السياسة العسكرية في العهد النبوي
الناقل :
elmasry
| الكاتب الأصلى :
العميد/ مصطفى أحمد كمال
| المصدر :
www.55a.net
السياسة العسكرية في العهد النبوي
العميد
/ مصطفى أحمد كمال
(1)
مما لا شك فيه أن النتائج تتناسب طردياً مع الوسائل والأساليب المستخدمة لتحقيق تلك النتائج، وهذه البديهية تنطبق تماماً على جميع وكافة المجالات، وتظهر بصورة واضحة وجلية في المجال العسكري أو القتالي. وحينما نتناول الجانب العسكري في عهد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم فإننا نقف مبهورين أمام النتائج العظيمة التي تحققت خلال بضع سنين، وهي الفترة المحصورة بين هجرة المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ من مكة إلى المدينة، وحتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى. وحيث نجد أن أبرز هذه النتائج التي تحققت خلال سنوات تعد على الأصابع كالآتي:
1 ـ إن بناء مجتمع إسلامي جديد في المدينة المنورة على أسس وأخلاقيات الإسلام على الرغم من التمزق الذي كان يحيا فيه مجتمع المدينة قبل وصول المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
2 ـ توسيع رقعة المجتمع الإسلامي لكي تشمل شبه الجزيرة العربية بمساحة تصل إلى مليون ميل مربع، وهي مساحة تعجز وسائل القتال الحديثة عن تحقيق مثلها في نفس الفترة الزمنية، مع مراعاة أن جميع الأطراف المعادية التي واجهها الجيش المسلم كانت تتمتع بالتفوق البشري وكثرة المعدات إضافة إلى الخبرة القتالية ودراسة طبيعة الأرض.
3 ـ بناء جيش مسلم قوي قادر على حماية المجتمع الإسلامي وتوفير الأمن له، وأيضاً قادر على حماية الدعوة الإسلامية والدعاة وهم ينتشرون شرقاً وغرباً لإبلاغ كلمة الحق للعالمين.
والنتائج الموضحة لا يمكن أن تتحق من فراغ، وهي نتائج عظيمة، ومن المؤكد أن وراءها فكراً وأساليب ووسائل عظيمة أدت إلى تحقيقها. ذلك كان المدخل لمحاولة الوصول إلى شكل السياسة العسكرية الإسلامية في عهد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، فالنتائج المحققة تدل على أن تلك السياسة كانت على أرقى مستوى علمي من التخطيط والتنفيذ، وهو ما سوف نتعرف عليه بعد أن نتفق على مجوعة من المفاهيم العسكرية الهامة.
مفاهيم يجب الاتفاق عليها:
1 ـ المفهوم الأول: حول المعارك الحقيقية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم:
هناك أحداث عسكرية كثيرة تمت في عهد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، وقد بلغت هذه الأحداث نحو بضع وثمانين حدثاً
[2]
. وهذه الأحداث لا يمكن أن تصنف معارك عسكرية خصوصاً أن النشاط البشري يعتبر أصعب النشاطات الإنسانية بما يتطلبه من استنفار كامل للطاقة البدنية والعقلية والنفسية، وبالتالي فمن الصعوبة على بشر أن يقوموا بتنفيذ مثل هذا العدد الهائل من المعارك خلال بضع سنين. وهذا المفهوم الجوهري ارتبط أيضاً بخطأ في المفهوم الشكلي حيث أطلق اسم " غزوة "
[3]
على العديد من الأنشطة العسكرية في عهد الرسول، وهي أنشطة بريئة تماماً من هذا الاسم، وللدلالة على ذلك فإن معركة " أحد " يطلق عليها " غزوة أحد " وأيضاً " الخندق " تسمة " غزوة الخندق " ـ وإذا جاز للطرف الظافر أن يطلق عليها " غزوة " فهل هذا مقبول من وجهة النظر الإسلامية؟ وحتى نصل إلى المعارك الحقيقية التي تمت في عهد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم فمن المهم هنا أن نصنف الأنشطة العسكرية التي تمارس من قبل أي قوة مسلحة، ونطبق ذلك التصنيف على الأنشطة في عهد الرسول، ولا حرج في ذلك؛ فأسس ومبادئ أي علم ثابتة من يوم اكتشاف هذا العلم، وتصنيف الأنشطة شئ بديهي في المجال العسكري. وأي قوة مسلحة في العالم تخضع
أنشطتها لهذا التصنيف:
(أ) الأنشطة الروتينية اليومية:
وهذه الأنشطة تنحصر في النشاط التدريبي، وهو نشاط اهتم به الرسول القائد صلى الله عليه وسلم بعد إقامة المجتمع الإسلامي في المدينة لبناء الجيش المسلم، ومن أمثلة هذا النشاط ـ على سبيل المثال ـ سرية حمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان من العام الأول. كما يقع تحت هذا البند الأنشطة الخاصة بتأمين المجتمع الإسلامي والدفاع عنه، ومن أمثلة ذلك سرية عبد الله بن جحش في رجب من العام الثاني بمهمة جمع معلومات عن العدو.
