الإعجاز العددي بين الحاضر والماضي

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : بسّام جرّار | المصدر : www.islamnoon.com

بسم الله الرحمن الرحيم
:: الإعجاز العددي بين الحاضر والماضي ::
 
    بقلم: بسّام جرّار
 
 
 عُرّف الإعجاز بأنّه:" كل أمر خارق للعادة، يظهره الله على يد النبي تصديقاً له ...". ولا يجد العقل بديلاً عن المعجزة لإثبات النبوة أو الرسالة. وحتى في المعجزات الحسيّة نجد أنّ العقل هو الذي يحكم في مدى صِدقيًّة ما يُقدّم من دليل، مع تسليمنا بأنّ العقل كثيراً ما يُرتهن لصالح القلب، فتأتي عندها أحكامه بعيدة عن الصدق والموضوعيَّة. وإذا كانت الغاية من إجراء المعجزة هي إقامة الحجة على صدق ادّعاء النبوة، فإنّ الذي يعنينا هنا هو ما يقدِّمه العدد القرآني من دليل وحجة على صدق رسالة الرسول ، صلى الله عليه وسلم. لذا لن نخوض  في هذا المقام في مناقشة معنى المعجزة، ولا في مناقشة الرأي الذي يقصر الإعجاز القرآني على بيانه، لأنه الرأي المرجوح عند العلماء، ولأنّ وجوه الإعجاز القرآني المختلفة متجلّة لكل ناظر ولا تحتاج إلى دليل.
      اهتم المسلمون، ومنذ القرون الأولى، بمسألة العدد القرآني. وقد ذكر الدكتور غانم الحمد، محقق كتاب " البيان في عد آي القرآن"، لأبي عمرو الدّاني، ذكر (36) كتاباً في علم العدد القرآني، ابتداء من (كتاب العدد) لعطاء بن يسار، المتوفى 103 هـ، وانتهاء بكتاب (زهر الغرر في عدد آيات السّور) لأحمد السلمي الأندلسي، المتوفى عام 747 هـ. ويجد الباحث أنّ هذا الاهتمام استمر على مدى القرون؛ فهذا مجد الدين الفيروز آبادي، المتوفى سنة 817 هـ، يحرص في كتابه (بصائر ذوي التمييز) على ذكر عدد آيات كل سورة، وعدد كلماتها، وعدد حروفها. وكذلك نجد من الكتّاب المعاصرين من تابع الأقدمين، من أمثال الأستاذ عبد الكريم الخطيب، في تفسيره:  (التفسير القرآني للقرآن). ونحن لا نستطيع أن نركن إلى مثل هذه الإحصاءات لأنّها لا تتسم بالدقّة، ثم إنّ الاختلاف كبير وبيّن، ويرجع هذا الاختلاف إلى أسباب؛ منها الاختلاف في رسم المصاحف العثمانيّة، والاختلاف فيما يعتبر كلمة أو أكثر، ومردُّ ذلك إلى الاحتمالات التي تحملها اللفظة العربيّة. وقد سبق لنا أن اطلعنا على (11) إحصاء للحروف والكلمات القرآنية، منها ما هو قديم، ومنها ما هو حديث، فلفت انتباهنا الاختلاف الكبير في العدد، إلى درجة أنك تجد أنّ الاختلاف في عدد كلمات سورة البقرة يزيد عن ألفِ كلمة، مما يعني أنّ العدّ قائم على أساس من اللفظ، وليس على أساس الرسم القرآني المسمّى (بالرسم العثماني)، والذي هو توقيفي عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهذا هو مذهب الجمهور. لذا فقد رأينا في (مركز نون للدراسات القرآنية) أن نتعامل مع الرسم القرآني عند إحصاء عدد الحروف والكلمات، وهذا يجعل الاختلاف بين العادّين يسيراً، بل نادراً. ففي الوقت الذي يرى فيه البعض أنّ (مالم)، مثلاً، هي كلمة واحدة، نجد أن اثبات ذلك غير متيسّر، لأنّه لا يوجد مسوِّغ لذلك. في حين أنّ الاختلاف في مثل عبارة (لا جرم) هو مقبول من الناحية اللغويّةً أن نحصيها كلمة أو كلمتان. وإن كنّا في مركز نون نحصيها كلمتين.
