكن حين تبين له أن سيدهم يجيعهم درا عنهم الحد ; وغرم سيدهم ضعف ثمن الناقة تأديبا له وهكذا ينبغي أن تفهم حدود الإسلام في ظل نظامه المتكامل ; الذي يضع الضمانات للجميع لا لطبقة على حساب طبقة والذي يتخذ أسباب الوقاية قبل أن يتخذ أسباب العقوبة والذي لا يعاقب إلا المعتدين بلا مبرر للاعتداء وبعد بيان هذه الحقيقة العامة نستطيع أن نأخذ في الحديث عن حد السرقة السرقة هي أخذ مال الغير والمحرز خفية فلا بد أن يكون المأخوذ مالا مقوما والحد المتفق عليه تقريبا بين فقهاء المسلمين للمال الذي يعد أخذه من حرزه خفية سرقة هو ما يعادل ربع دينار أي حوالي خمسة وعشرين قرشا بنقدنا الحاضر ولا بد أن يكون هذا المال محرزا وأن يأخذه السارق من حرزه ويخرج به عنه فلا قطع مثلا على المؤتمن على مال إذا سرقه والخادم المأذون له بدخول البيت لا يقطع فيما يسرق لانه ليس محرزا منه ولا على المستعير إذا جحد العارية ولا على الثمار في الحقل حتى يؤويها الجرين ولا على المال خارج البيت أو الصندوق المعد لصيانته وهكذا ولا بد أن يكون هذا المال المحرز للغير فلا قطع حين يسرق الشريك من مال شريكه لأن له فيه شركة فليس خالصا للغير والذي يسرق من بيت مال المسلمين لا يقطع لأن له نصيبا فيه فليس خالصا للغير كذلك والعقوبة في مثل هذه الحالات ليست هي القطع وإنما هي التعزيز والتعزيز عقوبة دون الحد بالجلد أو بالحبس أو بالتوبيخ أو بالموعظة في بعض الحالات التي يناسبها هذا حسب رأي القاضي والظروف المحيطة والقطع يكون لليد اليمنى إلى الرسغ فإذا عاد كان القطع في الرجل اليسرى إلى الكعب وهذا هو القدر المتفق عليه في القطع ثم تختلف بعد ذلك آراء الفقهاء عند الثالثة والرابعة والشبهه تدرأ الحد فشبهة الجوع والحاجة تدرأ الحد وشبهة الشركة في المال تدرأ الحد ورجوع المعترف في اعترافه إذا لم يكن هناك شهود شبهة تدرأ الحد ونكول الشهود شبهة وهكذا ويختلف الفقهاء فيما يعدونه شبهة فأبو حنيفة مثلا يدرأ الحد في سرقة ما هو مباح الأصل حتى بعد إحرازه كسرقة الماء بعد إحرازه وسرقة الصيد بعد صيده لأن كليهما مباح الأصل وإباحة الأصل تورث شبهة في بقائه مباحا بعد إحرازه والشركة العامة فيه تورث شبهة في بقاء الشركة بعد الإحراز بينما مالك والشافعي وأحمد لا يدرأون الحد في مثل هذه الحالة ويدرأ أبو حنيفة الحد في سرقة كل ما يسارع إليه الفساد كالطعام الرطب والبقول واللحم والخبز وما أشبه ويخالفه أبو يوسف ويأخذ برأي الثلاثة ولا نملك أن نمضي في تفصيل اختلافات الفقهاء في هذا المجال فتطلب في كتب الفقة ; وحسبنا هذه الأمثلة للدلالة على سماحة الإسلام وحرصه على ألا يأخذ الناس بالشبهات ورسول الله ص يقول ادرأوا الحدود بالشبهات وعمر ابن الخطاب يقول لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات ولكن لا بد من كلمة في ملاءمة عقوبة القطع في السرقة ; بعد بيان موجبات التشدد في أخذ السارق بالحد في المجتمع المسلم في دار الإسلام ; بعد توافر أسباب الوقاية وضمانات العدالة وعلة فرض عقوبة القطع للسرقة أن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر في أن يزيد كسبه بكسب غيره فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال ويريد أن ينميه من طريق الحرام وهو لا يكتفي بثمرة عمله فيطمع في ثمرة عمل غيره وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق أو الظهور أو ليرتاح من عناء الكد والعمل أو ليأمن على مستقبله فالدافع الذي يدفع إلى السرقة ويرجع إلى هذه الاعتبارات هو زيادة الكسب أو زيادة الثراء وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب إذ اليد والرجل كلاهما أداة العمل أيا كان ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل والتخوف الشديد على المستقبل فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية وارتكب الإنسان الجريمة مرة كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارفة فلا يعود للجريمة مرة ثانية ذلك هو الأساس الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية وإنه لعمري خير أساس قامت عليه عقوبة السرقة من يوم نشأة عالمنا حتى الآن وتجعل القوانين الحبس عقوبة السرقة وهي عقوبة قد أخفقت في محاربة الجريمة على العموم والسرقة على الخصوص والعلة في هذا الإخفاق أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل إلا مدة الحبس وما حاجته إلى الكسب في المحبس وهو موفر الطلبات مكفي الحاجات فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب وكان لديه أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمي ثروته من طريق الحلال والحرام على السواء واستطاع أن يخدع الناس وأن يظهر أمامهم بمظهر الشريف فيأمنوا جانبه ويتعاونوا معه فإن وصل في الخاتمة إلى ما يبغي فذلك هو الذي أراد ; وإن لم يصل إلى