أسير فى قيد ... دروس وعبر

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : محمد حسان | المصدر : www.mohamedhassan.org

أسير فى قيد ... دروس وعبر

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران:102]  
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا  [النساء:1]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً   يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً[الأحزاب:70-71]
 
أما بعد
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة فى النار .
 : أحبتي في الله
(( أسير فى قيد .. دروس وعبر )) هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك حتى لا ينسحب الوقت من أيدينا سريعاً فسوف أركز الحديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية :
أولاّ : الرفق والإحسان إلى الناس يُحِولانِ البغض إلى حب.
ثانياّ : سيرة حافلة بالدروس والعبر .
ثالثاّ : عودة واجبة.
فأعيرونى القلوب والأسماع والله أسأل أن يجعلنا ممن الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:18]
  أولا : الرفق والإحسان إلى الناس يحولان البغض إلى حب .
   أحبتى فى الله ..
    روى البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى من حديث أبى هريرة قال : بعث رسول الله خيلاً قِبل نجد (أى أرسل النبى سرية عسكرية استطلاعية ناحية نجد ، وكانت هذه السرية بقيادة محمد بن سلمة فجاءت هذه السرية برجل من بنى حنيفة يقال له : ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربطت هذا الرجل فى سارية من سوارى المسجد (أى عمود من أعمدة المسجد) وهم لا يعرفونه ، فثمامة قبل من أقبال العرب (أى : سيد من أسياد العرب وشريف من أشرافهم) أسروه وهو فى طريقه إلى العمرة ولكن كان على الشرك بالله جل وعلا ، وأدخلوه إلى المسجد ، وربطوه فى عود من أعمدة المسجد النبوى فلما دخل النبى رآه فعرفه وفى رواية ابن هشام قال النبى  لأصحابه : ((أَلاَ تَعرِفُونَ مَنْ هَذَا ؟!!، إِنِّهَ ثُمَامًةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ اليَمَامَةِ)) وأمر النبى  أصحابه أن يحسنوا إليه.
    ونعد إلى رواية الصحيحين خرج النبى   إليه قال : ((مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامًةُ ؟)) فقال : عندى يا محمد خيرٌ إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت ، فتركه النبى حتى كان الغد . ثم خرج النبى فقال : ((مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامًةُ ؟)) قال : ما قلت لك : إن تنعم تنعم على شاكر ، وإن تقتل تقتل ذا دم ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت ، فتركه رسول الله حتى كان من الغد فقال : ((مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامًةُ ؟)) فقال : عندى ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر ، وإن تقتل تقتل ذا دم ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت . فقال النبى  : ((أَطْلِقُوا ثُمَامًةُ)) ، فأطلقه أصحاب النبى   ، فانطلق ثمامة إلى نخل قريب من المسجد النبوى ، فاغتسل ، ثم دخل المسجد ، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وقال : يا محمد والله ما كان على الأرض وجهٌ أبعض إلىّ من وجهك ، فقد أصبح وجهُك أحب الوجود كُلها إلىّ ، والله ما كان من دين أبغض إلىّ من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين كله إلىّ ، والله ما كان من بلد أبغض إلىّ من بلدك ، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلىّ ، وإن خيلك أخذتنى وأنا أريد العمرة فماذا تأمرنى ؟. فبشره النبى   - قال الحافظ ابن حجر : بشره بخيرى الدنيا والآخرة أو بشره بالجنة أو بشره بتكفير سيئاته لأن الإسلام يهدم ما قبله - .
     بشره رسول الله وأمره أن يعتمر ، فلما قدم مكة قال له قائل : أصبوت ؟ (أى هل تركت دين آبائك وأجدادك وتبعت محمد على دينه ؟) قال : لا ولكنى أسلمتُ مع رسول الله  والله لا يأتيكم من اليمامة حبةُ حنطةٍ (أى حبة قمح) حتى يأذن فيها رسول الله  (1
     وفىروايةابن هشام : أن ثمامة لما وصل بطن مكة رفع صوته بالتلبية فكان أول من لبى وجهر بالتلبية فى مكة فيما رأى المشركون رجلاً يتحداهم بهذه الصورة العلنية الجريئة قالوا : من هذا الذى يجترى علينا ويرفع صوته بالتلبية فى بلادنا وديارنا ويردد الكلمات التى يُعَلِمُهَا محمدٌ لأصحابه ؟! فانقضوا عليه وأرادوا أن يضربوا رأسه ، فقال أحدهم : ألا تعرفون من هذا إنه ثمامة ابن أثال سيد أهل اليمامة وأنتم تحتاجون إلى اليمامة فى طعامكم فخلوا سبيل الرجل ،فالتفت إليهموقال: واللهلا يأتينكم حبة من حنطة من اليمامة إلا بإذن رسول الله   .
 أيها الأحبة الكرام ...
   أنه مشهد بالغ الروعة اعترف بداية أننى أعجز عن أن أصور لحضراتكم روعته وعظمته وجلاله ، فرسول الله  هو الرحمة المهداة والنعمة المسداه ، لا للموحدين فحسب بل للعالمين قال تعالى : َمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الانبياء:107].
