لا يخلو بيت لبناني واحد في المدينة أو القرية من قارورة ماء الزهر، ولا تخلو قرية أو حي في الوقت الراهن من عطر الزهر ومائه اللذين ينبعثان من شجرة «بوصفير» أو من «الكركات» التي يتم تقطير هذا الشراب بواسطتها، ويتلاقى الأزواج والزوجات للقيام بهذه المهمة الموسمية التراثية التي يتجدد موعدها بفارغ الصبر من سنة إلى أخرى. وقارورة ماء الزهر تحمل عبق الربيع، وتخزنه بعد التقطير في القوارير. وتبقى من أغلى الهدايا اللبنانية الطابع التي يمكن تقديمها، كما أن وجودها في كل بيت ضرورة من ضرورات الطب المنزلي. ووصولا إلى هذا الماء الصحي والمنعش لا بد من المرور بعدة مراحل، أولها قطف زهر الليمون البري («بوصفير» كما يسمّيه اللبنانيون، والنارنج كما يُعرف في الفصحى) إذا توفر في حديقة المنزل أو إحدى حدائق الحي، أو الذهاب إلى بلدة مغدوشة الجنوبية التي تُعتبر عاصمة زهر البوصفير وماء الزهر، والتي يقصدها اللبنانيون من كل الانحاء، وتصدّر ماء زهرها إلى كل المناطق، وحتى خارج الحدود. وبعد قطفه ينقّى الزهر من الورق والعيدان، ويُغسل إذا كان تَعرّض للغبار أو التراب، ويُفرش على غطاء لأن تكدس بعضه فوق بعض يعرّضه للاهتراء والاسوداد. ولا يجوز الاحتفاظ بالزهر أكثر من يوم أو يومين، إذ من المفضل المباشرة فورا بتقطيره بواسطة «كركة» من الألمونيوم، أو النحاس، وحاليا من «الاستانلس ستيل»، ويختلف حجم الكركة باختلاف حجم «النزل» (أي عملية التقطير) وما إذا كان الهدف تجاريا أو منزليا فقط. ولنبقَ مع رباب البيوت في المنزل، اللاتي يلجأن في أغلب الأحيان إلى كركة صغيرة تتسع لخمسة إلى ثمانية كيلوغرامات من الزهر، وقديما كانت ربات البيوت يشعلن الحطب تحت الكركة، أما اليوم فتكدن جميعهن يلجأن إلى وضع الكركة على الغاز، بحيث يوضع الزهر داخل الكركة ويُغمر بالماء ثم يُقفل عليه بالقسم العلوي من الكركة الذي توضع فيع المياه الباردة، ويجري «تطيين» الوصلة بواسطة الرماد أو الطحين المجبول بالماء منعا للتبخر في اتجاه الخارج، ما يفقد عملية التقطير الغاية المرجوة منها. يمكن تقوية النار في بداية النزل، وعندما تبدأ قطرات الماء تخرج من أنبوب متصل بالكركة، فمعنى ذلك أن الزهر بدأ يتحول إلى بخار، فماء. عندها ينبغي تخفيف النار إلى أقصى حد بحيث تنزل القطرات قطرة قطرة. وينبغي الانتباه الدائم إلى تغيير الماء في القسم العلوي كلما فتر، واستبدال الماء البارد الذي يلعب الدور الأساسي في تحويل البخار الداخلي إلى ماء الزهر، به. ويُجمِع الذين يتولون عملية التقطير على أن الكيلوغرام الواحد من زهر البوصفير يقطر قارورة واحدة من ماء الزهر. ثم تعبأ القطرات في قوارير متوسطة ويُحكَم إغلاقها منعا لتسرب الرائحة. ويختلف المهتمون حول مدى صلاحية محتويات هذه القوارير، فمنهم من يعتمدها موسمية، فيما بعض التجار يحدد الصلاحية بسنتين. ويذهب بعض الاختصاصيين إلى تحديدها بعدة سنوات. أما استعمالات ماء الزهر فهي كثيرة، وقد درجت العادة عند اللبنانيين على تناول قليل منه إلى كل الحلويات العربية لمنحها نكهة خاصة، ويلجأ كثيرون إلى اعتماد القهوة البيضاء بدلا من القهوة التقليدية، وتُعَدّ بالماء الساخن وقليل من السكر وماء الزهر، ويلجأ آخرون إلى دس زهرة بوصفير في فنجان القهوة العادية. وإذا كان كثيرون من اللبنانيين يعرفون كيف يقطر الزهر، فإن قلة تعرف القصة الكاملة لهذه الزهرة، التي يرويها لـ«الشرق الأوسط» رئيس «الجمعية التعاونية لزهر الليمون» في بلدة مغدوشة حبيب حداد قائلا: «لقد تحولت مع مرور الوقت إلى عاصمة زهر البوصفير وماء الزهر، ويعود بعض أشجارها إلى نحو 150 سنة. ويطلق عليها اسم شجرة البوصفير، أي شجرة الليمون المر. وصادف أن كانت مغدوشة تضم ثلاثة بساتين من هذا الليمون في أوائل السبعينات وفي منطقة يطلق عليها اسم (الخلة)، وربما كانت تربتها من أنسب أنواع التربة لهذا الشجر، وكان والدي التاجر الوحيد في الجنوب لزهر البوصفير وماء الزهر، وكانت تدفعه هذه التجارة إلى بيروت وحتى إلى الشام». يضيف: «تنتج مغدوشة حاليا ما بين 100 و120 طنا من الزهر، وقد ساعدتنا الوكالة الأميركية للتنمية في بناء أكبر معمل من نوعه لصناعة ماء الزهر المزود بأحدث التقنيات. ويعمل في هذا الموسم نحو 300 عامل وعاملة في قطاف الزهر، وينتجون نحو 3 أطنان من ماء الزهر يوميا، وتقطف الشجرة بين مرتين وأربع مرات في الموسم بحسب الطقس. وتقطف الحبة المستطيلة أولا (أو الشامطة كما يسمّيها المعنيون)، على أن تقطف الحبات الأصغر في القطاف الثاني أو الثالث أو الرابع، ويفضل أن لا يتعدى تفتح الزهرة 15% حتى لا يتعارض نضوجها مع رائحتها الذكية. وعادة ما يبدأ موسم القطاف في الثلث الأول من شهر مارس (آذار) ويستمر لمدة من 20 إلى 30 يوما، ودائما بحسب الطقس». ويعتبر حداد أن الشجرة تحتاج إلى 5 أو 6 سنوات لكي تبدأ بالإزهار، وهي شجرة بعلية (لا تخضع للري)، ولكنها تحتاج إلى عناية كالتشذيب بعد قطاف الموسم، وحراثة الأرض، وتسميدها في أوائل فصل الشتاء، بالإضافة إلى رشها بمبيدات حشرة المَنّ (المن العادي والمن الشحتاري) ودودة الخياط». ويخالف رئيس الجمعية عادة تشميس قوارير ماء الزهر (تعريضها للشمس)، لأن كل ما ينتج عن هذه العادة هو تغيير لون ماء الزهر فقط لا غير، لكن المختبرات لا تنصح بالتشميس، كما يخالف عادة الصلاحية الموسمية للمنتج، «أنا أضمن أنه يبقى عشر سنوات» على حد قوله. أما السعر فيختلف بين الجملة والمفرق. ويسلم بالجملة دون عشرة آلاف ليرة للقارورة الواحدة، وبالمفرق بين 10 و15 ألف ليرة (عشرة دولارات)، ومنهم من «يقنص» 20 ألفا من بعض الزبائن. ويبدو أن القرى المحيطة ببلدة مغدوشة استهوتها صناعة «الذهب الأبيض» فمالت إلى زراعة شجرة البوصفير، حتى باتت بلدات «المعمرية» و«طنبوريت» و«الحجة» تنتج نحو 20 طنا من الزهر سنويا