غالبا ما يخلق العمل ليلا، سواء بالنسبة للرجل او المرأة، انعكاسات قد تكون سلبية او ايجابية حسب الظروف، ويعد عمل المرأة من المستجدات التي مست حياة النساء خلال العقود الاخيرة، عملها الذي لا يتلخص في مجرد دخل اضافي تعتمد عليه الاسرة، بل هو وثيق الصلة بتحرر المرأة وتحقيقها لذاتها ككائن يتحمل مسئولية نفسه، دون ان يكون عالة علي الآخرين ويستشعر ثقته بنفسه واحساسه بالكرامة، وعمل المرأة في الليل يدخل في اطار شعورها بكيانها المستقل. تري كيف تعيش المرأة شروط مزاولة مهنتها ليلا، لا سيما وانها مرتبطة بالتزاماتها الاسرية التي تجعل مسئولياتها مضاعفة؟ تأرجحت شهادات النساء حول عمل المرأة ليلا بين القبول والرفض وبين الاقتناع والمجازفة، والتحقيق التالي يوضح جوانب الخصوصية التي تميز هذا الواقع. الكثير من النساء يجدن في عمل الليل جوانب لا ترضيهن، خاصة وان المجتمع الخليجي والعربي ما زال يشتبه في كل امرأة وجدت في الشارع وفي ساعات متأخرة من الليل. تقول زينب جعفر (مشرفة مخازن) في هذا الصدد: كثيرا ما يجب عليّ ان ادخل متأخرة إلي بيتي، وعندما اصل إلي المنطقة التي اقطن بها، اري في عيون الشباب المتسكعين هناك علي الارصفة، علامات استفهام ونظرات تخفي كثيرا من الاستنتاجات اما الجيران فحدث ولا حرج، فتأويلاتهم تذهب بعيدا، عندما اركب سيارتي امام مقر عملي في الليل، اقفل كل ابواب السيارة من الداخل، لكي لا يقتحم احد سيارتي عندما اكون واقفة عند اشارة الضوء الاحمر. وبالاضافة إلي التعب الذي اشعر به، عليّ ان اتحمل نظرات راكبي السيارات الذين يقفون بمحاذاتي عند الاشارة الضوئية، اما علي المستوي العائلي ونظرا لأسرتي المحافظة فقد تكبدت مشقة كبيرة لإقناع اهلي بصعوبة عملي والتأخير المصاحب له، فليس بيدي حيلة والحمد لله علي كل حال .
سلبيات العمل الليلي وفي موقف مشابه يعكس سلبية العمل الليلي علي المرأة تقول ام عبدالله: مضيفة استقبال في مطار البحرين بأن عملها بالليل يخلق مشاكل جمة بينها وبين زوجها الذي يغار كثيرا: زوجي يطالبني دائما بالتخلي عن عملي، لأني احيانا اعمل في الليل فأتغيب عنه وعن اطفالي، كما ان غيرته الشديدة التي لا مبرر لها، تجعله متذمرا من عملي بالليل، لكني احاول دائما اقناعه، بأن ما يختلج في رأسه ليس سوي خيالات مريضة وانني رغم حبي لعملي الا انني لم اقصر ابدا في وجباتي تجاه اسرتي . وفي نفس السياق تقول الدكتورة مريم عيسي طبيبة اعصاب : العمل بالليل يرهقني كثيرا، فانا اعمل طيلة اليوم، وأضطر للعمل ليلا، وذلك لمدة يومين في الاسبوع، فأتعب كثيرا، خاصة وان عملي جد صعب ودقيق ويتطلب تركيزا اكثر ومجهودا مضاعفا، زد علي ذلك اني لا اري افراد عائلتي لايام، ادخل منهكة من عملي، فلا اطلب سوي الراحة والنوم، افتقد بذلك للدفء العائلي عندما يتغير ايقاع حياتي العادي .