     قال ابن عباس رضى الله عنهما : رسول الله رحمة للبار والفاجر فمن آمن به تمت له النعمة ، وتمت له الرحمة فى الدنيا والآخرة ، ومن كفر أمن من عذاب الدنيا حتى يلقى الله فى الآخرة مصداقاً لقول الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33] .
    وفى الصحيحين - وتدبر هذا الحديث - عن عائشة قالت : يا رسول الله هل أتى عليك يوم كانأشدعليكمنيوم أحد فقال المصطفى : ((لقدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ،وَكَانَ أَشَدَّمَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ ‏‏الْعَقَبَةِ ‏‏إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ‏‏ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ)) وهوشريفمنأشرافأهلالطائف ولكنه رفض دعوة النبى وسلط الصبيان والسفهاء على الحبيب ورموه بالحجارة حتى سالت الدماء من جسده الطاهر يقول : ((فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وأنا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ)) مكان يبعد عن الطائف بما لا يقل عن خمسة كيلو مترات ، ولم يستفق النبى   من همه وألمه إلا فى هذا الموطن ودماؤه تنْزف يقول : ((فَرَفَعْتُ رَأْسِي ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا ‏‏جِبْرِيلُ ‏‏فَنَادَانِي فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ، قَالَ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ ، وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ : يَا ‏‏مُحَمَّدُ ‏‏، فقال : إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ . فَمَا شِئْتَ ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ )) فقال له النبى  : ((‏‏بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ ‏أَصْلَابِهِمْ ‏ ‏مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا))(1) وفى رواية لما قيل أدع على المشركين قال المصطفى :((((إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً)) .
     أيها المسلمون : تدبروا كيف حَوَّل الرفق والإحسان من رسول الله   البُغض المتأصل فى قلب ثمامة إلى حب جياش فياض!! . ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة خرج إلى مكة ليعتمر ليقول : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك إلاشريكاً هو لك . تملكه وما ملك ، فأبى الله جل وعلا إلا أن يلبى تلبية الموحدين ، فسبحان من بيده القلوب بحولها كيف يشاء قال تعالى :وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ[الأنفال:24].
     ثمامة أُسر ورُبط فى المسجد وهنا ترجم عليه البخارى باباً يُجوّز فيه أن يدخل المشرك إلى المسجد ، وأبى النبى إلا أن يظل ثمامة فى المسجد النبوى لِحِكَمٍ غالية عديدة .. ليرى ثمامة بعينيه وليسمع بأذنيه عظمة هذا الدين .. ليرى النبى بنفسه .. وليسمع كلام النبى .. وليرى أخلاق النبى  .
      أيها المسلمون :لا بد أن نعى هذا الدرس العنف يهدم ولا يبنى ، الشدة تفسد ولا تصلح. الرفق والإحسان إلى الناس هو الذى يحول البغض فى القلوب إلى محبة صادقة فياضة ، ما أحوجنا إلى أن نعى هذا الدرس .
 ‏يأتى شاب شرح الله صدره للالتزام فأعفى اللحية ، وقصر الثوب ، وحافظ على مجالس العلم ، ولا زال أبوه بعيداً عن طريق الله ، ولا زالت أمه بعيدة عن طريق رسول الله ، فيجعل هذا الشاب من البيت حريقاً محرقاً مدمراً ، يسئ إلى والده ، ويسئ إلى أمه ، يسفه أباه ويحتقر أمه ، ويضرب أخوته ، ويسئ إلى إخوانه ، فيظن أهل البيت أن الالتزام غصب مستمر . لا يا أخى أنت أسأت إلى الإسلام من حيث لا تدرى ، وأسأت إلى منهج النبى   فى الدعوة من حيث لا تشعر ، ففرقوا أيها الشباب وأيها المسلمون بين مقام الجهاد الذى يحتاج إلى الغلظة والقسوة والشدة ، وبين مقام الدعوة الذى يحتاج إلى اللين والحكمة والرحمة قال تعالى :    ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125].
 أيها الأحبة الكرام ...
   أنه مشهد بالغ الروعة اعترف بداية أننى أعجز عن أن أصور لحضراتكم روعته وعظمته وجلاله ، فرسول الله   هو الرحمة المهداة والنعمة المسداه ، لا للموحدين فحسب بل للعالمين قال تعالى : َمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الانبياء:107].
     قال ابن عباس رضى الله عنهما : رسول الله رحمة للبار والفاجر فمن آمن به تمت له النعمة ، وتمت له الرحمة فى الدنيا والآخرة ، ومن كفر أمن من عذاب الدنيا حتى يلقى الله فى الآخرة مصداقاً لقول الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ
      بـل وخـاطب الله نبيين كريمين خاطب موسى وهارون :
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طـه:43-44].
 أيها الأحبة الكرام ...