(ب) الأنشطة الخاصة بالأمن الداخلي:
وهو نشاط يتضمن جميع الإجراءات المتخذة لضمان سلامة المجتمع ضد الفتن بأنواعها المختلفة، أو ضد الكوارث الطبيعية، حيث تستخدم الأداة العسكرية بإمكانياتها الكبيرة في التغلب على الآثار المترتبة على تلك الكوارث، ومن أمثلة هذه الأنشطة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم جميع الإجراءات التي اتخذت ضد يهود المدينة. فاليهود في المدينة بعد أن وقع معهم الرسول صلى الله عليه وسلم معاهدة تحدد حقوقهم وواجباتهم كأفراد المجتمع المسلم أصبحوا جزءاً من نسيج المجتمع المسلم، وعندما يشكل هذا الجزء فتنة تهدد وحدة المجتمع، ويتم التخلص من هذا الجزء ـ كما حدث بعد معركة الخندق ـ فإن هذا التخلص يعتبر إجراء من إجراءات الأمن الداخلي وليس معركة عسكرية.
(ج) أنشطة الواجبات الخاصة:
وهي مهام تنفذ لصالح المجتمع، وتكلف بتنفيذها الأداة العسكرية أو القوات المسلحة. وهذه المهام والأنشطة كانت تنفذ في العصر النبوي وبصورة تتناسب مع حجم النمو الذي يمر به المجتمع الإسلامي، ولعل مفهوم الجهاد في الإسلام بما يتميز به من شمولية وعمومية يمكن أن يستخرج لنا الكثير من الأمثلة التي سوف نكتفي منها بمثال واحد، هو ما قدمه عثمان بن عفان عند تجهيز وإعداد جيش تبوك.
(د) أنشطة المهام القتالية ( المعارك ):
فالمعركة العسكرية أو القتالية عبارة عن صراع بين قوتين أو أكثر يهدف كل طرف من خلاله إلى تحقيق هدفه وفرض إدارته على الطرف الآخر. ومن خلال المفهوم السابق يمكننا القول أن الجيش المسلم في عهد الرسول القائد قد نفذ سبع معارك، هي كالآتي:
(1) المعارك الدفاعية، وتشمل معارك ( بدر، وأحد، والخندق ).
(2) المعارك الهجومية، وتشمل المعارك ( فتح مكة، ووادي حنين ).
(3) معارك الإعداد ، وتشمل معارك ( مؤتة ، وتبوك ).
2 ـ المفهوم الثاني:
هو الفارق بين سبب المعركة وهدف المعركة، فالسبب الذي من أجله تشب المعركة هو الذريعة التي اتخذها أحد الأطراف لبدء القتال. أما هدف المعركة فهو الحدود أو الأماكن التي لو وصل إليها أحد الأطراف أمكنه أن يفرض شروطه، أو أن ينهي القتال الدائر، وهناك علاقة بين كل من الهدف والسبب، يمكن إيضاحها من خلال الآتي:
(أ) انطباق الهدف على السبب:
هناك معارك يكون الهدف منها هو القضاء على السبب الذي من أجله قامت الحرب، وأفضل مثال لذلك حرب " فوكلاند " بين المملكة المتحدة والأرجنتين، فقد شبت الحرب بعد استيلاء الأرجنتين على جزيرة " فوكلاند " وكان الهدف الإنجليزي من الحرب استعادة الجزيرة، وتوقف القتال بعد تحقيق الاستعادة. والمعارك التي ينطبق فيها السبب على الهدف غالباً ما تكون معارك محدودة، ويقصد بالمعارك المحدودة ـ أي غير المخططة ـ ضمن استراتيجيات الدول.