لكل قاعدة شواذ هناك بعض النماذج من النساء اللاتي لا يعترضن علي العمل ليلا، بل يعشن التجربة بكل حماسة لأن ظروف العمل تساعدهن علي ذلك. وفي هذا السياق تقول افسانا كريمي مساعدة ممرضة - مستشفي السلمانية : امضيت قرابة خمس سنوات في العمل بالمستشفي، ولا اري ضررا من عمل الفتاة او المرأة في مجال التمريض والطب لأوقات متأخرة، خاصة وان هذا المجال انساني وفيه تقدر المرأة علي الابداع وتقديم الخدمات الانسانية للمرضي والمصابين. الا انه ينبغي الا يؤثر مجال عمل الفتاة لفترات متأخرة في الدوام ليلا علي واجباتها المنزلية والاسرية، وذلك ممكن عن طريق تفهم الزوج والزوجة لهذا الجانب، مع الحرص بالتأكيد، علي عدم الاخلال بالواجبات الابوية للاطفال، الذين هم بحاجة إلي العناية والاهتمام والحنان الكافي، وذلك في تصوري من الممكن تعويضه، طوال الساعات التي تمضيها الام (العاملة) بجانب اطفالها في ساعات تواجدها بالمنزل بالنهار ان كانت تعمل بالليل .
بين الأسرة والعمل كذلك تؤكد الدكتورة نضال خليفة (مستشفي السلمانية) علي ان الطب من المهن التي اذا دخلتها المرأة فلابد ان تتوقع لها طول ساعات العمل فيها، وخاصة في مراحل العمل الاولي، فإن الطبيبات ملزمات بالتأخر في الدوام اسوة بكل العاملات في هذا المجال. وعلي كل من يختار مهنة الطب كمجال عمل، ان لا يتراجع لقساوة وطبيعة ظروف المهنة. والمرأة رغم طبيعتها الانثوية الا انها قادرة علي العمل في اي مجال لأنها بطبيعتها وفطرتها تحب الابداع والاتقان لأنها تهتم، حتي بالأمور الصغيرة التي يمر الرجل عليها مرور الكرام في غالب الاحيان، وتستطيع بكفاءتها ان شاءت ان توفق بين عملها وبيتها في سهولة. كما ان الدولة عليها ان توفر الظروف المسببة لراحة المرأة العاملة، من خلال العمل علي توفير وسائل الرعاية والحضانة لأبناء العاملات، عبر ما يسمي كواليتي شايلد كير كما هو حاصل في البلاد الاوروبية. ومن خلال موقعها تقول الشرطية سمر مبارك من مركز الاحداث بمدينة عيسي: لقد ألتحقت بالعمل في سلك الشرطة ما يقرب 11 سنة وقد تأقلمت تماما مع العمل بنظام النوبات واصبحت لا اجد اية غضاضة في عملي الليلي طالما ان هذا العمل يندرج ضمن خدمة الوطن . ولا انكر ان العمل في سلك الشرطة قد اثر نوعا ما في حياتي الاسرية الا انني استطعت ان اوفق بين عملي وعائلتي وان اهتم بأطفالي وزوجي في الاوقات خارج الدوام الرسمي وان أغدق عليهم محبتي وعاطفتي والحمد لله نجحت في ذلك. اما عهدية احمد (صحفية ومذيعة بتلفزيون البحرين) تقول: ان طبيعة عملي في مجال الاعلام سواء كصحفية او مذيعة يتطلب مني البقاء في الدوام لأوقات متأخرة من الليل، الشيء الذي اصبح مألوفا وعاديا عندي وتأقلمت معه تدريجيا. الا ان هذا بالطبع يتطلب مني الحرص قدر الامكان علي جانب الالتزامات العائلية والمسائل الاسرية، والاهتمام بشئون الابناء والعناية بهم في الفترة التي تسبق او تعقب فترة الدوام، بحيث اخصص وقتا كافيا لأبنائي وزوجي اغمرهم فيها بحناني وعاطفتي .