   أنه مشهد بالغ الروعة اعترف بداية أننى أعجز عن أن أصور لحضراتكم روعته وعظمته وجلاله ، فرسول الله   هو الرحمة المهداة والنعمة المسداه ، لا للموحدين فحسب بل للعالمين قال تعالى : َمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الانبياء:107].
     قال ابن عباس رضى الله عنهما : رسول الله رحمة للبار والفاجر فمن آمن به تمت له النعمة ، وتمت له الرحمة فى الدنيا والآخرة ، ومن كفر أمن من عذاب الدنيا حتى يلقى الله فى الآخرة مصداقاً لقول الله تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طـه:43-44].
    قرأ سيدنا قتادة - رحمة الله - الآية فبكي ، وقال سبحانك ما أحلمك ، أن كنت تأمر موسى و هارون أن يقولا لفرعون قولاً ليناً ، فإن كان هذا هو حلمك بفرعون الذى قال : أنا ربكم الأعلى ، فكيف يكون حلمك بعبد قال سبحان ربي الأعلي؟!.
   أحبتي في الله : إن ثمامة تأصلَّ البغض في قلبه ، و أنتم تعملون أن البغض الآن متأصل في قلوب كثيرة في الشرق و الغرب.
   أقول: تأصل البُغض في قلب ثمامة. لا لشخص النبي بل لدين النبي بل لبلد النبي فما الذي حدث؟!
   تحول هذا البغض إلى حب بالرفق والإحسان والحكمة والرحمة واللين.
   هذه هي متطابقات مقام الدعوة إلى الله ، البغض الآن متأصل في قلبي الشرق والغرب علي الإسلام ، فصورة الإسلام مشوهة ، مُحرَّقة ، مبدلة !! كيف نحول هذه الصورة إلى حقيقتها ؟!! والإجابة : إذا عدنا نحن ابتداء إلى هذا الإسلام ، فحولنا الإسلام بعظمته بيننا ابتداءً وعلى أرض الواقع ، وفي دنيا الناس إلى واقع عملي ، وإلى منهج حياة ، يتألق سمواً وروعة وجلالاً ، فإن القول إذا خالف الواقع و العمل ، بذر بذور النفاق في القلوب كما قال علام الغيوب :  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ  [الصف:2-3].
 ولاحظ أن ثمامة لما شرح الله صدره للدين وضع كل قدراته وإمكانياته وطاقته لنصر الدين فاستشعر المسئولية العظيمة التى أُلقيت على عاتقه منذ أول لحظه دخل فيها إلى دين الله جل وعلا - فخلع رداء الكفر على عتبة التوحيدوالإيمان، وأعلن الفاصلة الحاسمة بين الإيمان و الشرك فأعلن الولاء لله ورسوله والمؤمنين وعلى الفور عادى الشرك والمشركين.
    هذه  كلها  دروس مترابطة لا ينفك درس منها عن الآخر ، بمجرد أن يشرح صدر المرء للإسلام لابد من
أن يخلع رداء الكفر على عتبة الإيمان ، وأن يعلن الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين وأن يعلن البراءة من الشرك
والمشركين ، وأن يسخر كل طاقته وقدراته وإمكانياته لنصرة هذا الدين الذي منَّ الله به عليه.
    لاحظ قولة ثمامة وهو يقول للمشركين : والله لا تصل إليكم حبة حنطة حتى يأذن رسول الله ، وعاد ثمامة ليضرب حصارا اقتصاديا على قريش. والسلاح الاقتصادي من أخطر الأسلحة ، وبكل أسف يُستخدم الآن ضد المسلمين . حصاراً اقتصادياً على العراق .. حصاراً اقتصادياً على السودان .. حصاراًاقتصادياًعلىليبيا..حصاراًيستخدم لإذلالالمسلمين.. و ليت الأمة تعي يوم أن استخدمت هذا السلاح مرة واحدة في حرب العاشر من رمضان لا أقول حاصروا الغرب حصاراً اقتصادياً كاملاً بل بسلاح واحد من أسلحة الحصار ، ألا وهو سلاح البترول - تغيرت الموازين وانقلبت.
والأمة المسلمة تمتلك من القدرات و الإمكانيات و المقومات ما تستطيع بها - لو اتحدت كلمتها على قلب رجل واحد - أن تغير موازين العالم بأسره ، فأموال الأمة الإسلامية في البنوك الشرق والغرب تحرك دفة السياسة العالمية بأسرها .
   انطلق ثمامة بمفرده ليضرب حصاراً اقتصادياً علي قريش حتى أكلت قريش
 العلهز(1) واستجار القرشيون من أهل مكة بنهر الرحمة وينبوع الحنان محمد بن عبد الله قالوا : أنك تأمر بصلة الرحم وإن ثمامة قد منع عنا الميرة من اليمامة ، فإن شئت فاكتب اليه ليخلي بيننا وبين الميرة ، فما كان من نهر الرحمة وينبوع الحنان الذي يأمر بصلة الأرحام ، مع أنهم أعداؤه ، مع أنهم الذين أساءوا إليهليل نهار - ما كان منه إلا أن يكتب إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين ما يصل إليه من ميرة ففعل ثمامة ليعلم القرشيون قدر ومكانة رسول الله   .
