تمثل مشكلة البطالة أكبر المشاكل التى تواجه جميع دول العالم المتقدمة منه والنامية باختلاف أنظمتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وتخلق البطالة مشكلات لا يمكن حصرها تنشأ فى المجال الاقتصادى فى بداية الأمر ومن ثم تنتقل إلي جميع المجالات الأخري المختلفة الاجتماعية منها والسياسية. وتعد مشكلة خلق وظائف جديدة لمواجهة تزايد أعداد الداخلين إلي قوة العمل مع تزايد معدلات السكان والقضاء علي البطالة الدائمة والجزئية بالإضافة إلي مشاكل انخفاض الأجور؛ من أكبر التحديات التى تواجه السياسات الاقتصادية فى جميع البلدان بمختلف مستويات تقدمها الاقتصادى.
ويعتبر كثير من الاقتصاديين أن العمال ليسوا إلا أحد عوامل الإنتاج، ويجب الحديث عن ذلك كما نتحدث عن مصطلحات سعر الصرف، أو سياسة الاستثمار، أو التضخم. ولكن العمال شيء أكثر من ذلك أو بالأحري شيء آخر مختلف عن هذه العمليات الاقتصادية. العمال وبكل بساطة ينتجون كل ثروة الدولة، ويمكن قياس مستوي قوة اقتصاد أى دولة أو ضعفه من خلال مقدرته علي توفير عمل ومستوي معيشة مناسب لجميع سكانه. ويؤدى ارتفاع معدلات البطالة إلي كثير من الأزمات والمشاكل التى لا حصر لها تنبع خطورتها من عدة اعتبارات، أهمها علي سبيل المثال وليس الحصر:
$ عدم استغلال الطاقات البشرية المتاحة فى المجتمع.
$ ازدياد عدم الأمان الاقتصادى بازدياد حجم فرص الإنتاج الضائعة.
$ تزايد المعاناة الإنسانية التى تصيب العاطلين عن العمل حيث يختلف عنصر العمل عن بقية عناصر الإنتاج فى صفته الإنسانية، حيث أن الفرد يشعر بالإحباط فى حالة تعطله عن العمل. ولا ينطبق ذلك علي عناصر الإنتاج الأخري (رأس المال، الأرض، الآلات).
$ الآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السلبية التى تخلقها مشكلة البطالة؛ فهى السبب الرئيسى للفقر والعامل الحاسم الأول فى تزايد عدد الفقراء فى العالم، وهى مصدر كثير من الأمراض الاجتماعية فى المجتمعات مثل تفشى العنف والجريمة وتعاطى المخدرات والاضطرابات السياسية والاجتماعية، فليس هنالك ما هو أخطر علي أى مجتمع من تزايد عدد العاطلين فيه.
$ تزايد عدم المساواة والفوارق الاجتماعية الاقتصادية التى تؤدى إلي تهديد الاستقرار السياسى وتقرب من خطر اندلاع الاضطرابات الاجتماعية.
وفى ضوء هذه الخلفية يصبح من الضرورى علي المجتمع والدولة العمل علي وضع السياسات المناسبة وبذل كل جهد فى المتناول وتنظيم الموارد للعمل علي القضاء علي البطالة كسبب رئيسى تنبع منه جميع المشاكل. ولكن لابد من التنويه علي أن القضاء علي البطالة أو تقليل معدلاتها حيت تصبح فى مستويات معقولة ومقبولة؛ ليست من الأمور التى يسهل تحقيقها بكل يسر أو فى فترة زمنية محددة، وإنما يتطلب حلها الجمع بين جهد الدولة الرسمية وجهود القطاع الخاص والمؤسسات الخاصة والمجتمع بجميع فئاته، واتباع سياسات طويلة المدي من أجل النجاح فى تحقيق خفض معدلات البطالة. وهذا بالضرورة لا يتم إلا عبر قنوات الاتصال والحوار المباشر بين فئات المجتمع المختلفة وأجهزة الدولة المعنية، علي ضوء توفر أساس للمعلومات الضرورية التى تساعد فى اتخاذ القرارات وتنفيذ التوصيات اللازمة نحو حل هذه المعضلة.