ضغوطات نفسية قوية المواقف التي تعيشها المرأة العاملة البحرينية هي نفسها المواقف التي تعرفها المرأة العربية بصفة عامة مما يجعلها تتحدي تلك النظرة التي تستشعرها بالدونية وتجعل من ايمانها بضرورة استقلالها الذاتي سلاحا تحمي به نفسها، ولو كان ذلك علي حساب اشياء كثيرة تفتقدها كالراحة والأمن. وبما ان العمل وسيلة المرأة للتخلص من الاهانة والذل، فإن ظروف عملها الصعبة احيانا تجعل من عملها بالليل مجازفة من طرفها. وعلي هذا الاساس تقول ضحوك البنوان (اعلامية من دولة الكويت) بأنها اضطرت للعمل حتي ساعات متأخرة من خلال متابعتها للتطورات، بفعل تواجدها بالقرب من ساحة القتال خلال الحرب الاخيرة علي العراق، وفي نفس يوم عودتها في الفجر إلي الكويت. استمرت في عملها ولم تخلد للراحة، حيث انه كان يتعين عليها الاستمرار في العمل لمتابعة نتائج الانتخابات لمجلس الامة، اذ كانت النتائج في نفس يوم عودتها من العراق! وتوضح ضحوك، انه لا ضير في تأخر الفتاة حتي وقت متأخر في موقع عملها، الا ان هذا الامر يتطلب بالطبع ثقة الاهل وفي ظل الرغبة الاكيدة من جانب المرأة في الابداع والعمل المتفاني. ومن المغرب، تتحدث فاطمة بكر باحثة اجتماعية حول هذا الموضوع قائلة: من المهام الاساسية في المجتمع العربي الا يحقر من شأن عمل المرأة، وان يهيء الظروف والمناخات المناسبة للمرأة لكي تعمل وتبدع في عملها . اما اذا استلزم الامر ان تبقي المرأة في عملها وتمكث فيه حتي ساعات متأخرة من الليل فلا ضير في ذلك بالطبع مادام للمرأة حشمتها والتزامها الاسري والعائلي كما ان المرأة العاملة مطالبة بالقيام بأداء مهامها في الاسرة والمنزل علي اكمل وجه، لا ان يقف مجال العمل حجر عثرة في وجه ذلك.
العمل الليلي يتسم بالهدوء ومن الجزائر تقول فاطمة غالي، مساعدة اخراج بالقناة الجزائرية: افضل عملي بالليل، لأن الجو عامة يكون اكثر هدوءا منه في النهار، فأشتغل بتركيز اكثر وبذهن صاف لا يعكر صفوه شيء وبالتالي استغلال بقية اليوم وفق برنامج خاص اضعه لنفسي، كما ان زوجي يتفهم ظروف عملي، لذا لا اجد مشكلة في علاقتي مع اسرتي، الا ان وجود طفلي واحتياجه لي في بعض الاوقات ليلا يضايقني بعض الشيء، لكن وجود والدتي التي ترعاه في غيابي يطمئنني .
خوف، رعب، عنف، اغتصاب ومن مصر تقول زكية محمد عاملة بمصنع: اسكن بعيدة جدا عن المعمل الذي اشتغل فيه كالعديد من النساء العاملات معي، اعمل احيانا في النوبة الليلة من الساعة العاشرة ليلا إلي الخامسة صباحا، نجبر علي الوصول بساعات قبل وقت الدخول لعدم وجود وسيلة نقل تقلنا إلي مكان عملنا والطريق غير آمن في الظلام، نضع قطعا من الورق المقوي لنجلس عليها امام باب المعمل (المصنع) إلي حين وقت العمل، وكذلك عندما ينتهي العمل في الخامسة صباحا، ننتظر بجوار المصنع حتي شروق الشمس وظهور الناس خوفا من ملاقاة السكاري . وفي تعليق سريع تقول إلهام محمد (صحفية) تجد المرأة نفسها احيانا مجبرة علي العمل ليلا اذا كانت تمتهن مهنا تتطلب بقاءها لساعات متأخرة من الليل، مثل جمارك المطار، والاسواق الحرة والفندقة والقطاع السياحي ومجال الطب والتمريض والعمل الصحفي احيانا. الا ان عمل المرأة في كل تلك المناحي الحياتية يتطلب من المرأة ان تثبت انها جديرة بتحمل المسئولية وانها تمتلك المقدرة الكافية علي الابداع والانتاج ليل نهار، اسوة بالرجل، دون كلل او ملل، ورغم طبيعتها الانثوية .