تواجه كثير من الدول اليوم تحديات حقيقية فى إطار استعداداتها للمشاركة فى سباق الانفتاح الاقتصادى العالمى، وما يتطلبه هذا السباق من تطوير وإصلاحات للمؤسسات الاقتصادية والتى علي ضوئها سيتم تحديد مركز كل مشارك. ويري بعض المراقبين أن السباق قد بدأ فعلاً مما يحتم علي الدول التى لم تستكمل استعداداتها بعد، المسارعة فى ذلك ووضع جدول زمنى لإنجاز الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة. ولتحقيق هذه الإصلاحات، هناك شبه إجماع لدي الكثير علي اختيار مسار التخصيص، مستندين فى طرحهم علي سجل حافل من التجارب الناجحة فى كثير من دول العالم.
وبالنسبة للمملكة العربية السعودية، التى تتمتع بأكبر اقتصاد فى المنطقة، فقد أعلنت منذ حوالى أربع سنوات، وتحديداً فى 8-11-1417ه الموافق 18-3-1997م، عن سياستها لتوفير الفرص أمام القطاع الخاص للاستثمار فى المرافق العامة وإدارتها وتشغيلها. وقد أكد هذه السياسة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز فى أكثر من مناسبة، كان آخرها عند افتتاحه الدورة الثالثة لمجلس الشوري. كما أكد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز فى كلمته فى المدينة المنورة يوم الثلاثاء 10-7-1420ه أن التخصيص يعد خياراً استراتيجياً فى السياسة الاقتصادية للمملكة العربية السعودية. وقد نص تنظيم المجلس الاقتصادى الأعلي علي أن أحد الغايات الأساسية للسياسة الاقتصادية للمملكة العربية السعودية هو دعم برنامج الحكومة للتخصيص. ويتولي المجلس مسؤولية الإشراف علي برنامج التخصيص ومتابعة تنفيذه إثر صدور قرار مجلس الوزراء رقم 257 فى 11-11-1421ه.
وتمثل الموانئ السعودية فى مجموعها أكبر منظومة للموانئ فى الشرق الأوسط وتضطلع بدور هام فى خدمة الاقتصاد الوطنى، حيث يمر عبرها سنوياً 95% من صادرات وواردات المملكة العربية السعودية. وهناك سفينة بمعدل كل نصف ساعة تصل إلي ميناء سعودى. ولعل من المناسب الإشارة هنا إلي أن موانئ المملكة العربية السعودية تحظي بأكبر حصة من البضائع فى موانئ دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وقد بلغت هذه الحصة فى عام 1999م حوالى 61%، أما الحصة الباقية فهى موزعة بين بقية دول المجلس.
إن أهمية الموانئ فى العالم تزداد يوماً بعد يوم فى ظل الزيادة المتنامية للتجارة المنقولة بحراً والتى يبلغ معدلها حوالى 4% سنوياً، يعززها الانخفاض المستمر فى أجور الشحن عن طريق البحر والذى أصبح وسيلة النقل الأقل تكلفة فى العالم، بالإضافة إلي سرعة هذه الخدمة وانتظامها. ومن ثم فليس من سبيل الصدفة أن تبادر حوالى خمسين دولة فى العالم، بما فيها المملكة العربية السعودية إلي تخصيص خدمات موانئها. فالموانئ بوابات التجارة والتنمية، وبهذا فهى من أولي المواقع التى تتفاعل علي ساحتها أدوات المنافسة الاقتصادية لأى دولة مع العالم الخارجى. ونجاح الموانئ لا يعتمد فقط علي طاقتها أو تكلفة خدماتها ولكن علي مرونها فى التعامل وسرعة استجابتها للمتغيرات الاقتصادية.
لقد باتت الحواجز التجارية تتهاوي الواحد تلو الآخر، وأضحي باب المنافسة مفتوحاً علي مصراعيه، ولم تعد المنافسة محصورة بين طرف وآخر فقط، بل إنها متعددة الأطراف والاتجاهات. ليس هذا فحسب، فقد تضافرت عوامل أخري كثيرة تحتم البحث عن مفهوم جديد لتشغيل وإدارة الموانئ بما يحقق لها القيام بالدور المطلوب منها بكفاية واقتدار. ففى السنوات الثلاث الماضية، أصبح من المعتاد أن نقرأ أو نسمع فى وسائل الإعلام عن خطط لإنشاء موانئ جديدة فى مواقع متعددة من العالم أو توسعة لبعض الموانئ القائمة، ففى منطقة الشرق الأوسط وحدها، بلغت الاستثمارات المعلن عنها حتي الآن لمثل هذه المشاريع حوالى 4500 مليون دولار.