      يبدو أنّ كل ما وصل إلينا من إحصاءات للعدد القرآني قصد منها التعريف بالقرآن الكريم، وإشباع نهم الإنسان للمعرفة، وتحقيق رغبته في الاطلاع على دقائق الأمور، وإن لم ينبن على ذلك فوائد عملية. ولكن عندما يتعلق الأمر بكتاب مقدس، كالقرآن الكريم، والذي هو كلام الله تعالى، فلا بدّ أن نتوقّع ما هو أجلّ وأعظم.
 وعلى الرغم مما قلناه، فإنّنا نجد في كتابات الأقدمين توظيفاً للعدد القرآني؛ فقد نُقل عن أبي بكر الورّاق قوله:" إنّ الله – تعالى- قسّم ليالي هذا الشهر –شهر رمضان- على كلمات هذه السورة –سورة القدر-، فلمّا بلغ السابعة والعشرين أشار إليها فقال:هي"[1]. ويقول: " كرّر ذكرها – ليلة القدر- ثلاث مرات، وهي تسعة أحرف، فيكون سبعة وعشرين"[2] ونقل أيضاً عن ابن عبّاس، رضي الله عنه، أنه قال:" ليلة القدر تسعة أحرف، وهو مذكور ثلاث مرّات فتكون السابعة والعشرين"[3] ونقرأ للقاضي مجير الدين الحنبلي في كتابه الأنس الجليل:" وقد تقدّم أنّ من الاتفاقات العجيبة أنّ محيي الدين زكي، قاضي دمشق، لمّا فتح السلطان صلاح الدين حلب في صفر سنة تسع وسبعين وخمسمائة مدحه بقصيدة منها :
    وفتحكم حلباً بالسيف في صفرٍ          مبشرٌ بفتوحِ القدسِ في رجَبِ
فكان كما قال، وفُتحت القدس في رجب – كما تقدم- فقيل لمحيي الدين: من أين لك هذا؟ فقال: أخذته من تفسير ابن برّجان في قوله تعالى:"غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين"، وكان الإمام أبو الحكم ابن برّجان الأندلسي قد صنف تفسيره في سنة عشرين وخمسمائة وبيت المقدس إذ ذاك في يد الإفرنج ... قال ابن خلكان في تاريخه – في ترجمة ابن الزكي – ولما وقفت أنا على هذا البيت وهذه الحكاية لم أزل أطلب تفسير ابن برّجان حتى وجدته على هذه الصورة، قال: ولكن رأيت هذا الفصل مكتوباً على الحاشية بخط غير الأصل، ولا أدري هل كان من أصل الكتاب أم هو ملحق. وذكر له حساباً طويلاً وطريقاً في استخراج ذلك، حتى حرره من قوله تعالى: في بضع سنين"[4]، وابن برّجان هذا من أهل المعرفة بالقراءات والحديث، والتحقق بعلم الكلام والتصوف، مع الزهد والعبادة. مات سنة ست وثلاثين وخمسمائة[5]. يتضح مما سلف أنّ ابن برّجان كان يستخدم الحساب في تفسير القرآن الكريم، وهذا الأثر يدل على أنّ علماء السلف كانت لديهم استخدامات للعدد القرآنيّ لم تتطور لتوظف في مسألة الإعجاز ودلائل النبوة.
      يقف البعض من علماء هذا العصر موقف المتردد من قضية الإعجاز العددي، بل إنّ بعضهم يستنكر هذا المسلك. وقد يرجع هذا الموقف إلى عوامل أربعة:
‌أ-            كون هذا المسلك من المسائل المستحدثة في المجمل، وقد اعتدنا أن نجد الرفض أو التردد تجاه كل جديد يتعلق بالقرآن الكريم؛ فهذا الخليفة الأول، رضي الله عنه، يتردد في جمع القرآن الكريم، ثمّ يطمئن إلى ذلك بعد أن ناقشه عمر ابن الخطّاب، رضي الله عنه. والدارس لتاريخ القرآن الكريم يجد أنّ العلماء قد رفضوا في االبداية إدخال النقط، والفتحة، والضمة، والكسرة، على النص القرآنيّ المكتوب، ثمّ وجدنا بعضهم يثورعند إدخال ترقيم الآيات ... ثم ما لبثوا جميعاً أن اطمأنوا، وعلموا أنّ في الأمر الخير الكثير. ومثل هذا الموقف محمود، حتى لا تذهب الأهواء بنا كلَّ مذهب.