(ب) عدم انطباق الهدف على السبب:
ومثل هذه المعارك تكون معارك مخططاً لها بدقة ضمن استراتيجيات طويلة المدى، وحيث يستمر الصراع قرناً أو نصف قرن، مثل الصراع القائم في شبه القارة الهندية بين الهند وباكستان، والصراع الدائر في الشرق الأوسط، وأفضل مثال لذلك حرب يونيو عام 1967م والتي كان السبب في اندلاعها هو سحب قوات الأمم المتحدة والسيطرة على مدخل خليج العقبة من خلال التواجد في صنافير وتيران، وعلى الرغم من أن ذلك هو سبب قيام الحرب إلا أن الهدف الرئيسي للقوات الإسرائيلية كان ينحصر في الوصول إلى حدود آمنة على جميع الجهات العربية ( قناة السويس في مصر ـ هضبة الجولان في سوريا ـ الضفة في الأردن).
3 ـ المفهوم الثالث: وهو صور الأعمال القتالية:
هناك صورتان للقتال، هما: الصورة الهجومية، والصورة الدفاعية، ويخرج من كل صورة العديد من الصور الفرعية، والذي يمكننا هنا أن نتكلم عن الصورتين بصفة عامة وبعيداً عن الصور الفرعية، ويمكن أن نوجز ما نريد الوصول إليه من خلال الآتي:
(أ) الصورة الهجومية:
تعتبر الصورة الرئيسية للمعركة، فلا يمكن لطرف أن يحقق هدفه إلا من خلال الهجوم الذي يؤدي إلى فرض الإرادة وتحقيق النصر. ولا شك أن المعركة الهجومية تحتاج إلى مهارات كثيرة للقتال، وتحتاج إلى وقت كبير لاكتسابها وامتلاك القوات لها؛ لذلك يمكننا القول أن الهجوم صورة قتالية معقدة لا ينفذها بصورة صحيحة إلا القوات المسلحة المتطورة والمتقدمة.
(ب) الصورة الدفاعية:
تعتبر صورة وقتية، بمعنى أن استمرار القوات في العمل الدفاعي يعرضها للهزيمة؛ لأن الدفاع مهما كانت قوته ودرجة التحصين التي يتمتع بها لا بد وأن يسقط تحت وطأة الهجمات التي تشنها القوات المهاجمة؛ ولذلك فهو صورة دقيقة لحين التحول إلى الهجوم، والمهارات الدفاعية أقل تعقيداً من المهارات الهجومية، ويمكن اكتسابها بسرعة نظراً لأنها تحتوي على مهارات كثيرة فطرية.
ويمكن أن نضرب مثلاً يوضح الفارق بين الصورة الهجومية والصورة الدفاعية ، فبعد انتهاء حرب يونيو عام 1967م وتحول الجيش المصري إلى فلول مهزومة كانت أولى خطوات إعادة بناء جيش هو الدفاع عن الضفة الغربية للقناة، ثم بعد ذلك التدريب على عمليات العبور للقناة، ولا يمكن أن يتم العكس، فالمهارات الدفاعية أولاً عند الاكتساب ، ثم الهجومية.
مفهوم السياسة العسكرية والعوامل التي تبنى عليها:
1 ـ تعرف السياسة العسكرية بأنها جميع الإجراءات المتخذة من قبل قيادة سياسية أو عسكرية لتحقيق هدف طويل المدى في الزمان والمكان، وبحيث يضفي البعد الزماني والمكاني للهدف نوعاً من الثبات والتوازن للإجراءات العسكرية التي تتخذ لتحقيق ذلك الهدف. والتعريف السابق يقترب كثيراً في جوهره من التعريفات المتعلقة بعلم الاستراتيجية والتخطيط الاستراتيجي.