وسعياً خلف الاستفادة من كل تجربة إيجابية مفيدة، قام "مركز السجينى للاستشارات الاقتصادية والإدارية" -مقره محافظة جدة- بإعداد دراسة عن تجربة جمهورية إيرلندا فى مواجهة مشكلة البطالة وخفض معدلاتها، بهدف التعرف علي الأساليب المختلفة التى اتبعتها وطبقتها الجهات الرسمية أو الخاصة فى إيرلندا لخفض مستوي البطالة، باعتبارها أحد التجارب الناجحة عالمياً فى القضاء علي مشكلة البطالة؛ ومن ثم محاولة اقتباس ما يلائم الظروف الاقتصادية والسياسية للمملكة العربية السعودية وما يتماشي منها مع خصوصية مجتمع المملكة العربية السعودية تمهيداً لفتح الطريق أمام الاستفادة من التجارب الإيجابية للدول الأخري فى مواجهة العقبات والمشاكل الاقتصادية التى تؤثر علي مسيرة الاقتصاد السعودى.
وقد ألقت الدراسة الضوء علي ظاهرة البطالة فى جمهورية إيرلندا والتعرف علي العوامل المؤثرة فيها وأهم أساليب معالجتها؛ بعد تقديم عرض مختصر عن الخلفية النظرية لظاهرة البطالة.
رغم اختلاف مجتمع المملكة العربية السعودية عن المجتمع الإيرلندى جذرياً، إلا أن هناك تشابهاً نظرياً لمشكلة البطالة بإيرلندا مع مشكلة البطالة فى المملكة العربية السعودية فى عدة نقاط مهمة. ولا يمنع الاختلاف الشاسع بين المجتمعين من محاولة استشراف بعض الحلول التى تناسب مشكلة البطالة فى الدولتين، كما أن هذا الاختلاف الجذرى لا يقف حائلاً دون الاستفادة من هذه التجربة الثرية ومحاولة اقتباس ما يمكن تطبيقه فى المملكة العربية السعودية، حسب الظروف والمعطيات الوطنية.
توجد بعض السمات المشتركة فى مشكلة البطالة بين إيرلندا والمملكة العربية السعودية، وبصورة عامة تتمثل هذه السمات المشتركة فى النقاط التالية:
$ ارتفاع معدلات البطالة فى الدولتين، ورغم وجود إحصائيات دقيقة ومفصلة لفترة تاريخية طويلة بالنسبة لإيرلندا، إلا أنه لا توجد إحصائيات بمثل تلك الدقة والتفصيل فى المملكة العربية السعودية باستثناء تلك التى صدرت فى تقرير التعداد السكانى عام 1413ه ولم يتم نشر إحصائيات حديثة منذ ذلك التاريخ. وقد تضاربت الأرقام حول معدلات البطالة فى المملكة العربية السعودية فى الكثير من التقارير الأخري التى تصدر من جهات مختلفة.
$ تقارب نسبة السكان فى سن العمل فى الدولتين حيث تبلغ حوالى 45% فى إيرلندا، وحوالى 59% فى المملكة العربية السعودية، بناءً علي بيانات التقرير السنوى لمؤسسة النقد العربى السعودى (ساما) لعام 1420ه.
$ ارتفاع معدلات الخصوبة والزيادة السكانية فى الدولتين مما يعنى ازدياد الداخلين إلي قوة العمل خلال الفترة السابقة وفى المستقبل القريب، حيث بلغ متوسط نسبة الزيادة السكانية فى المملكة العربية السعودية فى الفترة 1990م إلي عام 1997م حوالى 6،2%. ومن المتوقع أن تصل نسبة نمو قوة العمل إلي حوالى 1،4% مع نهاية عام 2000م (حسب بيانات مؤسسة النقد العربى السعودى).
$ تدنى نسب مشاركة المرأة فى سوق العمل فى كل من المملكة العربية السعودية وإيرلندا، رغم اختلاف الأسباب والعوامل التى أدت إلي تدنى هذه النسب فى الدولتين.
$ تفشى البطالة بين الشباب والنساء فى الدولتين رغم اختلاف أسبابها.
$ أدي ارتفاع معدلات البطالة فى إيرلندا إلي تزايد معدلات الهجرة واستنزاف العقول، بينما أدي تفاقم مشكلة البطالة فى المملكة العربية السعودية وخفض الطلب الكلى إلي هجرة كثير من رؤوس الأموال السعودية إلي الخارج.