    وهذا ما فعله عبد الله بن عبد الله بن أبي - رضوان الله عليه - لما قال رأس النفاق أبوه لئن رجعنا إلىالمدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فلما سمع ولده عبد اللهبذلك ذهب إلى النبي  فقال له المصطفي : (( أَوَ مَا سَمِعْتَ مَا قَالَهُ أَبُوكَ يَا عَبْدَ اللهِ)) قال : وماذا قال أبي بأبى أنت وأمي يا رسول الله ؟. قال : ((قَالَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الَمدِينَة لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ)) فقال عبد الله بن عبد الله بن أُبي : صدق والله أبي فأنت الأعز وهو الأذل ، ثم قال : يا رسول الله و الله لتري ما تقر به عينك ، فانطلق عبد الله ووقف لأبيه بالسيف على باب داره فقال عبد الله لأبيه : والله لا يأويك ظلها (يعني المدينة) ولا تبيتن الليلة في بيتك إلا بأذن من الله ورسوله لتعلم من الأعز ومن الأذل ، إنه الولاء لله والرسول والمؤمنين .. إنه البراء ، إنها المفاصلة الحاسمة .
      دروس غالية يجب أن نقف أمامها طويلاً ، فإن سيرة النبي حافلة بالدروس والعبر لكننا بكل أسف أصبحنا نتعامل - إلا من رحم الله - مع سيرة النبي  لمجرد الثقافة الذهنية الباردة ، أو لمجرد الاستمتاع السالب ، أو لمجرد الدراسة النظرية .. وكأن سيرة النبي  
     والله ما أرسل الله نبيه وما جعل الله حياة النبي ، وسيرة النبي ، وسنة النبي   ماضياً فحسب ، بل يجب أن تكون سيرته شعلة توقد شموس الحياة ودماء تتدفق في عروق مستقبلنا وأجيالنا .
    هذهالسيرةليستللدراسةالنظرية،بللنحولهافيحياتناإليواقعحياة.. وإلى منهج علمي .. يتألق سمواً ، وروعة .
        فلنتعلم هذا الرفق .. وهذه الرحمة .. وهذه الأخلاق .. وصدق ربي إذ يقول : وَلاتَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ   وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35-34] .
    وصدق المصطفي إذ يقول كما في صحيح مسلم ((إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ)) (1)وفي صحيح مسلم من حديث عائشة ((‏إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا ‏ ‏شَانَهُ))(2).
     تدبروا هذا الدرس الذي رواه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي يقول : بينما أنا أصلي مع رسول الله   إذ عطس رجلٌ من القوم (أى في الصلاة) فقلت يرحمك الله . (أى وهو في الصلاة) يقول : فرماني القوم بأبصارهم فقلت وَاثُكْلَ أُميَاه ! ما شأنكم تنظرون إلىّ ، فجعلوا يضربون بأيدهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يُصَمِّتُونَني لَكِّني سَكَتُ، فلما صلى رسول الله فبأبي هو أمي ! ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن منه تعليماً ، فوالله ما كَهَرِنَي ولا ضَرَبِنَي ولا شَتَمِنَي وإنما قال ((‏إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)) (1).
   هل هذه الدروس لمجرد الاستماع السالب ؟! أم لتحول الأمة هذه الأخلاق وهذه الدروس في بيوتها ، وأماكن عملها ، وحياتها وواقعها إلى واقع عملي ، وإلى منهج حياة؟! ورسول الله هو أسوتنا وقدوتنا. قال تعالى : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21]. 
  وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة وانس رضي الله عنهما : بينما نحن في المسجد مع رسول الله إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب النبي مه مه (يعني ماذا تصنع) فقال المصطفى : ((لَا تُزْرِمُوهُ ‏ ‏دَعُوهُ)) ( تقطعوا عليه بولته ) فتركوه حتى بال ، ثم نادى عليه نهر الرحمة وينبوع الحنان ومعلم الحكمة نادى عليه بأبي هو وأمي وقال له : ((إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ)) (2)وفي راوية ابنماجه بسندصححه شيخنا الألباني - رحمه الله - إن هذا الأعرابي أصبح فقيها بعد هذه الكلمات فقال بأبي هو وأمي قال إلي ، ولم يؤنب ، ولم يسب ، ولم يضرب.
ثم انفعل هذا الأعرابي بأخلاق الحبيب النبي فقام يدعو للنبي في الصلاة كما في رواية البخاري (3)في كتاب الأدب من حديث أبي هريرة أنه قال: اللهم ارحمني ومحمداً ، ولا ترحم معنا ! أحد فلما سلم النبي قال للأعرابي : (( لقد حَجَّرْتَ واسعاً)) لماذا ضيقت ما وسع الله جل و علا -يريد رحمة الله - فالله سبحانه يقول:. وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ .    [لأعراف: 156].
     وتدبرواأيضاًهذاالحديثالذيرواه البخاري و مسلم و أحمد من حديث أنس أن النبي لمافتححنينفقسم في المهاجرين و الطلقاء ولم يعط الأنصار شيئا ، فغضب الأنصار الأطهار الأبرار وقالوا : يغفر الله لرسول الله يُعطي قريشاً ويترُكُنا وسُيُوفُنا تقطر من دمائهم . قال أنس : فحُدَّث رسول الله بمقالتهم،فأرسلإلىالأنصارفجمعهمفي قُبِّةمن أدم ، ولم يَدْعُ معهم غَيْرَهم فلمااجتمعوا قال النبي  فقال ((مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ)) فقال له فُقَهاء الأنصار: أما ذَوُو رَأْينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً ، وأما ناسٌ منا حديثةٌ أسنانهم فقالوا : يغفر الله لرسول الله   يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر منه دمائهم . فقال النبي  ((‏ ‏فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ ‏ ‏أَتَأَلَّفُهُمْ ‏‏أَفَلَاتَرْضَوْنَ أَنْيَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِوَتَرْجِعُونَ إِلَى ‏‏رِحَالِكُمْ
‏‏بِرَسُولِ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ لَمَا ‏‏تَنْقَلِبُونَ ‏ ‏بِهِ خَيْرٌ مِمَّا ‏يَنْقَلِبُونَ ‏بِهِ))(1)وفي رواية ابن اسحق بسند صحيح من حديث أبي سعيد الخدري أن الأنصار قال قائلهم : و الله لقد لقي رسول الله قومه (أي لما لقي رسول الله   قومه من قريش أعطاهم ونسينا) فلما سمع ذلك سعد بن عبادة انطلق إلى النبي   فاخبره بما قال الأنصار فقال النبي المختار : اجمع لي الأنصار يا سعد ، فانطلق سعد فجمع الأنصار فخرج النبي إليهم فحمد الله و أثني عليه ثم قال : )(يَا مَعْشَرَ ‏‏الْأَنْصَارِ ‏‏أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ بِي ؟ ، ‏‏وَعَالَةً ‏‏فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي ؟ ، وَمُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَكُمْ اللَّهُ بِي ؟)) فسكت الأنصار ، فقال المصطفي : ((أَلَا تُجِيبُونِي يَا مَعْشَرَ ‏‏الْأَنْصَارِ)) فقالوا : الله ورسول أَمْنُّ . فقال المصطفي :  : ((لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ ، لَقُلْتُمْ جِئْتَنَا طَريداً فآَوَيْنَاك ، وَعَائِلاً فَوَاسَيْنَاكَ ، وَخَائِفاً فَأَمَنَّاكَ ، وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاك)) فقال الأنصار : المنّ لله ولرسوله ، فالتقت المصطفي إليهم وقال بلغة الإحسان و الرفق والرحمة والحنان ، قال المصطفي : (( وَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَة (أى في أمر تافه من الدنيا ) فألَّفْتَ بها قُلُوبَ قَومٍ أَسْلَمُوا حَدِيثاً ، وَوَكَّلْتُكُمْ إِلَي إِيَمَانِكُمْ بالله ورسُوِلِه ، يَا مَعْشَرَ ‏‏الْأَنْصَارِ أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجَعَ النَّاسُ إِلَى ‏رِحَالِهمْ بِالشَّاهِ والبَعِير وَتَرْجِعُونَ إِلَى ‏رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ)) ثم التفت إليهم مرة أخري وقال : ((‏‏‏يَا مَعْشَرَ ‏‏الْأَنْصَارِ لَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وسَلَك ‏‏الْأَنْصَارِ ‏شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْب ‏‏الْأَنْصَارِ ، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ رَجُلاً مِنْ ‏ ‏الْأَنْصَارِ)) ثم رفع يديه وقال : ((اللهُمَّ ارْحَم الأَنْصَار ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَار ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءَ الأَنْصَار)) فبكي الأنصار حتى اخضلت لحاهم من البكاء أمام هذا الإحسان والرفق ، وحسن التصرف ، و المعاملة.  
وأختم هذه الدروس بدرس جميل آخر رواه الطبراني (1)من حديث عبد الله ابن سلام بسند رجالهثقات أن حبر اليهود زيد بن السعنة قال : و الله ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه النبي حين نظرت إليه إلا اثنين لم أعرفهما فيه الأولى : يسبق حلمه جهله ، والثانية : لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً.
     يقول : فانطلقت يوماً فرأيت النبي وقد أقبل عليه رجل يركب راحته و هو يقول : يا رسول الله إن قومي من قرية كذا أو من بنى فلان فى قرية كذا كانوا قد دخلوا الإسلام فكنت وعدتهم أنهم إن دخلوا الإسلام أن يأتيهم الرزق رغداً ، وقد أصابهم اليوم شدة فاخشى أن يخرجوا من الإسلام طردا كما دخلوا الإسلام طمعاً فأن رأيت أن نرسل إليهم بشى من المال لتغنيهم به فعلت وجزاك الله خيرا فالتفت النبي   إلى علىّ بن أبى طالب وكأنه يريد أن يسأل هل عندنا من المال شي ؟!! يقول زيد بن سعنة : فأقبلت على محمد وقلت يا محمد هل تبيعني تمر حائط بنى فلان إلى أجل معلوم؟ فقال النبي   : ((نَعَمْ لَكن لا تُسمِّى حَائِطَ بنى فُلان)) فقال زيد ابن سنعة : قبلت . يقول زيد فأعطيت النبى ثمانين مثقالاً من ذهب فدفعها كلها إلى الرجل و قال : ((أَغِثْ بِهَذَا الَمالَ قَومَكْ)) يقول زيد : وقبل أن يحلوقت السداد رأيت محمداً في نفر من أصحابه ، بعد أن صلى على جنازة رجل من الأنصار ، يجلس إلى جوار جدار ، فأقبلت عليه ، وأخذت النبى من مجامع ثوبه و قلت له :أدى ما عليك من دَيْنٍ يا محمد فوالله ما علمتكم يا بنى عبد المطلبإلا مُطْلاً !! فالتفت عمر إلى هذا الحبر اليهودي   وهو لا يعرفه وقال : يا عدو الله تقول لرسول الله ما أسمع ، وتفعل برسول الله ما أرى ، والله لولا أنى أحذر غضبه   لضربت رأسك بسيفي هذا !! فالتفت النبي إلى عمر وزيد بن سنعة يراقب وجه النبي ، و يراقب كلمات النبي ، ويريد أن يسمع ماذا سيقول رسول الله   فى هذا الموقف الرهيب العصيب ، فالتفت النبي إلى عمر وقال : ((أَنَا وَهُو يَا عُمَرُ كُنَّا أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنْكَ ، أَنْ تَأْمُرِنَي بحًسْنِ الأَدَاءِ وَتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التَّقَاضِي ، اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ فَاقْضِهِ حَقَّهُ وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ جَزَاءَ مَا رَوَّعْتَهُ)) .  يقول زيد : فأخذني عمر فأعطني حقي وزادني عشرين صاعاً من التمر . فقلت له : ما هذه الزيادة. قال : أمرني رسول الله أن أزيدكها جزاء ما روعتك . فقال زيد بن سعنه : ألا تعرفنى يا عمر . قال : لا قال : أنا عمرو بن سعنة قال عمر : حبر اليهود . قال : نعم . قال عمر : فما الذي حملك على أن تفعل برسول  الله ما فعلت ؟!! قال زيد : ياعمر والله ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أعرفها ، فيه الأولى : يسبق حلمه جهله ، والثانية : لا تزيده شده الجهل عليه إلا حلماً أما وقد عرفهمااليومفإني أشهدك أنيقدرضيتبالله رباً وبالإسلام ديناً و بمحمد نبياً ورسولاً وعاد حبر اليهود مع عمر بن الخطاب إلى المسجد فقال : أشهد أن لا أله الله وأن محمد رسول الله ، وشهد مع رسول الله   بعد ذلك كل المشاهد والغزوات وتوفي في غزوة تبوك مقبلا غير مدبر .
  أيها المسلمون : أيها الأحبة الكرام.
  ألم أقل لحضراتكم أن الإحسان إلى الناس يحول البغض في القلوب إلى حب ؟! ليت الأمة تعي هذا الدرس بحكامها ، وعلمائها ، وشبابها ، ونسائها.
      ليت الأمة تعود إلى سيرة النبي لتحول هذه السيرة العطرة والأخلاق الذكية في حياتها إلى واقع  عملي وإلي منهج الحياة.
     فوالله ! ما تعلقت القلوب برسول الله   إلا لهذه الأخلاق السامية.
     لقد كرم النبيَّ أعداؤه قبل أصحابه وأصدقائه . شهد الأعداء لرسول الله علي الأقل بينهم وبين أنفسهم بالصدق ، والنبل ، والرجولة ، والأخلاق ، والحق ما شهدت به الأعداء . لقد قال عروة بن مسعود الذي ذهب ليفاوض النبي في الحديبية -كما جاء فى البخاري(1) جعل يرمُق أصحاب النبي  بعينهفرجععروةإلى أصحابه فقال : أى قوم ! والله لقد وفدتُ على الملوك ، ووفدت علي قيصر ، وكسري ، والنجاشي ، فوالله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما رأيت أصحاب محمد يعظّمون محمداً ، والله ما تنخم نخامة إلا ووقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ! وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ! وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيماً له !!
     إن الأمة الآن تتعامل مع هذه السيرة كما ذكرنا تعاملاً نظرياً ، تعاملاً ذهنياً .. تستمتع بالسيرة استمتاعاً سالباً !! بل يجب أن تكون سيرته شعلة توقد لنا شموس الحياة ، يجب أن تكون سيرته دماءً تتدفق في عروق أجيالنا مستقبلنا لنحول هذه السيرة في حياتنا إلى عملي ، وإلى منهج حياة ، وهذا هو عنصرنا الثالث من هذا اللقاء .