2 ـ وهناك مجموعة من العوامل التي تبنى عليها السياسة العسكرية يمكن إيجازها في الآتي بعد:
(أ) الهدف المراد تحقيقه:
والهدف في موضوعنا الذي نتكلم عنه يمكن إيضاحه في بساطة شديدة في إطار قول المولى ـ عز وجل ـ:
)
وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير
(
[الشورى: 7].
(ب) الإمكانيات المتيسرة:
ومما لا شك فيه أن الإمكانيات المطلوبة لتحقيق الهدف تخضع لدراسة دقيقة ومتأنية عند وضع أي سياسة عسكرية، وكان هذا العامل من أكثر العوامل إثارة للجدل خصوصاً وأن الرسول القائد صلى الله عليه وسلم عندما وصل إلى المدينة المنورة مهاجراً من مكة لم تكن معه أية موارد أو إمكانيات يستطيع من خلالها تنفيذ أية سياسة، بل إن المجتمع الذي استقبل الرسول في ذلك الوقت كان مجتمعاً تمزقه الصراعات والفتن؛ ولذلك اعتمد الرسول القائد على الآتي:
(1) سرعة بناء المجتمع الإسلامي الجديد في المدينة، وعلى أسس إسلامية عظيمة؛ حيث إن المجتمع هو القاعدة التي تنهل منها الأداة العسكرية، والتي هي أولى الموارد والإمكانيات اللازمة لتنفيذ أية سياسة عسكرية.
(2) دعم السماء الذي لا حدود له للجيش المسلم والمجتمع المسلم، فخاتم الديانات لا بد وأن يصل إلى العالمين، وخاتم النبيين لا بد وأن تورث سننه للعالمين، ومن هنا فإن دعم السماء سيكون له دور هام في النصر.
(3) أن الموارد والإمكانيات سوف تخضع للتغير المستمر، وهو تغير غير محدود؛ حيث إن الإضافات للإسلام نتيجة إسلام غير المسلم تعتبر إضافة مزدوجة؛ لأنها في نفس الوقت استنزال من قوة الطرف المعادي.
(ج) طبيعة الطرف المعادي:
يؤثر الطرف المعادي تأثيراً كبيراً في أسلوب وضع السياسة العسكرية وفي الوضع الذي نتكلم عنه كان هناك مجموعة من الملامح التي تحدد شكل العدو، منها على سبيل المثال:
(1) إن السياسة العسكرية الموضوعة يجب أن تراعي تعدد الطرف المعادي حيث إن العدو الموجود في أم القرى يختلف عن العدو الموجود حولها.
(2) أن العدو الموجود في أم القرى هو الذي سوف يتم التعامل معه أولاً، وكان ذلك من حسن حظ الجيش المسلك نظراً للتماثلوالتشابه بين طرفي الصراع.
(3) أن هناك قدراً كبيراً من المعلومات المتيسرة عن العدو الموجود في أم القرى، وأيضاً عن طبيعة الأرض نظراً لوجود وحدات عسكرية مسلمة يتشكل قوامها من المهاجرين من مكة إلى المدينة.
وهناك عوامل أخرى كثيرة تؤثر في بناء السياسة العسكرية ولكن نكتفي هنا بإبراز العناصر التي شكلت السياسة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والتي أدت في النهاية إلى تحقيق نتائج تعتبر بجميع المقاييس والمعايير هي النتائج العسكرية الأولى عبر التاريخ البشري منذ خلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ الأرض ومن عليها.
السياسة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم:
1 ـ كما هو واضح من المهمة التي كلف بها الرسول الكريم من المولى ـ سبحانه وتعالى ـ في قوله
:
)
وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير
(
[الشورى : 7].