$ ظهور بعض المشاكل الاجتماعية كنتيجة طبيعية لتفاقم مشكلة البطالة فى الدولتين، رغم ملاحظة عدم انتشارها فى مجتمع المملكة العربية السعودية حتي الآن بمثل معدلات انتشارها فى إيرلندا، ولا توجد معلومات منشورة حول الموضوع.
$ ومن أوجه التشابه إجماع حكومتى البلدين وجميع أطراف المجتمع فى الدولتين علي ضرورة تحريك الجهود للحد من تردى وضع البطالة أكثر مما هو عليه.
إن الاهتمام بمشكلة البطالة فى المملكة العربية السعودية يثير الكثير من الأسئلة بين فئات المجتمع المختلفة، ويشجع الرغبة فى إحداث بعض التغيرات الطفيفة فى الهياكل القائمة. ولكن مثل هذه التغيرات لن تستطيع التعامل مع مشكلة البطالة بجميع تشعباتها، غير أن ذلك لا يمثل سبباً لعدم إجراء بعض الإصلاحات وتنفيذ السياسات المقترحة لخفض البطالة ولو جزئياً، حيث يجب البدء من نقطة ما، بالإضافة إلي أن تحقيق بعض التقدم خير من عدم التقدم كلياً. كما أن إحراز بعض التقدم سوف يولد مزيداً من الثقة علي المضى قدماً فى إنجاز تقدم أشمل ملموس الأثر، ولربما يشجع ذلك بعض الجهات والهيئات علي دعم تلك الجهود. وقد تم تقديم العديد من التوصيات والدراسات بهذا الخصوص.
يوجد العديد من السياسات التى يمكن تبنيها فى سبيل معالجة تفاقم مشكلة البطالة بالمملكة العربية السعودية، خاصة فى ظل توقع دخول المزيد من السكان إلي قوي العمل فى السنوات المقبلة. ويقتصر الحديث فى هذه الدراسة علي تحديد بعض السياسات التى نجحت فى خفض البطالة فى إيرلندا.
سياسات الاقتصاد الكلى
إن تحقيق مستويات العمالة الكاملة فى المملكة العربية السعودية، يتطلب تحقيق معدلات نمو أعلي من المعدلات الراهنة. بالإضافة إلي المحافظة علي استقرار الاقتصاد، وكبح تيار التضخم. إن الاقتصاد الديناميكى الذى ينمو بقوة مع توسع الطلب علي السلع والخدمات، بمعني رفع مستوي الطلب الكلى، هو وحده الذى يمكن أن يوفر فرص عمل جديدة كافية للوفاء بحاجات كل المتعطلين أو الذين يعملون جزئياً، أو الداخلين الجدد إلي قوة العمل، وكذلك كل الذين لا يحتاج إليهم فى وظائفهم الحالية نتيجة التقدم التقنى أو نتيجة التغيرات الهيكلية. وعملية التنمية السريعة وتطوير الاقتصاد هما العاملان المهمان فى عملية خفض البطالة، بل هما من أهم السبل لإيجاد الوظائف التى يحتاج إليها المجتمع بشدة. ويجب استكشاف جميع السبل المؤدية إلي رفع معدلات الطلب الكلى الفعال بالمملكة العربية السعودية الذى يؤدى إلي زيادة الاستثمار الكلى مما يؤدى إلي زيادة الطلب علي العمالة. ويتم رفع معدلات الطلب الكلى عن طريق إدخال تغييرات علي سياسات الاقتصاد الكلى. والفرصة متاحة أمام المملكة العربية السعودية للاستفادة من عولمة الاقتصاد، حيث تحتل المملكة العربية السعودية مكانة وموقعاً يمكنها من الاستفادة من ذلك، خاصة فى القطاعات الصناعية التى تحظي فيها المملكة العربية السعودية بميزة نسبية، واغتنام أكبر ما يمكن من المنافع المحتملة من توسع التدفقات التجارية وتدفقات الاستثمار. وسيكون لتوسع هذه الأنشطة الاقتصادية وتوسع الطلب الكلى الفعال تأثير إيجابى علي العمالة، حتي إذا أخذنا فى الاعتبار الوظائف الضائعة بسبب التخلى عن الأنشطة منخفضة المهارات وكثيفة العمالة. وستكون السياسات الرامية إلي تحسين القدرة التنافسية عن طرق الاستثمار فى الموارد البشرية والهياكل الأساسية؛ ذات مردود إيجابى مهم بالنسبة للمملكة العربية السعودية. والجدير بالذكر أن صدور قانون الاستثمار الأجنبى الجديد، وإقرار نظام العمرة الجديد، وتكوين الهيئة العليا للسياحة، وإنشاء المجلس الاقتصادى الأعلي مؤخراً، والدور المتوقع أن تلعبه هذه التنظيمات والهيئات فى نمو الاقتصاد السعودى بدعمها رفع معدلات النمو الاقتصادى بالمملكة العربية السعودية؛ سوف يساهم فى علاج مشكلة البطالة علي المستوي الكلى.