      وأرجيء الحديث عن هذا العنصر إلى ما بعد جلسة الاستراحة وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
   الخطبة الثانية .
     إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمد رسول الله   .
     أما بعد :
     ثالثا : عودة واجبة إلى الله جل وعلا و إلى سيرة وحياة المصطفي  .
    أيها المسلمون : قديكونمن اليسير جداً أن نقدم منهجاً نظرياً في التربية والأخلاق ولكن هذا المنهج النظري سيظل حبراً علي ورق مالم يتحول في حياة الناس إلى واقع عملي ، ومنهج حياة ، بل قد لا يساوي قيمة المداد الذي كتب به ما لم يتألق في دنيا الناس سمواً وروعةً وجلالاً ، ولقد نجح النبي في أن يجعل من الأعراب ومن العرب المنبوذين في أرض الجزيرة الذين لا ذكر لهم ولا وزن قبل الإسلام ، استطاع النبي أن يجعل من هؤلاء الحفاة العراة جيلاً قرآنياً فريداً لم و لن تعرف البشرية له مثيلاً على الإطلاق وذلك يوم أن نجح المصطفي في أن يطبع آلاف النسخ من المنهج التربوي الإسلامي ولكن لم يطبع هذه النسخ بالحبر على صحائف الورق وإنما طبعها على صحائف القلوب بمداد من النور ، فحول أصحاب النبي هذا المنهج النظري في التربية و الأخلاق إلى واقع عملي يتألق عظمة وروعة في دنيا الناس فرأت البشرية كلها نبلهم وصدقهم ، فرأت منهج الله يمشي على قدمين في دنيا الناس كما قالت عائشة عن رسول الله  ((كَانَ خَلُقُهُ القُرْآنُ))(1)
     كانالنبيقرآنامتحركافيدنيا الناس ، و كذلك : كان أصحاب النبي   يمتثلون أمر الله ورسوله .. ويحتنبون نهي الله ورسوله .. ويقفون عند حدود الله جل وعلا الذي يعلمهم إياهم رسول الله .
     ووالله لن نكون من أتباع النبي حقاً إلا إذا عدنا فسرنا علي هذا الطريق من جديد .. فلنتظر كل نفس تدعي الإيمان بالله ورسوله .. وتدعي الحب لله ولرسوله  أين هو من حقيقة الإيمان وحقيقة المحبة وصدق الاتباع ؟.
فالعودة إلى الله ورسوله ليست نافلة ، ولا تطوعاً ، ولا اختياراً ، بل هي عودةواجبة،بل إننا أمام شرط  الإسلام وحد الإيمان إما إيمان باتباع المصطفي والسيرعلىطريقته،وإماكفربالانحراف عن منهج الله وعن طريق رسول الله قال تعالى : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65]
قال تعالى فى حق المؤمنين الصادقين : إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور:51،52] .
      وقال في حق المنافقين الذين يسمعون ويعرضون .. ويسمعون وينحرفون .. يسمعون ويهزؤون ويسخرون .. قال الله في حقهم :أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً[النساء:60-61].
 إذا المؤمن هو الذي يسمع للنبي ويطيع ((... فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّداً فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَنْ عَصَى مُحَمَّداً   فَقَدْ عَصَى الله ، مُحَمَّدٌ   ا فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ)) (1)
فسيرة النبي ليست من أجل الثقافة ، ولا من أجل النظريات و المجادلات و إنما من أجل أن تحوّلها الأمة في حياتها إلى واقع عملى ، و إلى منهج حياة.
    لابد من هذه العودة في هذه الأيام .. لابد من عودة إلى الله و رسوله  فوالله لن تعود الأمة إلى مكانتها إلا إذا عادت إلى المنهج الذي رفعها من أسفل سافلين إلي أعلى عليين .. إلي منهج رب العالمين .. ومنهج سيد المرسلين   الأمر جَدُ خطير.
    هل تعلم أن مجرد رفع الصوت علي النبي يحبط العمل ؟
    هل تعلم أن أبا بكر و عمر رضي الله عنهما كاد أن يقعا في الهلاك لمجرد أنهما رفعا أصواتهم فوق صوت النبي ؟ أبو بكر وعمر العظيمان في هذه الأمة بعد نبيهما تعرضا للهلاك والحديث في صحيح البخاري (1) عن أبن أبي مليكه قال كاد الخيران أن يهلكا ، أبا بكر و عمر ، رفعا أصواتهما في مجلس النبي فقط لما أقبل وفد بني تميم علي الحبيب  . قال أبو بكر : أَمِّرْ عليهم القعقاع بن معبد يا رسول الله ، فقال عمر : لا بل أمر عليهم الأقرع بن حابس يا رسول الله ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي يا عمر . قال عمر : لا ما أردت خلافك يا أبا بكر . فقط هذه هي الكلمات بنصها.
 هذا هو الحوار ، ما الذي حدث؟ لا شيء إلا أن الصوت قد علا عند النبي المصطفي   فنزل القرآن يحذر ونزل القران يربي:
قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2] .