كما أن هناك عامل آخر وهو التطورات السريعة فى حقل التجارة البحرية والتى يمكن تلخيصها فى ارتفاع معدل الزيادة السنوية للنقل بالحاويات (الكونتينرات) مقارنة بمعدل الزيادة العامة للتجارة البحرية، والتوسع فى حجم سفن الحاويات التى تضاعفت فى الآونة الأخيرة إلي 8000 حاوية للسفينة، مما جعل تكلفة بناء وتشغيل سفن الحاويات الجديدة عالية (حوالى مائة مليون دولار لبناء السفينة الواحدة) وتتطلب كفاية واستثمارات كبيرة فى خدمات الموانئ. كما أن التكلفة العالية لتشغيل سفن الحاويات ستجعلها تقصر زيارتها علي ميناء واحد أو مينائين علي الأكثر فى المنطقة، وبالتالى ستشهد الموانئ زيادة كبيرة فى عمليات المسافنة وهى انتقال البضائع عبر موانئ وسيطة قبل أن تصل إلي وجهتها الأخيرة.
وبالنسبة للموانئ السعودية بالذات، علاوة علي العوامل السابقة، فقد حدث تحول كبير فى الاقتصاد الوطنى نحو التصدير، فإلي عهد قريب، فى عام 1983م مثلاً، كانت الصادرات تمثل أقل من 7% من مجموع حركة البضائع فى الموانئ بينما فى عام 2000م وصلت هذه النسبة إلي 70%.
تلكم هى بعض العوامل الرئيسية التى دعت لتصميم برنامج عمل جديد لموانئ المملكة العربية السعودية يتناغم مع متطلبات المرحلة المقبل، ويحقق مجموعة من الأهداف، أهمها:
$ رفع كفاية مرافق الموانئ وزيادة حجم الاستثمار بها.
$ زيادة إيرادات الموانئ.
$ تشجيع الصادرات الصناعية.
$ توفير فرص عمل جديدة للأيدى العاملة السعودية.
ويرتكز برنامج العمل الجديد علي تخصيص خدمات الموانئ وفق ضوابط وترتيبات محددة أبرزها:
$ إدارة العمل بأسلوب تجارى يعتمد علي المنافسة لتوفير خدمات ذات كفاية عالية.
$ إعطاء حوافز للقطاع الخاص للاستثمار فى تطوير المعدات والتجهيزات.
$ استمرار ملكية الدولة للموانئ والمنشآت وبقاء دورها الإشرافى.
لقد كان الإقبال علي البرنامج جيداً من قبل القطاع الخاص، وكانت هناك عروض للاستثمار تقدمت بها شركات عالمية من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا والصين وكوريا الجنوبية علي سبيل المثال. وهذا الإقبال الجيد للمشاركة فى برنامج تخصيص خدمات الموانئ يعزي فى المقام الأول إلي الاستقرار والأمن اللذين تتمتع بهما المملكة العربية السعودية، بالإضافة إلي عوامل الجذب التى وفرها البرنامج ومن بينها توفر كميات كبيرة من البضائع فى الموانئ السعودية مع تعرفة للأجور مجدية اقتصادياً، إلي جانب توفر بيانات دقيقة عن حركة البضائع خلال العشرين سنة الماضية مما يلغى عنصر المخاطرة أمام المستثمرين. لقد تم طرح خمس وعشرين فرصة، عن طريق المنافسة العامة، أمام القطاع الخاص للاستثمار فى مجالات متعددة مثل محطات الحاويات، ومحطات البضائع، ومحطات الحبوب السائبة، ومحطات البضائع المبردة، والموانئ الصناعية، ومناطق إعادة التصدير، والخدمات البحرية.
وكان هناك حرص علي ممارسة شفافية عالية فى جميع الخطوات التنفيذية مما أعطي مصداقية للبرنامج، واطمئناناً للمستثمرين. فالشروط موحدة وواضحة، والوثائق مدعمة بقدر كبير من البيانات، ومظاريف العطاءات المقدمة من المستثمرين تفتح فى نفس يوم تقديمها فى جلسة علنية يتم فيها الإعلان عن الفائز حال الانتهاء من فتح جميع المظاريف. وفى كل الحالات، بدون استثناء، كانت الترسية علي من يقدم أعلي نسبة من دخل العقد للدولة. ومن أهم الشروط التى اشتمل عليها البرنامج لتنظيم العلاقة مع المستثمرين وتحديد التزاماتهم فى الإدارة والتشغيل ما يلى:
$ المنافسة بين المستثمرين علي شكل مزايدة عامة لمن يقدم أعلي نسبة للميناء من الأجور التى يحصلها المستثمر من الوكيل أو مالك السفينة حسب لائحة أجور خدمات الموانئ السعودية.
