الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
إن الناظر في حال المسلمين في رمضان لا تخطئ عينه أثر تصفيد مردة الشياطين، ومناداة منادي الرحمن: (يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر)(رواه الترمذي، وصححه الألباني)، على سلوك معظم المسلمين، ففي رمضان يميل أكثر المسلمين إلى الامتناع عن أنواع من المعاصي، ويُقبِل كثير منهم على القرآن، وعلى صلاة القيام.
وهذه المظاهر ممتدة في الأمة الإسلامية عبر عصورها المختلفة، ولكنها بلا شك تتلون بلون كل عصر، فرمضان في العصور الفاضلة كان موسمًا حقيقيًا من مواسم الطاعة، والمسابقة إلى الخير، والعمل بشرع الله، وكان موسم الانتصارات على النفس، ومن ثم كان موسم الانتصار في ميادين الجهاد.
وفي عصور الضعف تحول الأمر إلى صورة باهتة جدًا، من وضع المرأة لغطاء رأس على شعرها، ومن صلاة قيام تنقر كنقر الغراب، كأنما أراد صاحبها أن يتخلص منها، ومن قراءة للقرآن في المذياع، أو في السهرات فقط قراءة ملحنة مبتدعة، لا يكون نصيب السامع منها شيئاً.
ومع ظهور الصحوة الإسلامية المباركة -بفضل الله- وجد جنبًا إلى جنب مع المظاهر السالف ذكرها مظاهر فيها قدر لا بأس به من اتباع هدي السلف -رضي الله عنهم-، ووجدنا المصاحف تعرف طريقها إلى أيدي معظم الناس في وسائل المواصلات يقرؤون القرآن، ولكثير منهم حظ من تدبره وفهمه، ويحرصون على إتقان القراءة على أيدي معلمي القرآن فانتشرت دور التحفيظ، وعمرت بالمتعلمين في رمضان وغيره.
وانتشرت صلاة القيام التي يحرص فيها المصلون على تطويلها، وقراءة أكبر قدر ممكن من القرآن فيها، وأصبح كثير من المساجد تختم القرآن في صلاة القيام أثناء الشهر، وربما زاد كثير منها على أكثر من ختمة في الشهر، وانتشر الاعتكاف في العشر الأواخر إحياء لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وفي بداية الأمر كانت هذه المظاهر تعد حكرًا على الصحوة الإسلامية أو على مساجد "السنيين" على حد تعبير كثير من الناس، وسرعان ما انتشر الخير -بفضل الله-، وأصبحت كثير من هذه السنن مطبقة في مساجد لا توسم بأنها مساجد "سنيين"، وهذا من عاجل البشرى للدعاة إلى الله -عز وجل-.
ولكن الآفة أن كثيرًا من هؤلاء "المتسنينين" يكون حرصهم على العبادة رمضانيًا فحسب، مما يستوجب على الدعاة وضع التدابير اللازمة لمحاولة جعل الالتزام سلوكًا دائمًا لدى هذه القطاعات العريضة من "الملتزمين الرمضانيين".
والآفة الأشد خطرًا أنه -وبطبيعة الحال- سنجد أن تطبيق هؤلاء للسنن الرمضانية لابد وأن يداخله شيء من النقص أو من الابتداع، كالأدعية المطولة التي يرددها كثير من الأئمة، وكاعتبار حسن الصوت في القرآن مؤهلاً كافيًا لصاحبه للإفتاء في دين الله، بل للكلام في السياسة العامة للأمة، وهذه الآفة في حاجة إلى كثير من الحذر والتنبيه.
والآفة الثالثة: تتمثل في وجود صور من الالتزام المهجن بغيره، فقد ينشرح صدر إحدى المحافِظات على صلاة القيام إلى ارتداء النقاب، ولكنها تريده نقابًا غير تقليدي لسبب أو لآخر، فتحدث فيه أنواعًا من التغيير التي ربما ترحب به على ما هو عليه على اعتبار أنه أفضل من التبرج أو السفور.
ولكن المشكلة في تحول هذا النموذج من "نقاب الموضة" إلى موضة حقيقية حتى في أوساط اللاتي مَنَّ الله عليهن باللباس الإسلامي الكامل الذي لا يختلف اثنان على أنه يحقق كل الشروط المطلوبة شرعًا، وربما أخذت بعضهن ببعض الفتاوى التي قيلت لغيرها، أو قيلت من باب أن ما فيه شبهة أولى من الحرام المحض، فتأتي هي لكي تترك ما لا شبهة فيه لما فيه شبهة؛ مما يمثل تراجعًا كبيرًا نربأ بأبناء وبنات الصحوة الإسلامية عنه.
وعلى هذا النموذج فقس، وهذا مما يستوجب علينا وقفة جادة لجعل رمضان فرصة لتنقيح عادات وسلوكيات عموم المسلمين بالالتزام الصحيح، مع الحرص على عدم حدوث التنقيح العكسي، بل الحرص على صورة الالتزام النقي كما هي.