بغيته فإنه لم يخسر شيئا ولم تفته منفعة ذات بال أما عقوبة القطع فتحول بين السارق وبين العمل أو تنقص من قدرته على العمل والكسب نقصا كبيرا ; ففرصة زيادة الكسب مقطوع بضياعها على كل حال ونقص الكسب إلى حد ضئيل أو انقطاعه هو المرجح في أغلب الأحوال ولن يستطيع أن يخدع الناس أو يحملهم على الثقة به والتعاون معه رجل يحمل أثر الجريمة في جسمه * * وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب أن جانب الخسارة * * مقطوع به إذا كانت العقوبة القطع ; وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس * * وفي طبيعة الناس كلهم لا السارق وحده أن لا يتأخروا عن عمل يرجح فيه جانب المنفعة * * وألا يقدموا على عمل تتحقق فيه الخسارة وأعجب بعد ذلك ممن يقولون إن * * عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية في عصرنا الحاضر كأن * * الإنسانية والمدنية أن نقابل السارق بالمكافأة على جريمته وأن نشجعه على السير * * في غوايته وأن نعيش في خوف واضطراب وأن نكد ونشقى ليستولي على ثمار عملنا العاطلون * * واللصوص ثم أعجب بعد ذلك مرة ثانية ممن يقولون إن عقوبة القطع لا تتفق * * مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية كأن المدينة والإنسانية أن ننكر العلم الحديث * * والمنطق الدقيق ; وأن ننسى طبائع البشر ونتجاهل تجارب الأمم ; وأن نلغي عقولنا * * ونهمل النتائج التي وصل إليها تفكيرنا لنأخذ بما يقوله قائله فلا يجد عليه * * دليلا إلا التهويل والتضليل وإذا كانت العقوبة الصالحة حقا هي التي تتفق * * مع المدينة والإنسانية فإن عقوبة الحبس قد حق عليها الإلغاء وعقوبة القطع قد * * كتب لها البقاء لأن الأخيرة تقوم على أساس متين من علم النفس وطبائع البشر * * وتجارب الأمم ومنطق العقول والأشياء وهي نفس الأسس التي تقوم عليها المدنية * * والإنسانية أما عقوبة الحبس فلا تقوم على أساس من العلم ولا التجربة ولا تتفق * * مع منطق العقول ولا طبائع الأشياء إن أساس عقوبة القطع هو دراسة نفسية الإنسان * * وعقليته فهي إذن عقوبة ملائمة للأفراد وهي في الوقت ذات صالحة للجماعة لأنها * * تؤدي إلى تقليل الجرائم وتأمين المجتمع و ما دامت العقوبة ملائمة للفرد وصالحة * * للجماعة فهي أفضل العقوبات وأعدلهًا ولكن ذلك كله لا يكفي عند بعض الناس * * لتبرير عقوبة القطع لأنهم يرونها كما يقولون عقوبة موسومة بالقسوة وتلك * * حجتهم الأولى والأخيرة وهي حجة داحضة فإن اسم العقوبة مشتق من العقاب ولا * * يكون العقاب عقابا إذا كان موسوما بالرخاوة والضعف بل يكون لعبا أو عبثا أو شيئا * * قريبا من هذا فالقسوة لا بد أن تتمثل في العقوبة حتى يصح تسميتها بهذا الاسم والله سبحانه وهو أرحم الراحمين يقول وهو يشدد عقوبة السرقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله فهي تنكيل من الله رادع والردع عن ارتكاب الجريمة رحمة بمن تحدثه نفسه بها لأنه يكفه عنها ورحمة بالجماعة كلها لأنه يوفر لها الطمأنينة ولن يدعي أحد أنه أرحم بالناس من خالق الناس إلا وفي قلبه عمى وفي روحه أنطماس والواقع يشهد أن عقوبة القطع لم تطبق في خلال نحو قرن من الزمان في صدر الإسلام إلا في آحاد ; لأن المجتمع بنظامه والعقوبة بشدتها والضمانات بكفايتها لم تنتج إلا هذه الآحاد ثم يفتح الله باب التوبة لمن يريد أن يتوب على أن يندم ويرجع ويكف ; ثم لا يقف عند هذه الحدود السلبية بل يعمل عملا صالحا ويأخذ في خير إيجابي فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم فالظلم عمل إيجابي شرير مفسد ; ولا يكفي أن يكف الظالم عن ظلمه ويقعد بل لا بد أن يعوضه بعمل إيجابي خير مصلح على أن الأمر في المنهج الرباني أعمق من هذا فالنفس الإنسانية لا بد أن تتحرك فإذا هي كفت عن الشر والفساد ولم تتحرك للخير والصلاح بقي فيها فراغ وخواء قد يرتدان بها إلى الشر والفساد فأما حين تتحرك إلى الخير والصلاح فإنها تأمن الارتداد إلى الشر والفساد ; بهذه الإيجابية وبهذا الامتلاء إن الذي يربي بهذا المنهج هو الله الذي خلق والذي يعلم من خلق وعلى ذكر الجريمة والعقوبة وذكر التوبة والمغفرة يعقب السياق القرآني بالمبدأ الكلي الذي تقوم عليه شريعة الجزاء في الدنيا والآخرة فخالق هذا الكون ومالكه هو صاحب المشيئة العليا فيه وصاحب السلطان الكلي في مصائره هو الذي يقرر مصائره ومصائر من فيه كما أنه هو الذي يشرع للناس في حياتهم ثم يجزيهم على عملهم في دنياهم وآخرتهم ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير فهي سلطة واحدة سلطة الملك يصدر عنها التشريع في الدنيا ويصدر عنها الجزاء في الآخرة ولا تعدد ولا انقسام ولا انفصام ولا يصلح أمر الناس إلا حين تتوحد سلطة التشريع وسلطة الجزاء في الدنيا والآخرة سواء و لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله