قواعد الحساب

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : محمد حسان | المصدر : www.mohamedhassan.org


قواعد الحساب

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله.. أدَّى الأمانةَ، وبَلَّغَ الرسالةَ، ونَصَحَ الأمةَ، وكشف الله به الغمة ، جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبيا عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته وصلى اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين...
أما بعـد:-
فحيَّا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وذكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور.
طبتم جميعا وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلا.
حياكم الله جميعاً وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجمعنى وإياكم في الدنيا دائما وأبداً على طاعته وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار كرامته.  
إنه ولى ذلك ومولاه وهو على كل شىء قدير..
أما بعـد:-
 فإن أصدق الحديث كتاب الله ،وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أحبتي في الله 
 
 
 هذا هو لقاءنا الثالث عشر من لقاءات هذه السلسة الكريمة المباركة وكنا قد توقفنا في اللقاء الماضي مع هذا المشهد المهيب الكريم حين يأتي الملك الحق جلا جلاله إلى أرض المحشر إتياناً يليق بكماله وجلاله مصداقاً لقوله سبحانه هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ  [البقرة:210].
 وهنا يبدأ الحساب للعباد، وهذا هو لقاءنا اليوم مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك وحتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً فسوف ينتظم حديثنا في العناصر التالية:
 
أولاً: لا ظلم اليوم.
 
ثانياً: العرض على اللـه وأخذ الكتب.
 
ثالثاً: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
 
فأعيروني القلوب والأسماع. واللـه أسال أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض إنه حليم كريم رحيم.
أولاً: لا ظلم اليوم:
 أيها الأحباب الكرام: واللـه لو عذب اللـه أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، فهم عبيده في ملكه، فالمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء، ولكنه برحمته سبحانه وتعالى وكرمه وحنانه ولطفه بعبيده قد حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرماً.
 قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ    [ النساء: 40 ]. 
 وقال جل وعلا: وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ   [ فصلت: 46 ].
 وقال تعالى  وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ    [ غافر: 31 ].
 وقال أيضاً في الحديث القدسي الذي رواه مسلم من حديث أبي ذر عن الحبيب النبي  عن رب العزة قال تعالى: ((يا عبادي إني حَرَّمْتُ الظلمَ على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا))([1]). 
 فاللـه جل وعلا عدل، لطيف، حليم، كريم لا يظلم أحداً من خلقه، ولا يظلم أحداً من عباده، ولذا فإن اللـه جل وعلا يحاسب العباد يوم القيامة وفقاً للقواعد التالية:
 القاعدة الأولى: العدل التام الذي لا يشوبــه أى ظلـم.
 قــال تعـالى:  وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ  [الأنبياء:47].
 إعلم أنك لن تعرض على محكمة كمحاكم الدنيا ففي محاكم الدنيا قد يجيد الخصومُ التزويرَ والتحريفَ ولكن اعلم بأن الذي سيتولى محاكمتك يوم القيامة هو اللـه الذي قال: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ  [غافر:19-20].
 وقال جل وعلا:  وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا   [الكهف:47-49].
 قال تعالى:فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ  [الزلزلة:7-8].
 فالمقصود أن عمل ابن آدم كله محفوظ و مسطور في كتاب عند اللـه جل وعلا لايضل ربي ولا ينسى واعلم علم اليقين أن ما نسيه الإنسان لا ينساه الرحمن.
 
 واذكر ذنوبك و ابكهـــا يا مذنب
 
 لـم ينسه الملكان حين نسيتــه
  بـــل أثبتـــاه وأنت لاهٍ تلعبُ
 
 والروح منك وديعــة أودعتهـا
 سَتَـــرُدَّهَا بالرغم منك وتُسْلَـبُ
 
 
دارُُ حقيقـتها متاعُُ يذهـــــبُ
 
الليلُ فاعلم والنهـارُ كلاهمـــا  
أنفاسنَا فيهمـــا تُعَدُّ وَتُحْسَــبُ
 
 قال تعالى:  إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
   القاعدة الثانية: أن لا تَزِرُ وزارة وِزْرَ أخرى
 قال تعالى:  وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا          [الإسراء:13-15].
 
وقال تعالى:  أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وفي أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ للإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى  [النجم:36-41].
 فلا تتحمل نفس ذنب نفس أخرى، بل سيمر الولد يوم القيامة على والده فيقول له والده: أي بنى أنا أبوك! اعطني حسنةً من حسناتك فلقد كنت لك نِعْمَ الأب فيقول الابن لأبيه: نفسي! ويقول الابن لأمه: نفسي.
 وكيف لا؟!! وقد قال كل نبي من الأنبياء نفسي، نفسي، نفسي. إلا الحبيب المحبوب محمد .
 
 القاعدة الثالثة: إعذار اللـه لخلقه:
 إن اللـه سبحانه يعلم عمل العباد من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه القيامة، ومع ذلك من عظيم عدله وفضله وكرمه، أن يعرض على العباد أعمالهم يوم القيامة حتى لا يكون لأحد عذر بين يديه.
 قال تعالى:  يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ  [آل عمران:30].
 وقال سبحانه:  عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ  [التكوير:14].
 وقال سبحانه:  عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ  [ الانفطار: 5 ].
 
 القاعدة الرابعة: إقامة الشهود على العباد يوم القيامة:
 وإن أعظم شهيد على العباد يوم القيامة هو الملك الذي يعلم السر وأخفى وعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون.
  قال تعالى:  إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [ النساء :33 ]
 ثم تأتى الرسل وتشهد على جميع الأمم ثم تأتى أمة الحبيب لتشهد على جميع الأمم، يشهد كل رسول على أمته وتأتي أمة المحبوب لتشهد على جميع الأمم ثم يأتي خير الأولين والآخرين ليشهد على الجميع.
 اللـه أكبر!! اللـه أكبر!!
 قال تعالى:  وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
 وقال الملك لحبيبه المصطفى:  فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41].
 وفى صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري  أن الحبيب النبي  قال: ((يُدْعَى نوحُُ يوم القيامة فيقال له: يا نوح، فيقول نوح: لبيك وسعديك. فيقول اللـه: هل بَلَّغْتَ قومك؟ فيقول نوح: نعم يا رب فيدعى قوم نوح ويقال لهم: هل بَلَّغَكُم نوح؟ :فيقولون: لا ما أتانا من أحد. فيقول اللـه جل وعلا: من يَشْهَد لك يا نوح؟ فيقول نوح: يشهد لى محمد وأمته، يقول المصطفى : فتدعون فتشهدون له ثم أشهد عليكم فكذلك قول اللـه تعالى  وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ([2]).
 
ثم تشهد الملائكة، قال تعالى:  وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ ق: 21 ]. 
 ثم تشهد الأرض بما عمل على ظهرها من طاعات وسيئات ففي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي من حديث أبي هريرة أنه : ((قرأ يوماً قول اللـه: يومئذ تحدث أخبارها   [الزلزلة:4] )). قال المصطفى : ((أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: اللـه ورسوله أعلم، قال: أخبارها أن تشهد الأرض على كل عبد أو أَمَةٍ بما عمل على ظَهْرِهَا فتقول: يا رب لقد عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا فهذا أخبارها))([3]).
 فيجادل العبد اللئيم ربه الكريم ويقول يا رب أنا أرفض هذه الشهادة وأرفض هؤلاء الشهود ولا أقبل شاهداً إلا من نفسي.
 كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث أنس  قال :كنا عند رسول اللـه  فضحك، فقال: ((هل تدرون مِمَّ أضحك؟)) قلنا: اللـه ورسوله أعلم، قال: ((من مخاطبة العبد ربه، فيقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ يقول :بلى، فيقول: فإني لا أجيز اليوم على نفسي شاهداً إلا منى. فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، والكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيختم على فيه، ويقول لأركانه: انطقي بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعْداً لَكُنَّ وَسُحقاً، فعنكن كنت أُناضِل))([4]). 
 قال تعالى:  الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ    [يس:65].
 وقال جل وعلا:  وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ  [فصلت:19-24].
 
  القاعدة الخامسة: مضاعفة الحسنات لأهل الإيمان:
 
مضاعفة الحسنات لأهل التوحيد والإيمان  ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
 
فاللـه سبحانه وتعالى يضاعف الحسنة إلى عشر أمثالها.
 قال تعالى:  مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ  [ الأنعام: 160 ]. 
 ويقول المصطفى  كما في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه وحسن الحديث شيخنا الألباني من حديث أبي ذر الغفاري  أن النبي  قال: ((قال اللـه تعالى في الحديث القدسي: الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد والسيئة واحدة أو أغفرها))([5]).
 
وفى الحديث الذي رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث ابن مسعود  أن النبي : ((من قرأ حرفاً من كتاب اللـه فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن (ألف) حرف (ولام) حرف (وميم) حرف))([6]).
 