إن الإنذار سوف يكون من خلال مراحل وأسبقيات، وحيث سيكون هناك مرحلة تسبق الإنذار يمكن أن تسمى بمرحلة الاستمكان؛ لأن المجتمع الوحيد بالمدينة بدأ خطوته من أول السلم وكان لا بد وأن يمر بهذه المرحلة حتى يكون قادراً على تنفيذ الأمر الإلهي بنشر كلمة الحق في ربوع العالمين، ومن هنا يمكننا القول أن السياسة العسكرية الإسلامية في عهد الرسول القائد تضمنت ثلاث مراحل كالآتي:
أ ـ مرحلة الاستمكان:
وهي المرحلة الدفاعية التي دافع خلالها الجيش المسلم عن المجتمع الإسلامي الوليد، واستمرت هذه المرحلة ثلاث سنوات من رمضان في العام الثاني إلى ذي العقدة من العام الهجري الخامس، وقد شملت هذه المرحلة المعارك الآتية:
(1) معركة بدر:
في رمضان من العام الهجري الثاني وهي المعركة الأولى التي خاضها الجيش المسلم دفاعاً عن المجتمع الإسلامي الوليد، وقد كان لدعم السماء للجيش المسلم دور كبير في النصر، وانظر إلى قوله تعالى:
)
إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم و لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم
(
[الأنفال : 42].
(2) معركة أحد:
في شهر شوال من العام الثالث الهجري، وعلى الرغم من هزيمة الجيش المسلم في هذه المعركة إلا أن المولى ـ سبحانه وتعالى ـ قد أعمى بصيرة قادة الجيش الكافر فاكتفوا بالانتقام لخسائرهم في بدر وعادوا من حيث جاءوا، ولو تحركوا صوب المدينة لقضوا على المجتمع المسلم الوليد. ومن هنا يمكننا القول أن دعم السماء للجيش المسلم جاء بصورةٍ غير مباشرة عكس الدعم في معركة بدر.
(3) معركة الخندق:
في شهر ذي القعدة من العام الخامس الهجري، وهي آخر معارك الدفاع ومرحلة الاستمكان، وكان دعم السماء هنا في صورة مباشرة مصداقاً لقوله تعالى:
)
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً * إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً
(
[الأحزاب : 9 ـ 11].
ب ـ مرحلة التعرض والهجوم داخل شبه الجزيرة العربية أو ( إنذار أم القرى ):
وفي هذه المرحلة بدأ الجيش المسلم في التحول من الأعمال الدفاعية الثابتة إلى الأعمال الهجومية والتعرضية، واستمرت هذه المرحلة من رمضان في العام الهجري الثامن إلى شوال من نفس العام وقد شملت هذه المرحلة المعارك التالية:
(1) معركة فتح مكة:
وتعتبر هذه المعركة درة في جبين التاريخ العسكري الإسلامي، حتى يمكننا القول أنها كانت بياناً عملياً عن أسلوب مهاجمة المدن والاستيلاء عليها بأقصى سرعة وبدون خسائر؛ حيث كان نصر الله المبين مصداقاً لقوله:
)
وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيراً
(
[ الفتح : 24].
وهذه المعركة كانت في رمضان من العام الثامن.
(2) معركة وادي حنين:
وقد تمت هذه المعركة بعد فتح مكة بأيام قليلة وبعد أن تجمع المنافقون والكافرون في وادي حنين، وتعتبر هذه المعركة هي المعركة الوحيدة في تاريخ السياسة العسكرية التي وضعها الرسول القائد صلى الله عليه وسلم التي كان الجيش المسلم يتمتع فيها بالتفوق في القوات والعتاد، ومن عجب أيضاً أن الجيش المسلم تعرض للفشل في بداية المعركة، وحيث كان الدور العظيم الذي قام به القائد أثر إعادة لم شمل الجيش واستكمال المعركة، وفي ذلك يقول المولى ـ عز وجل ـ:
)
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين
(
[التوبة: 25].