من دراسة تجربة القضاء علي البطالة فى إيرلندا، اتضح أن أهم العوامل التى أدت إلي انخفاض معدلات البطالة فى إيرلندا تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة بمعدلات عالية منذ عام 1990م حيث ساهمت فى فتح فرص التوظيف وزيادة الطلب علي العمالة. وعلي سبيل الاستفادة من هذه التجربة يجب أولاً تشجيع الاستثمار الوطنى للاستثمار فى مجالات وأنشطة جديدة. واتخاذ سياسات وأساليب تعمل علي جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة للمملكة العربية السعودية. وتمتلك المملكة العربية السعودية بنية تحتية تساعد علي ذلك. وسوف تساهم الاستثمارات الأجنبية فى حال تدفقها علي المملكة العربية السعودية فى تمويل الاستثمارات المحلية باعتبارها رأسمال إضافى، تساعد الاقتصاد علي التكيف مع الصدمات المؤقتة، مما يخلق مزيداً من فرص العمل وبالتالى خفض مستويات البطالة بالمملكة العربية السعودية. ومن مزايا الاستثمارات الأجنبية دعمها عملية نقل التكنولوجيا وطرق مجالات وأنشطة جديدة لا يخاطر غالباً الاستثمار المحلى تجربتها وحده نتيجة افتقاده الخبرات المناسبة لذلك، مما يدعم خلق وظائف فى مجالات غير مطروقة من قبل فى المملكة العربية السعودية. ورغم أن عملية نقل التكنولوجيا قد تؤدى إلي خلق بطالة فى المدي القصير، إلا أنه لا يوجد شك فى فوائدها تجاه التوظيف وخفض البطالة علي المدي الطويل. ولا تقتصر مزايا الاستثمار الأجنبى علي نقل التكنولوجيا فقط، بل تتعدي ذلك إلي نشر المهارات الإدارية والتسويقية علي المستوي الوطنى. ومن مزايا الاستثمار الأجنبى أيضاً مساهمته فى عملية تدريب القوي العاملة خاصة فى الأنشطة التى تتطلب مهارات فائقة ومتميزة. كما أنه يساهم فى تحسين طرق الإنتاج وتطوير كفاءة المؤسسات المحلية فى توليد فرص توظيف جديدة. ويتوقف نجاح هذه السياسات علي مناخ الاستثمار. وقد خطت المملكة العربية السعودي خطوات أساسية فيما يتعلق بسياسة جذب الاستثمارات الأجنبية، فقد صدر مؤخراً نظام الاستثمار الأجنبى الجديد وما تضمنه من ميزات سوف تساعد فى جذب الاستثمارات الأجنبية فى حالة تطبيقها بالصورة المرجوة. ولعل المتابعة الدقيقة لتنفيذها وتلافى أوجه أى قصور يظهر بعد تطبيق هذه السياسة، سوف يكون له دور كبير فى نجاح زيادة معدلات التوظيف وخفض مستوي البطالة بالمملكة العربية السعودية. وعلي مستوي المناطق، يمكن الاستفادة من نظام الاستثمار الأجنبى الجديد فى دعم النشاط الاقتصادى حسب ظروف كل منطقة، بحيث يؤدى ذلك إلي زيادة فرص العمل والتوظيف أمام مجتمع كل منطقة.
يمكن الاستفادة من تجربة إيرلندا فى القضاء علي البطالة وكذلك نجاحها فى تطبيق سياسات سوق عمل فعالة لعبت دوراً كبيراً فى خفض البطالة. وبالطبع سيكون من المهم أيضاً فى معالجة مشكلة البطالة فى المملكة العربية السعوية معالجة القضايا المرتبطة بسياسات سوق العمل. ولكن لابد فى الوقت نفسه من التسليم بوجود حدود صارمة لمدي إمكانية هذه السياسات وحدها لحل مشكلة البطالة. ويجب الاهتمام بالمنافع الهائلة التى تنجم عن سوق العمل جيدة التنظيم. ومن الفوائد الاقتصادية الرئيسية المستمدة من التنظيم أنه كثيراً ما يستجيب لجوانب قصور سوق العمل ومن ثم يحسن سير هذه السوق، ومن ذلك مثلاً أن ضمان الاستخدام يزيد كلاً من ميل الشركات إلي تدريب عامليها، ويزيد من استعداد العمال للاستثمار فى الارتقاء بمهاراتهم. وبالمثل يمكن للوائح التى تحمى دخل وضمان استخدام العمال أن تزيد الكفاءة الإنتاجية من خلال توليد حوافز علي المنافسة بقدر أكبر من خلال الابتكار فى سوق الإنتاج واستراتيجيات تسويق الإنتاج. ويجب إصلاح لوائح سوق العمل، مثل القيود التى تفرضها اللوائح علي طول ساعات العمل وتنظيمها، والتى يمكن أن تثبط قرارات العرض الطوعى للعمل وتعوق بالتالى نمو الوظائف. كما يتعين إدخال إصلاحات انتقائية لمعالجة مشاكل خطيرة منها الأجور المنخفضة وضرورة تحسين التدريب والأداء فى موقع العمل لمواجهة التحديات التى تطرحها التكنولوجيا ونظم الإنتاج الجديدة. ويمكن استخدام المصروفات الممولة عن طريق الحكومة أو الشركات أو رسوم العمالة الأجنبية لخلق الوظائف، إما لدعم العمالة أو لاستحداث الوظائف مباشرة فى إطار تقديم الخدمات الاجتماعية، حيث أن التكلفة الصافية التى تقع علي هؤلاء (الحكومة، الشركات، أو الأفراد) نتيجة زيادة الإنفاق علي هذه الوظائف؛ أقل بكثير من التكلفة الإجمالية التى تترتب فيما لو بقى العمال المعنيون عاطلون عن العمل. ولا تزيد التكلفة الصافية لخلق الوظائف من قبل القطاع العام فى معظم بلدان منظمة التعاون والتنمية علي 20% من تكلفتها الإجمالية. وفى هذا السياق يمكن الاستفادة من سياسة تشجيع مشاريع التوظيف كأحد سياسات سوق العمل للقضاء علي مشكلة البطالة، بالإضافة إلي دعم المشاريع الخاصة بالعاطلين كما طبقته إيرلندا بكل نجاح. كما يمكن وضع برامج وتقديم خدمات تفيد فى عملية خفض البطالة شبيهة بالبرامج التى تقدمها وكالة FAS حسب ما يتماشي مع طبيعة الاقتصاد السعودى والظروف الوطنية. فعلي سبيل المثال من الممكن تطبيق بعض الخدمات التى تقدمها هذه الوكالة وهيئاتها الأخري المتمثلة فى خدمات العاطلين، خدمات أصحاب العمل، وخدمات المجتمعات المحلية.
يجب وضع برامج شبيهة بتلك الموجودة فى إيرلندا تهدف إلي توفير خدمات التوظيف والتعيين، كما يجب أن تصاحبها برامج تدريب وإعانات تأسيس أعمال خاصة بالعاطلين وتقديم فرص عمل للباحثين عن وظائف من خلال وضع برامج خلق الوظائف المباشرة. كما يمكن اقتباس فكرة برنامج توظيف المجتمع الذى سوف يساعد فى توفير فرص عمل "بعض الوقت" بصورة مؤقتة فى مشاريع يؤسسها القطاع العام أو الخاص بالمملكة العربية السعودية، بالإضافة إلي تخصيص برامج تعمل علي مساعدة العاطلين من الشباب. ومن المهم العمل علي اتباع بعض البرامج التى تهدف إلي:
$ تطوير الإمكانيات الشخصية للمشاركين بالبرامج للمساهمة فى تحسين فرص العمل المستقبلية.
$ تحويل الفوائد الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات بالمساهمة فى التنمية المحلية، عن طريق دعم المشاريع الصغيرة والتعاونية التى تثبت جدواها الاقتصادية.