$ فرصة المشاركة فى المزايدة متاحة أمام جميع الشركات والمؤسسات السعودية التى لديها أو لدي شريك فيها خبرة فى طبيعة عمل المحطة محل المنافسة.
$ لتوسيع دائرة مشاركة القطاع الخاص وتوفير عنصر المنافسة فى عمليات خدمات الموانئ السعودية ولا يسمح لمستثمر واحد بأكثر من عقد واحد لمناولة البضائع فى الميناء نفسه.
$ التعاقد بأسلوب التأجير علي أساس مشاركة الدولة فى دخل المستثمر من الخدمات التى يقدمها بتشغيل معدات مناولة البضائع والأرصفة والساحات والمستودعات التابعة لها فى المحطة، وتتراوح مدة العقود بين عشر سنوات وعشرين سنة هجرية حسب حجم الاستثمار المطلوب.
$ يلتزم المستثمر بتوظيف كافة العمالة السعودية العاملة حالياً فى المحطة وبنفس الرواتب والبدلات الحالية، مع تقديم برنامج تدريب للسعوديين وإحلالهم بدلاً من العمالة الوافدة وفقاً لبرنامج زمنى محدد من قبل الموانئ.
$ يلتزم المستثمر بتوريد معدات وتجهيزات جديدة حسب الأعداد والمواصفات الواردة فى العقد لاستكمال وتجديد التجهيزات القائمة وتؤول ملكيتها للموانئ فى نهاية العقد.
$ المستثمر يملك المرونة فى منح عملائه حسومات فى إطار حصته من الأجور.
وبالرغم من أن عقود تخصيص خدمات الموانئ السعودية لا يزال معظمها فى بدايته، غير أن النتائج الأولية للعقود التى بدأت فعلاً إيجابية بكل المعايير. ويمكن تلخيص هذه النتائج فى التالى:
$ زيادة معدلات الإنتاجية فى مناولة البضائع وقد بلغت نسبة الزيادة فى بعض المحطات أكثر من 30%.
$ زيادة مطردة فى إيرادات الموانئ.
$ توفير برامج لتدريب وتوظيف اليد العاملة السعودية.
$ استقطاب استثمارات جديدة من القطاع الخاص لتوفير تجهيزات ومعدات جديدة للموانئ، وتتراوح قيمة هذه الاستثمارات بين 50 مليون ريال فى بعض المحطات إلي 500 مليون ريال فى محطات أخير وفقاً لحجم العمل.
$ ارتفاع معدلات الإنتاجية فى عمليات التشغيل أدي إلي انخفاض أجور شحن البضائع من وإلي موانئ المملكة العربية السعودية مما انعكس بشكل إيجابى علي أسعار السلع فى السوق المحلية، كما أنها وفرت ميزة تنافسية للصادرات السعودية للوصول إلي الأسواق العالمية.
$ عضو مجلس الشوري.
أصدر المهندس محمد عبدالكريم بكر، عضو مجلس الشوري، مؤخراً كتاب A Model in Privatization (نموذج فى التخصيص)، استعرض فيه برنامج إسناد خدمات الموانئ السعودية (أكبر منظومة للموانئ فى الشرق الأوسط) إلي القطاع الخاص لإدارتها بأسلوب تجارى. وأوضح بكر أن تنفيذ هذا البرنامج بدأ فى عام 1417ه وتم إنجازه خلال ثلاث سنوات، وبهذا تكون الموانئ السعودية قد حققت الريادة فى تخصيص خدماتها بين المرافق العامة فى المملكة العربية السعودية وكذلك بين موانئ الشرق الأوسط. وأكد بكر أن برنامج المملكة العربية السعودية لتخصيص خدمات الموانئ ينطوى علي كثير من الإيجابيات، ليس فقط من منظور النتائج التى تحققت فى رفع كفاية الأداء، بل أيضاً فى الشكل التنظيمى للبرنامج الذى راعي الجوانب الإنسانية والاجتماعية للتخصيص، ووفر آليات كافية للرقابة والمحافظة علي المال العام عبر عدة قنوات أهمها الشفافية والمنافسة واستمرار الدولة فى دورها الرقابى دون الإخلال بحق المستثمر فى إدارة وتشغيل المرفق العام بأسلوب تجارى.