جـ ـ مرحلة التعرض والهجوم خارج شبه الجزيرة العربية أو ( إنذار من
ه
م حول أم القرى):
في هذه المرحلة يلاحظ أن الرسول القائد صلى الله عليه وسلم قد أعد جيشه ودربه استعداداً لتنفيذ هذه المرحلة، وحيث توفي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قبل بدايتها وحيث تمتد هذه المرحلة من انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى وحتى قيام الساعة ويلاحظ هنا أن مسئولية استكمال سياسة الرسول القائد انتقلت تلقائياً إلى المجتمع الإسلامي، وهو ما حدث في عهد الخليفة الأول عندما أمر بدفع الجيوش المسلمة في اتجاه العراق والشام.
2 ـ وقد خطط الرسول القائد صلى الله عليه وسلم أن يتم التحول من مرحلة إلى أخرى في إطار موضوعي وواقعي، وحيث تم إعداد الجيش المسلم وتدريبه على الأعمال الهجومية بعد انتهاء مرحلة الاستمكان واستعداداً للمرحلة التالية من خلال معركة مؤتة، ونفس الشئ تم عند إعداد الجيش المسلم وتدريبه للانتقال للمرحلة الثالثة بعد انتهاء المرحلة الثانية من خلال معركة تبوك. ويمكن أن نستعرض معارك الإعداد والتدريب من خلال الآتي:
أ ـ معركة مؤتة:
(1) معركة تدريب وإعداد للجيش للتحول من مرحلة الدفاع إلى مرحلة التعرض.
(2) تم من خلالها تقديم القدوة في التضحية بالنفس لإعلاء كلمة الحق، وحيث كانت التضحية في مرحلة الاستمكان دفاعاً عن العرض والأرض، وهذا ما يفسر قيام الرسول القائد صلى الله عليه وسلم بتعيين ثلاثة قادة أحدهم من آل البيت
[4]
وأيضاً يفسر لماذا لم يخرج الرسول في هذه المعركة.
(3) وفي هذه المعركة أيضاً اكتسب الجيش المسلم مهارات التحرك لمسافات طويلة وأسلوب السيطرة على هذا التحرك، وتوفير الإعاشة للقوات.
(4) كما اكتسب الجيش المسلم خبرة عظيمة في القتال تحت ضغط العدو، وذلك عندما استشهد القادة الثلاثة وتولى القيادة خالد بن الوليد، والذي قام بتنفيذ الانسحاب النموذجي لقواته.
(5) وعندما استقبل الصبيان الجيش العائد من مؤته: كانوا يصيحون ( يا فرار في سبيل الله ) فيرد الذي يعلم الغرض من المعركة صلى الله عليه وسلم: «بل هم الكرار في سبيل الله».
ب ـ معركة تبوك:
(1) معركة إعداد وتدريب بين المرحلة الثانية ( التعرض داخل شبه الجزيرة العربية والمرحلة الثالثة التعرض خارج شبه الجزيرة العربية ).
(2) ونظراً لأن الجيش المسلم سوف ينطلق في المرحلة الثالثة إلى من هم حول أم القرى، وسوف يواجه الجيش المسلم دائما تفوق الطرف الآخر، لذلك ركز الرسول القائد قبل انتقاله للرفيق الأعلى على موضوع استنفار القوات، ومعروف بالطبع قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن المعركة، وقام المجتمع المسلم بمقاطعتهم حتى نزل فيهم قول المولى ـ عز وجل ـ:
)
وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم
(
[ التوبة : 118].
(3) ونظراً لأن الجيش المسلم خلال المرحلة الثالثة سوف يتجه شرقاً وغرباً وفي أماكن طقسها مغاير لطقس شبه الجزيرة العربية، وفي أماكن أخرى طقسها يتصف بالقسوة، فقد شاء المولى ـ عز وجل ـ أن تنفذ هذه المعركة في طقس سيءقاس، حتى أطلق على معركة تبوك: معركة العسرة.
( انظر مخطط السياسة العسكرية ).
[1] – عميد أركان حرب بالقوات المصرية.
[2] – غزوات الرسول، لابن سعد.
[3] – غزا: سار لقتال العدو.
[4] – القادة الثلاثة: زيد بن حارثة ـ جعفر بن أبي طالب ـ عبد الله بن رواحة، بالترتيب.