تدبر معي أيها الحبيب الكريم بل قد يضاعف اللـه الحسنة إلى أكثر من سبعمائة ضعف فذلك قول اللـه تعالى:  مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ  [البقرة:261].
 
وهناك من الأعمال ما لا يعلم ثوابها إلا اللـه.
 
قال تعالى في الحديث القدسي المخرج في الصحيحيـن: قال : ((قال اللـه تعالى: كل عمل ابن آدم لـه إلا الصوم فإنـه لي وأنا أجزى به))([7]).
 
ولك أن تتصور الجزاء من الواسع الكريم جل جلاله على الصبر.
 
قال اللـه فيه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ  [ الزمر :10]
  
القاعدة السادسة والأخيرة: تبديل السيئات حسنات:
 
إن اللـه تبارك وتعالى بمنه وكرمه على عباده المؤمنين يبدل سيئاتهم حسنات قال تعالى:  وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلا مَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًاً               [ الفرقان: 68 - 70 ].
 
وفى الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث أبي ذرأنه قال: حدثنا الصادق المصدوق  فقال: ((إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة وآخر أهل النار خروجاً منها، رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغارها، فيقال له: عملت يوم كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا فيقول: نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه ))
 
وفى هذه الحالة الرهيبة من الرعب والفزع يقال له: ((إن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول العبد: ربي قد عملت أشياء لا أراها هاهنا))، قال أبو ذر فلقد رأيت النبي ضحك حتى بدت نواجذه ))([8]).
 
هذا فضل اللـه جل وعلا على عباده المؤمنين.
 
أحبتي في اللـه: هذه هي القواعد التي يحاسب اللـه بها العبد يوم القيامة
 
ثانياً: العرض على اللـه وأَخْذِ الكُتُب:
 
فقد سجل اللـه في قرآنه العظيم:  وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ  [ق:21-29].
 
وفى الصحيحين من حديث عائشة أنه  قال: ((من نوقش الحســاب يوم القيامة عُذِّبْ)) قالت عائشة: يا رسول اللـه أو ليس اللـه يقول: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:7-8]
 
فقال المصطفى : ((إنما ذلك العرض وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك))([9]).
 
فمن نوقش الحساب عذب.
 سينادى عليك كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أنه قال: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينة وبينة تُرجُمَان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قَدَّمَ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة))([10]).
 
تنادى الملائكة أين فلان بن فلان؟!!
 من؟!! هذا هو اسمي.
 فإذا تَيَقّنْتَ أنك أنت المطلوب،قرع النداء قلبك فاصفر لونك وتغير وجهك وطار قلبك، وقد وُكّلَت الملائكة بأخذك أمام الخلق أجمعين، على رؤوس الأشهاد، ويرفع الخلائق جميعا أبصارهم إليك وأنت في طريقك للوقوف بين يدي الملك تتخطى الصفوف يا عبد اللـه.
 
وأسألك باللـه أن تتصور هذا المشهد الذي يكاد يخلع القلوب.
 تتخطى صفوف الملائكة، صفوف الجن وصفوف الإنس، في أرض المحشر لترى نفسك واقفا بين يدي الحق جل جلاله ليكلمك اللـه لتعطى صحيفتك!!
 هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبأة أسررتها، فكم من معصية قد كنت نسيتها؟! ذكرك اللـه إياها، وكم من معصية قد كنت أخفيتها؟! أظهرها اللـه لك وأبداها!!!
 فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك، فإن كان العبد من أهل السعادة ممن رضي اللـه عنهم في الدنيا والآخرة ـ اللـهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين ـ أعطاه اللـه كتابه بيمينه وأظهر له في ظاهر الكتاب الحسنات، وفي باطنه السيئات فيأمر العبد أن يبدأ فيقرأ السيئات فيصفر لونه ويتغير وجه وترتعد فرائصه.
 فإذا ما أنهى قراءة السيئات وجد في آخر الكتاب، هذه سيئاتك قد غفرتها لك، فيتهلل وجهه ويسعد سعادة لا يشقى بل لن يشقى بعدها أبداً ويواصل القراءة حتى إذا ما وصل إلى آخر الكتاب قرأ الحسنات فازداد وجهه إشراقاً وازداد فرحاً وسروراً وقال له الملك جل جلاله: انطلق إلى أصحابك وإخوانك ـ أي من أهل التوحيد والإيمان - فبشرهم أن لهم مثل ما رأيت فينطلق وكتابه بيمينه والنور يشرق من وجهه ومن أعضاءه يقول لأصحابه وخلاَّنه: ألا تعرفونني؟! فيقولون: من أنت لقد غمرتك كرامة اللـه؟!! فيقول: أنا فلان بن فلان انظروا هذا كتابي بيميني اقرأوا كتابيه اقرأوا هذا الكتاب معي، شاركوني الفرحة والسعادة، انظروا هذا توحيدي وهذه صلاتي، وهذه زكاتي، وهذه صدقتي، وهذا حجي، وهذا قيامي الليل، وهذا إحساني، وهذا برى بوالدي، وهذا إحساني للأهل والجيران، وهذا أمري بالمعروف، وهذا نهيي عن المنكر، وهذا بعدي عن الغيبة والنميمة، وهذا بعدي عن ظلم العباد:  فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:19ـ24].
 
أما إذا كان من أهل الشقاوة - أعاذنا اللـه وإياكم من ذلك - ممن غضب اللـه عليهم في الدنيا والآخرة، ينادى عليه أين فلان بن فلان؟!! وسبحان اللـه! من لا تختلف عليه الأصوات ولا تشتبه عليه اللغات ولا تشتبه عليه الأسماء والصفات.
 أين فلان بن فلان؟! مَنْ..هذا هو اسمي ماذا تريدون يا ملائكة اللـه؟!
 هلم إلى العرض على اللـه جل وعلا فيتخطى الصفوف ليرى نفسه بين يدي اللـه فيعطى كتابه بشماله أو من وراء ظهره.
 فيقرأ فيسود وجهه ثم يكسى من سرابيل القطران ويقال له: انطلق إلى من هم على شاكلتك فبشرهم أن لهم مثل ما رأيت، فينطلق في أرض المحشر وقد اسود وجهه وعلاه الخزي، والذل والعار، وكتابه بشماله أو من وراء ظهره فينطلق فيقول لخلانه ومن هم على شاكلته: ألا تعرفونني؟! فيقولون لا إلا أننا نرى ما بك من الخزي والذل فمن أنت؟!!
فيقول: أنا فلان بن فلان وهذا كتابي بشمالي ولكل واحد منكم مثل هذا، فلقد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً.
 يصرخ بأعلى صوته ويقول:  وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ لْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ  [الحاقة:25-37].
 
ولله در القائل:
 
مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانَـــا
 
 
على العصاةِ ورب العرش غَضبانَا
 
  اقرأ كتابك ياعبدُ على مَهَــــل
فهل ترى فيه حَرفاً غيرَ مَا كــاناَ
 
 
إقرارَ من عرَفَ الأشيــاءَ عرفانَا
 
 
وامضوا بعبدٍ عَصَى للنـار عطشانَا
 
 
 والمؤمنـون بـدارِ الخلــدِ سُكَّانَا
 
 وأخيراً: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
 وأرجئ الحديث إلى ما بعد جلسة الاستراحة.
 وأقول قولي هذا وأستغفر اللـه العظيم لي ولكم..
 
  الخطبة الثانية
 الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا اللـه وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه. اللـهم صلَّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه وكل من اقتفى أثره إلى يوم الدين... 
  أما بعد:
 ثالثاً: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا:
 
أيها الأحبة الكرام: هذه صورة مصغرة على قدر جهلي أقدمها لحضراتكم عن الحساب، ولك أن تعيش بقلبك وكيانك كله هذا المشهد الذي يكاد يخلع القلوب، فإنه لا يتأثر بموعظة ولا يستجيب لآية أو حديث إلا من كان له قلب.
 قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ  [ق:37].
 أيها الأخ الكريم حاسب نفسك قبل أن تحاسب بين يدي مولاك يوم لا ينفع الندم ولا التحسر.
 روى الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح أن عمر بن الخطاب رضي اللـه عنه قال: "أيها الناس حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر يوم لا تخفى منكم خافية فإنما يخف الحساب يوم القيامة عمن حاسب نفسه في الدنيا" فحاسب نفسك واعلم بأن النفس أمارة بالسوء ولقد فصلت ذلك في خطبة كاملة.
 لقد وصف اللـه النفس في القرآن بثلاث صفات ألا وهى: المطمئنة واللَّوامة والأمَّارة بالسوء.
 المطمئنة: هي التي اطمأنت إلى الرضا باللـه ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً
 هي التي اطمأنت إلى وعد اللـه ووعيده.
 هي التي اطمأنت إلى ذكر اللـه وعبوديته.
 هي التي تشتاق دوماً للقاء اللـه سبحانه.
 
اللوامة: هي التي تلوم صاحبها على الخير والشر.
 تلوم صاحبها على الخير فتقول: لماذا لم تكثر منه؟!!
 وتلوم صاحبها على الشر فتقول: لماذا وقعت فيه؟!! لماذا تسوف التوبة؟!! لماذا تتأخر عن الصلاة في بيوت اللـه؟!! إلى متى وأنت على هذا الضلال والبدع؟!!
 تلوم صاحبها على الخير والشر معاً.
 
 أما النفس الأمارة بالسوء: فهي التي تريد أن تخرجك من طريق الهداية إلى الغواية، من طريق النعيم إلى طريق الجحيم، من طريق السُّنة إلى طريق البدعة. من طريق الحلال إلى طريق الحرام.
 حيث قال تعالى: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ  [ يوسف: 53 ].
 فهذه النفس إن لم تشغلها بطاعة اللـه شغلتك بالمعصية، وإن لم تلجمها بلجام التقوى شغلتك بالباطل، فالنفس كالطفل إن فطمت الطفل عن ثدي أمه انفطم، كذلك النفس إن فطمتها عن معصية اللـه وألجمتها بلجام الطاعة والتقوى انقادت.
 فإن زلت نفسك لبشريتك ولضعفك فلست ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً فسرعان ما يدفعك إيمانك وعلمك بنفسك الأمارة إلى التوبة والأوبة والعودة إلى اللـه جل جلاله، وأنت على كل حال من الأحوال على طريق طاعة الكبير المتعال، وسيد الرجال محمد .
 فحاسب نفسك الآن أيها الحبيب قبل أي عمل وبعد أي عمل صغر أم كبر
 قبل العمل: اسأل النفس: لماذا أذهب؟ لماذا سأتكلم؟ لماذا أصمت؟ لماذا أحب؟ لماذا أبغض؟ لماذا أدخل؟ لماذا أخرج؟
 وبعد العمل: هل كان العمل خالصاً لوجه اللـه؟! هل كان العمل موافقاً لهدي المصطفى ؟ العمل لابد أن يتحقق فيه شرطان. الشرط الأول: الإخلاص والشرط الثاني: أن يكون العمل على هدي النبي محمد .
 قال شيخ الإسلام ابن تيمية طيَّب اللـه ثراه: إن دين اللـه الذي هو الإسلام مبنى على أصلين. الأول: أن تعبد اللـه وحده لا شريك له، والأصل الثاني: أن يعبد بما شرعه على لسان رسوله وهذان الأصلان الكبيران هما حقيقة قولنا نشهد أن لا إله إلا اللـه ونشهد أن محمداً رسول اللـه .
 أيها المسلم إن كنت تريد حساباً يسيراً فحاسب نفسك محاسبة الشريك الشحيح فقد قال ميمون بن مهران: "لا يبلغ العبد درجة التقوى إلا إذا حاسب نفسه محاسبة الشريك الشحيح".
 إياك إياك أن تغتر بطاعة، إياك إياك أن تغتر بعلم، كن دائماً على وَجَل فإن العبرة بالخواتيم.
 فاسمع إلى من أضاءوا الدنيا بعلمهم وزهدهم وورعهم. هذه الصديقة بنت الصديق عائشة الطاهرة المبرأة من السماء، يسألها أحد المسلمين عن قول اللـه تعالى:  ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ   [فاطر:32].
ما معناها يا أماه؟ قالت الصديقة: يا بني أما السابق بالخيرات فقوم سبقوا مع رسول اللـه وشهد لهم بالجنة، وأما المقتصد فقوم صاروا على دربه وماتوا على ذلك، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك.
 يا سبحان اللـه. عائشة تقول ذلك!! ونحن نقول ومن منا لا يدخل الجنة وإن لم ندخلها نحن فمن يدخلها!!
 عائشة لا تغتر بنسبها ولا بزواجها من النبي وهى التي بشرها النبي بالجنة، فهي تعرف حق المعرفة للنفس قدرها وخطرها.
 و هاهو فاروق الأمة الذي حاكى أخلاق النبوة في إمارته. عمر الفاروق ينام على فراش الموت بعدما طعن فيدخل عليه ابن عباس فيثنى عليه الخير كله. فيقول عمر: واللـه إن المغرور من غررتموه وددت أن أخرج اليوم من الدنيا كفافاً لا ليّ ولا عليّ، واللـه لو أن لي ملأ الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب اللـه قبل أن أراه.
 وهذا هو معاذ بن جبل حبيب المصطفى الذي قال له رسول اللـه واللـه إني أحبك يا معاذ!! لقد نام على فراش الموت بعد ما أصيب بطاعون الشام فقال لأصحابه: انظروا هل أصبح الصباح؟ هل أصبح الصباح؟ ثم بكى معاذ وقال: أعوذ باللـه من ليلة صباحها إلى النار.
وهذا هو سفيان الثوري إمام الورع والحديث ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة فيقول له: أبشر يا أبا عبد اللـه، إنك مُقْبِلُُ على من كنت ترجوه، وهو أرحم الراحمين.
فبكى سفيان وقال: أسألك باللـه يا حماد أتظن أن مثلي ينجو من النار؟!
 فيا أيها المسلم لا تغتر بعلم ولا تغتر بعمل وكن دائماً على وجلٍ. كما كان رسول اللـه وهو النبي الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فحاسب نفسك قبل أي عمل وبعد أي عمل، وحاسب نفسك على كل معصية، وحاسب نفسك على كل تقصير، وحاسب نفسك على كل تفريط.
 قال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم: يا أبا حازم مالنا نحب الدنيا ونكره الآخرة؟ فقال أبو حازم: لأنكم عَمَّرتُم دنياكم وَخَرَّبتُم أُخراكم وأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب.
فقال سليمان: فما لنا عند اللـه يا أبا حازم؟
 قال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب اللـه لتعلم مالك عند اللـه.
 فقال سليمان: وأين أجد ذلك في كتاب اللـه؟
 قال أبو حازم: عند قوله تعالى:  إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ             [الانفطار:13-14].
 قال سليمان: أين رحمة اللـه؟
 فقال أبو حازم:  إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ  [ الأعراف: 56 ].
 قال فكيف القدوم على اللـه غداً؟ قال أبو حازم: أما العبد المحسن فكالغائب يرجع إلى أهله وأما المسيء فكالعبد الآبق يرجع إلى مولاه.
 أسأل اللـه العظيم رب العرش الكريم أن يحسن خاتمتنا. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
 
------------------------------------------------------------------------------------
 
 
([1]) رواه مسلم رقم (2577) فى البر والصلة ، باب تحريم الظلم ، والترمذى رقم (2497) فى صفة القيامة .
 
 
([2]) رواه البخارى رقم (4487) فى التفسير، باب قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا، والترمذى رقم
 
(2965) فى التفسير ، باب ومن سورة البقرة .
 
([3]) رواه الترمذى رقم (3350) فى التفسير ، باب ومن سورة إذا زلزلت .
 
([4]) رواه مسلم رقم (2969) فى الزهد .
 
([5]) رواه مسلم رقم (2687) كتاب الذكر والدعاء ، باب فضل الذكر والدعاء وابن ماجة رقم (3821) فى الأدب وهو فى المسند رقم (21212) واللفظ له .
 
([6]) رواه الترمذى رقم (2912) فى ثواب القرآن ، باب ماجاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن ماله من الأجر وصححه شيخنا الألبانى فى المشكاة (2137) وهو فى صحيح الجامع برقم (6469) .
 
([7]) رواه البخارى رقم (1894) فى الصوم ، باب فضل الصوم ، ومسلم رقم (1151) فى الصيام ، باب حفظ اللسان ، وباب فضل الصيام ، والموطأ (1/310) فى الصيام ، وأبو داود رقم (2363) فى الصوم ، والترمذى رقم (764) فى الصوم ، والنسائى (4/162،165) فى الصوم .
 
([8]) رواه مسلم رقم (190) فى الإيمان ، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها ، والترمذى رقم (2599) فى صفة الجنة ، باب رقم (10) .
 
([9]) رواه البخارى رقم ( 103) فى العلم ،باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه ، ومسلم رقم (2876) فى الجنة باب اثبات الحساب، وأبو داود رقم (3093) فى الجنائز، باب عبادة النساء ، والترمذى رقم (2428) فى صفة القيامة ، باب من نوقش الحساب عذب 0
 
 
([10]) رواه البخارى رقم (7512) فى التوحيد ، باب كلام الرب عز وجل ومســلم رقم (1016) فى الزكاة ، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة ، والترمذى رقم (2427) فى صفـة القيــــامة