‌ب-           كون الكثير من المحاولات العدديّة المعاصرة  هي ملاحظات يشوبها التكلف، والتّمحُّل، وفيها تحميل للأمور فوق ما تحتمل، مما يعطي صورة سلبية عن هذا الوجه من وجوه الإعجاز القرآني.
‌ج-           استغلال بعض المنحرفين من أمثال رشاد خليفة والبهائيين لقضية العدد، مما أدّى إلى ردود فعل سلبية على مسألة العدد في القرآن الكريم.
‌د-            لا شك أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقد وجدنا أنّ أغلب المترددين أو الرافضين لا يعرفون حقيقة ما نتكلم فيه من العدد القرآني، بل هم يظنون أن الأمر لا يخرج عن كونه ترديداً لما قيل سابقاً في هذه المسألة. وقد لمسنا تغيّراً في موقف الذين أحيطوا علما بحقيقة المسألة، واستشعروا جلالة هذا الوجه وانعكاساته الايجابية على الدراسات القرآنية.               
      يكتسب موقف الرافضين المترددين أهمية عندما نعلم أنّة يشكّل ضمانة مناسبة للتحقق من ِصدقيّة هذا المسلك، ومن قدرته على الإقناع وإقامة الحجة، كما ويساعد مثل هذا الموقف على لجم الاندفاع غير المتزن، نظراً لجاذبية كل ما هو جديد. ولكن هذا الكلام يصدق عندما تكون المعارضة جادّة وموضوعية، وتقوم على أساس من التصور الصحيح، والرغبة في الوصول إلى الحقيقة، بعيداً عن المكابرة. وسنضرب هنا مثالاً للتعريف بموقف بعض العلماء الأجلاء أدهشنا، لأنّه لا يستند إلى أساس، والغريب أنّ هذا الموقف قد تكرر في كتابات آخرين، منهم أربعة من العلماء الذين لهم باع طويل في الكتابة والبحث، ومنهجية التفكير؛ فقد قالوا، وهم يردّون ويفندون بدعة رشاد خليفة،: إنّ "بسم الله الرحمن الرحيم" ليست تسعة عشر حرفاً، لأنّ هناك ألفاً صغيرة تكتب فوق الميم في كلمة (رحمن). ولم يقولوا لنا لماذا هي صغيرة؟ والذي نعرفه في هذه المسالة أنّ هذه الألف هي من الاضافات التي أضيفت إلى النص القرآني المسمّى بالعثماني، للتوضيح وللتسهيل على القارئ، كغيرها من الإضافات؛ كالفتحة، والضمّة، والكسرة... وقد كان بالإمكان تفنيد بحث رشاد خليفة بسهولة؛ فبدل أن نتنكّر للمسلمات، وبدل أن نقدّم للناس تفنيداً متهافتاً، فإنّ بإمكاننا أن نبرز تلفيقات الرجل، وهي كثيرة، بل تشكّل معظم بحثه.  وهذا ما فعلناه في كتابنا (إعجاز الرقم 19 في القرآن الكريم مقدمات تنتظر النتائج).
      يتّضح من كتابات بعض المعارضين للإعجاز العددي أنّ لديهم تصوّر بأنّ المسألة نوع من العبثيّة التي لا يترتب عليها فائدة، ومن أمثلة ذلك قول بعضهم:"ترى أيّهما أهم وأولى للترغيب بهذا الدين، أن نعرض سمو معانيه وعظمة تشريعاته وصحة مقولاته العلمية التي توافق العلم الحديث أم هذا العدد الحرفي الجاف"[6]
.