     أيها المسلمون : إذا كان مجرد رفع الصوت على النبى يحبط العمل فكيف بتنحيه شرع النبى ؟!! واتهام
شريعته بالجمود ، والقصور ، والرجيعة ، والتخلف ؟!! وعدم قدرتها على مسايرة مدنية القرن الحادى
والعشرين .

من يدعى حب النبى ، ولم يفد
فالحب أول شرطه وفروضه
 

 
من هديه فسفاهةٌ وهراءُ
 إن كان صدقاً طاعة ووفاء
 

 

وأختم بهذه القصة اللطيفة التى طالما ذكرت بها لأبين أين نحن من المحبة الصادقة ؟ فلقد جاء تلميذ إلى أستاذه وقال : يا أستاذى علمت أنك ترى رسول الله فى رؤياك . قال : وماذا تريد يا بنى ؟ قال : علمنى كيف أراه فإنى فى شوق لرؤياه ؟! فقال أستاذه : فأنت مدعو لتناول العشاء معى هذه الليلة لأعلمك بعض ذلك كيف ترى حبيبك رسول الله   .
وذهب التلميذ لأستاذه ووضع الأستاذ المربى العشاء بين يدى تلميذه وأكثر فيه الملح ومنع عنه الماء فطلب التلميذ الماء مراراً فأبى عليه أستاذه بل وأصر عليه أن يزيد فى الطعام . فقال له : نم وإن استيقظنا قبل الفجر إن شاء الله تعالى سأعلمك كيف ترى النبى فى رؤياك ، فنام التلميذ يتلوى من شدة العطش ويتألم من الظمأ فلما استيقظا قال له أستاذه : أى بنى قبل أن أعلمك كيف ترى النبى أسألك هل رأيت الليلة شيئاً فى منامك ؟
قال : نعم . قال ماذا ؟ قال : رأيت يا سيدى الأمطار تمطر ، والأنهار تجرى ، وبحار تسير ‍‍!! فقال أستاذه المربى : نعم يا بنى صدقت نيتك فصدقت فى رؤيتك ، ولو صدقت محبتك لرأيت رسول الله  .
     ما أيسر الإدعاء وما أسهل الزعم ، وما أرخص الكلام ، لكن أين نحن من اتباع حقيقى ؟ أين نحن من عودة صادقة لسيرة وحياة النبى   .
    والله ليس لها من دون الله كاشفة ، إلا إذا عادت الأمة مرة أخرى إلى منهج الرب العلى .. وإلى سيرة وحياة النبى   .. لتحول هذه السيرة العطرة ، وهذه الحياة الحافلة فى حياتها – من جديد – إلى واقع عملى .. وإلى منهج حياة .
أسأل الله جل وعلا أن يرد الأمة رداً جميلاً .
 
الدعـاء ...        
 

(1) متفق عليه : رواه البخارى رقم (4372) فى المغازى ، باب وفد بنى حنيفة ، ومسلم رقم (1764) فى الجهاد والسير ، بابا جواز الإغارة على الكفار.
(1) متفق عليه : رواه البخارى (3231) فى بدء الخلق ، باب إذا قال أحدكم آمين ، ومسلم (1795) فى الجهاد والسير ، بابا ما لقى النبى  من أذى المشركين
(1) العهلز : شئ كانوا يأكلونه فى عام المجاعة يخلطون فيه الدم بوبر الإبل ثم يُشوى على النار فيأكلونه إذا اشتد بهم الجوع .
(1) صحيح : رواه مسلم (2593) فى البر والصلة ، باب فضل الرفق .
(2) صحيح : رواه مسلم (2594) فى البر والصلة ، باب فضل الرفق .
(1) صحيح : رواه مسلم (537) فى المساجد ، باب تحريم الكلام فى الصلاة.
(2) رواه البخارى (6025) فى الأدب ، باب الرفق فى الأمر كله ، ومسلم (285) فى الطهارة ، باب وجوب غسل البول .
(3) البخارى (6010) فى الأدب ، باب رحمة الناس والبهائم .
(1) متفق عليه : رواه البخارى (4331) فى المغازى ، باب غزوة الطائف ، ومسلم (1059) فى الزكاة ، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام .
(1) قال الحافظ فى الإصابة : رواه الطبرانى ، والحاكم ، وأبى الشيخ ، وابن سعد وغيرهم ثم قال ورجال إسناده موثقون / وذكره ابن كثير فى البداية وعزاه إلى أبى نعيم فى الدلائل ، وقال الهيثمى فى مجمع الزوائد (8/240) رواه الطبرانى ورجاله ثقات .
(1) صحيح : البخارى (2731 ، 2732) فى الشروط ، باب الشروط فى الجهاد .
(1) رواه مسلم (746) فى صلاة المسافرين ، باب جامع فى صلاة الليل .
(1) صحيح : البخارى رقم (7281) فى الاعتصام ، باب الاقتداء بسنن رسول الله .
(1) صحيح : البخارى (4845) فى التفسير ، باب (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى)