ما هو السر الكامن فى الذهب؟ وما هو العجيب الغريب فى سحره؟ وما هو السر فى اكتنازه من قبل الغنى والفقير، كل علي قدر حاله؟ ولماذا يسعي الرجال والنساء من أجل الحصول عليه والاحتفاظ به؟ فما سر هذه المادة التى استطاعت أن تجعل الإنسان يلهث وراءها باستمرار؟ وهل سقطت امبراطوريات أو توسعت ممالك بسببه؟ إن شراء الذهب وجمعه والتزين به وادخاره واكتنازه واستعماله نقداً، عرفه الإنسان منذ قديم الزمن واستحوذ علي أفكار الناس فى مختلف الأمنكة والأزمنة. لقد اكتشف الإنسان الذهب منذ القدم واستخرج منه حتي الآن ما يزيد علي 100 ألف طن، لم يهدر منها سوي 5%-7% بينما أخذ البترول، مثلاً، ينضب من بعض الدول، وهذا هو الفرق بين الموارد من حيث قابليتها للنضوب. ندرة الذهب وكثرة استعمالاته وكونه شبه عملة عالمية لا تتحكم بها الدول بالشكل الذى تتحكم به فى عملتها الورقية، هى التى جعلت الذهب يأخذ هذه المكانة المرموقة. إن تاريخ استقرار سعر الذهب ضمن النظم المحددة يمتد عبر 300 سنة فى بريطانيا وعلي امتداد 800 سنة خلال عهد الامبراطورية البيزنطية. وهذا فى الواقع، دليل علي صحة نظرية الكمية فى العملات والنقد وشرعيتها. وقد ساد المعيار الذهبى فى معظم أنحاء العالم خلال القرن التاسع عشر، وحتي بداية الحرب العالمية الأولي سنة 1914م، وكان يقضى بإطلاق حرية تحويل العملة إلي ذهب. وقد تميز نظام المعيار الذهبى، كما كان مطبقاً حتي سنة 1914م، بثلاث صفات أساسية متميزة جعلت الذهب يلعب دور العملة المشتركة بين مختلف البلدان. فالوحدة النقدية فيه تتحدد بوزن معين من الذهب، ويستطيع الأفراد الحصول علي هذا المقابل الذهبى بحرية لقاء تقديم عملاتهم الورقية، كما يمكنهم صك الذهب وتصديره واستيراده بدون ممانعة. واستمر ذلك حتي أُلغى الذهب من التداول الداخلى كلياً فى الثلاثينات، وجري التخلى عن مكانه للنقود الورقية وجري تداوله إما علي شكل أوراق البنكنوت أو تحويل مصرفى غير نقدى من حساب إلي آخر. بيد أن المسألة لم تنته بسحب النقود الذهبية من التداول، فلقد انفصلت النقود الورقية عن القاعدة الذهبية وفقدت عملياً صلتها بالذهب. فى أوائل عام 1979م، استقطبت اهتمام الناس الارتفاعات الحادة فى أسعار الذهب، حيث بلغ عسر الأونصة منه بأواخر عام 1978م 250 دولاراً. فى حين أنه سجل ارتفاعاً منذ عام 1971م إلي نهاية 1978م من 35 دولاراً للأونصة إلي 250 دولاراً. أما فى عام 1979م، فقد تضاعف السعر تماماً وبلغ بنهاية العام حوالى 540 دولاراً للأونصة. هذه الارتفاعات جعلت سواد الناس يتجهون إلي شراء الذهب، لأنه يجمع بين الحرية النقدية والنظام الثابت وهما القطبان الأساسيان لأى نظام مالى، تماماً كالاستثمار السائل والاستثمار الثابت اللذان هما القطبان الأساسيان لأى نظام استثمارى. يقول سمير عبده فى كتابه "دراسة عن تأثير الذهب علي الاقتصاد العالمى" إن حركة العرض والطلب فى أسعار الذهب تؤثر فى العالم ضمن الأطر التالية: $ يتحدد سعر الذهب بكلفة انتاجه عادة. $ رصيد الذهب الكلى تفوق قيمته الاقتصادية قيمة المادة الخام المكونة لها. $ يحتفظ بالذهب لأغراض المضاربة. $ بيع الذهب يتم وفق علاقة السعر الحالى بسعر الفائدة ومستوي الأسعار. $ ضعف النظام النقدى القائم، جعل الذهب الملجأ الأكثر أماناً للاستثمارات. ومن الملفت للأنظار أن جامع الذهب المعاصر متعدد الوجوه؛ من الفلاح الفقير الذى يشترى لزوجته أو ابنته حلية ذهبية بعد حصاد جيد، إلي المدير المالى لمؤسسة دولية كبيرة يقوم بتحويل جزء من رأسمال المؤسسة إلي ذهب حين تتوفر الإمكانية لذلك فى ظروف معينة. ولذا، فليس من السهل إيجاد علاقة ثابتة واضحة بين العرض والطلب فيما يتعلق بالذهب، إذ أن المقدار الأكبر مما يطرح فيه فى الأسواق يستعمل صناعياً. لهذا السبب فإن استثمار الذهب كمعدن مربح لا يكون له أي معني إلا إذا كانت الصناعة المتطورة ظهيراً َوعضيداً وسنداً له. إن فوائد الذهب كثيرة لا تحصي ولا تعد. فهو يستعمل كحلية وزينة، ويستعمل كوسيلة ادخارية مستقبلية، وكذا كاحتياطى متين للطوارئ، ويستخدم فى الصناعة والسبائك والمصاغات. ويعد الذهب والاستثمار فيه عنصراً رئيسياً فى كل زمان ومكان. ولذا، تعددت استعمالات الذهب وتنوعت الأشكال والأساليب، فقد استعمل الذهب كمعيار نقدى ثابت ومضمون منذ سنوات بعيدة وفى شكل حلى وزينة علي مدي آلاف السنين. لقد أحب الناس الذهب، لا لأنه يملأ البطون الجائعة أو يدفئ الأبدان الباردة، أو يدفع عجلة الصناعة، وإنما أحبوه لعدة صفات بارزة جعلته عبر التاريخ معدناً يقصده الناس. فهو جذاب اللون، لامع قوى الاحتمال، سهل الطَّرق ولا يصدأ، ولا يتآكل بفعل عوادى البيئة ولا يتغير لونه أو ينقص وزنه. ولا يختلف اثنان فى جمال الذهب. إنه يتميز بلون أصفر بديع ذى تدرجات مختلفة يعتمد علي كمية وطبيعة المواد المخلوطة به من نحاس أو وفضة أو غيرها. فمنذ أقدم الأزمان، والناس يصنعون من الذهب أنواع الحلى والمصوغات المختلفة. وبالنسبة لبعض التحف الذهبية، فإن قيمة المعدن نفسه تكون شيئاً تافهاً بالمقارنة مع قيمته التاريخية والتراثية والفنية. وتشير الإحصاءات الأخيرة إلي أنه يجرى حالياً تحويل أكثر من نصف إنتاج العالم من الذهب إلي أدوات الزينة والمجوهرات، مثل العقود والخواتم والسلاسل الذهبية. وتدل الإحصاءات نفسها أن ثانى استخذام للذهب فى العالم هو المسابك المعروفة التى تتولي تذويب الذهب وصهره، مع مواد أخري فى بعض الأحيان، ثم تحويله إلي قطع نقدية ذهبية. لقد استخدم الذهب كنقود وسلطة مركزية ومادة للجشع والطمع منذ القدم. ويمكن القول بأنه قد اكتسب سمات النقود منذ 4-5 آلاف سنة فى عهود أكثر الحضارات الغابرة تقدماً. فقد مضي أكثر 2600 سنة منذ أن سكت أول نقود ذهبية. يقول كريستوفر كولومبس -مكتشف أمريكا- إن الذهب أروع وأفتن شئ فى الدنيا ومن يملك الذهب يحصل علي كل ما يشتهيه من هذه الدنيا. لهذه الأسباب، عشق الناس الذهب حتي كاد أن يستعبدهم وما لبث أن صار فى القرنين الماضيين المادة الرئيسية فى التعامل النقدى بين الناس، ثم اعتبر قاعدة تستند إليها الأوراق النقدية المتداولة وهى وظيفة اكتسبها ردحاً من الزمن حتي الغيت قاعدة الذهب فى عام 1973م نتيجة لاتفاقية بريتون وودز. وقد تزايد الاهتمام الصناعى بالذهب فى الآونة الأخيرة بعد أن أخذ يمثل أدواراً وأشكالاً عديدة لخصائصه الفريدة. فهو يستخدم حالياً فى طب الأسنان، مروراً بصناعة النسيج، وانتهاءً بتقنية الفضاء والحاسوب. فمع ازدياد الإقبال علي استعمال الذهب كأداة للزينة والثراء الشخصى، دلت الأبحاث والتجارب علي وجود فوائد أخري لهذه المادة الصفراء، سرعان ما تم استغلالها فى مختلف القطاعات الصناعية. فقد استعمل الذهب فى الصناعات الكهربائية، وكذا فى مجال الصناعات الإلكترونية. لذا، سيبقي الذهب محافظاً علي خاصيته المميزة له كاحتياطى مثالى وشكل مطلق لسيولة رأس المال، ومن هذا الوضع الفريد الذى يتمتع به فى النظام النقدى الدولى. فبالرغم من نزع صفة النقود شكلياً عن الذهب فإن معظم الحكومات والبنوك المركزية تقريباً ما زالت تجلس علي صناديقها، ولا تبدو راغبة فى التخلى عن احتياطيها المكدس. بل إنه ونتيجة لمكانة الذهب بين العملات الأخري، فإن عدداً من المسؤولين عن صناديق المعاشات فى العالم باتوا ينظرون إلي الذهب كجهة من الجهات المعتمدة والمريحة لاستثمار ما فى جعبتهم من أموال. لقد انعكست سيطرة الذهب علي الناس والمجتمعات والدول فى عدد كبير من الأقوال والحكم فى جميع الأزمان وفى تراث الشعوب وفى عدد ضخم من الأعمال الأدبية. فلعن الناس الذهب بقدر ما مجدوه، لكن أحداً لم يكن غير مبالٍ تجاهه أبداً حتي المتاحف نراها مليئة بآثار قديمة خالدة مصنوعة من معدن الذهب منحدرة إلينا من الحضارات القديمة. ختاماً أقول"؛ إن امتلاء الخزائن بالذهب ليس وحده دليلاً علي تقدم أمة من الأمم. إذ بدون اقتصاد متين ووجود مواد خام وفيرة وإنتاج عظيم ووفرة فى العقول والأيدى العاملة الماهرة والقدرات العلمية، تصبح أكداس الذهب عبارة عن كتل معدنية لا حياة فيها ولا معني لها. $ عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض. $ الصورة من مصنع ومعارض سليمان العثيم للذهب والمجوهرات - الرياض.