      نقول في الإجابة عن سؤال الأستاذ الكريم: الأهم والأولى المعاني والتشريعات، ولكننا لسنا في مقام الموازنة، وإنما هو وجه جديد وجليل له فوائد عظيمة. ولا نحتاج هنا إلى الرّد أكثر على اعتراض الأستاذ الكريم، لأننا وجدناه يتراجع عن قوله بأنّ الرسم العثماني هو اصطلاحيّ، وذلك بعد أن لمس أهمّية العدد القرآني في إثبات أنّ الرسم العثماني هو توقيفي؛ أي بإشراف الرسول، صلى الله عليه وسلّم، وحياً. وهذا الأستاذ القرضاوي حفظه الله يجيد في الرّد على رشاد خليفة، ولكنّه عندما يتعرّض لحساب الجمّل نراه يذهب بعيداً حيث يقول:" ثم إنّ حساب الجُمّل مجرد اصطلاح من جماعة من النّاس، ولكنه اصطلاح تحكّمي محض، لا يقوم على منطق من عقل أو علم، فمن الذي رتب الحروف على هذا النحو: أ ب ج د هـ و ز ... ومن الذي جعل االألف رقم (1) والباء رقم (2) وهكذا ... كل هذا تحكم من واضعيه .... لا يُلزم أحداً"[7]
.
      نقول: لا يعرف أحد من الباحثين أصلاً لحساب الجُمّل، وواضح أنه مغرق في القدم، واستخدم هذا الحساب في اللغات الساميّة، ومنها اللغة العربية. وقد استخدمه المسلمون أيضاً، وعلى وجه الخصوص في التأريخ. وهذا يعني أنه جزء لا يتجزأ من لغة العرب. ويمكننا أن نسال نحن أيضاً: من الذي أطلق على الجبل اسم جبل، ومن الذي جعل الفعل مرفوعاً، أو منصوباً، أو مجزوماً ...؟! نعم قد ندخل هنا في خلاف العلماء؛ هل اللغة العربية توقيفيّة، أم اصطلاحية؟ وعلى أية حال: إن كانت اللغة العربيّة توقيفيّة، فهذا يرجّح أنّ الجمّل توقيفي أيضاًّ، لأنه من لغة العرب. وإن كانت اللغة اصطلاحيّة، فإنّ الجُمّل أيضاً اصطلاحيّ. ويمكننا اليوم أن نحسم هذه المسألة بسهولة، عن طريق استقراء الألفاظ القرآنيّة، وتقديم الدليل القاطع على استخدام القرآن الكريم لحساب الجمّل.
      يبدو أنّ الموقف من قضية الإعجاز العدديّ يتعلق بمنهجية التفكير بالدرجة الأولى، ومن هنا نجد أنّ مواقف العلماء تختلف باختلاف منهجيتهم، إلى درجة أنّ بإمكانك أن تتوقع ما سيكون عليه موقف العالم الفلاني على ضوء منهجيته في التفكير. وتتميّز مسألة الإعجاز العددي بأنها قضية استقرائية بالدرجة الأولى، ومن هنا فهي لا تحتاج إلى دليل نصّيّ من القرآن أو السنّة، لأننا نتحدث عن بُنية القرآن الكريم حرفاً، وكلمة، وآية، وسورة. أمّا القول بأنّ ما اجتمع لدينا من ملاحظات استقرائيّة يشكّل إعجازاً عدديّاً فمتروك لحكم للعقل السليم.

 

[1] عبد الحميد كشك: في رحاب التفسير. (المكتب المصري الحديث، القاهرة، مجلد 9) ص 8044.
[2] ابن عادل الحنبلي: اللباب في علوم الكتاب . (دار الكتب العلمية، بيروت، ج 2) ص 431.
[3] الفخر الرازي: التفسير الكبير (دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج11) ص 230.
[4] مجير الدين الحنبلي. الأنس الجليل. (مكتبة المحتسب، عمان – ج1) ص 331.
[5] الحافظ الداوودي. طبقات المفسرين. (دار الكتب العلمية، بيروت ج 1) ص 306.
[6] نعيم الحمصي: فكرة إعجاز القرآن ص 292.
[7]
القرضاوي، فتاوى معاصرة (دار الوفاء، المنصورة، ج2) ص 166.