وبالنسبة للبرامج التى تهدف إلي تدريب العاطلين، يمكن انتهاج أسلوب برامج التدريب علي مهارات محددة وبرامج التدريب المتناوب وبرنامج تعلم المهارات الأساسية، التى سوف تساعد فى توظيف وتدريب الشباب المتسربين من التعليم والأشخاص ذوى المؤهلات البسيطة الذين تلقوا تعليماً متوسطاً، والنساء اللاتى يرغبن فى دخول سوق العمل، والأشخاص الذين يفتقدون بعض المهارات التى تتطلبها سوق العمل بالمملكة العربية السعودية. ومن أهم البرامج التى يمكن تطبيقها فى المجتمع السعودى (برامج التدريب المتناوب) التى تسمح بالتنقل بين التدريب وتجربة الوظائف، حيث تساهم هذه الفكرة فى الحد من طلب توفر الخبرة لدي الشباب المتقدمين للوظائف، وبالتالى سوف تسنح لهم الفرصة لتجربة العمل قبل توظيفهم، مما يحفظ مصلحة جميع الأطراف فى عملية التوظيف، بالإضافة إلي برامج مكان العمل وبرنامج ابتداء العمل؛ التى تعمل علي تشجيع أصحاب العمل علي توظيف أحد العاطلين بحيث تمنح الفرصة لكل من صاحب العمل والباحث عن العمل للتعرف علي مدي إمكانية استمرار علاقة العمل بينهما مستقبلاً خلال فترة زمنية يمكن تحديدها بالتشاور بين الجهات المختصة وأصحاب العمل (تمتد هذه الفترة فى إيرلندا إلي حوالى خمسة أسابيع)، ويمكن لها أن تستمر إلي 20 أسبوعاً فى المملكة العربية السعودية. وبجانب التدريب، يمكن تقديم إعانات إنشاء المشاريع وإعانات التوظيف، التى سوف تساعد فى زيادة نسب التوظيف الشخصى بين الخريجين خاصة فى التخصصات الفنية.
يجب تشجيع المناطق المحلية علي إقامة مشاريع تعاونية، خاصة فى الأماكن السياحية والتراثية يساهم فيها المجتمع مع بعض الإعانات البسيطة من الدولة، علي أن تقوم هذه المجتمعات بالإشراف علي مثل هذه المشاريع وتوظيف العاطلين فى المنطقة فيها مما يساعد فى خفض معدلات البطالة ويحد من الهجرة إلي المدن. ويجب تطوير المشاريع من خلال هذا البرنامج فى مجالات معينة، مثل شركات الأعمال الصغيرة والحرفية والورش، وشركات خدمة المجتمع والمشاريع السياحية والترفيهية، والمشاريع التعاونية التى تنشئها المجتمعات المحلية. كما يجب تقديم بعض الإعانات المالية والتمويل ضمن خدمات المجتمعات لإقامة المشاريع التى تثبت جدواها الاقتصادية للمجتمع وتوفر فرص عمل إضافية مباشرة أو غير مباشرة.
خدمات أصحاب العمل
وفى مجال خدمة أصحاب العمل؛ يمكن بالتنسيق مع أصحاب الأعمال إنشاء مكاتب توظيف متخصصة تعمل علي توظيف العمالة ذات المهارات والمؤهلات التى يطلبها أصحاب العمل، وإعادة تدريب العمالة فى برامج متخصصة، والمساهمة فى حل المنازعات بين العمالة وأصحاب العمل.
يجب أن يتضمن أى برنامج لاستخدام القوي البشرية أهدافاً بعيدة المدي وأجهزة لتنمية الموارد البشرية، وبوجه خاص التعليم والتدريب. إن زيادة مهارات العمالة وقدرتها هو مفتاح النجاح الاقتصادى الذى يتبعه منطقياً زيادة فرص التوظيف، ومن شأن الاستثمار فى البشر عن طريق التعليم والتدريب أن يؤدى إلي نتائج جيدة فى مجال خفض البطالة. إن زيادة الاستثمار التى يتطلبها النمو الاقتصادى تتضمن الاستثمار فى رأس المال البشرى، فهو أحد أركان النمو الاقتصادى لأى دولة. غير أن هنالك ملاحظة مهمة وهى أن الاستثمار فى رأس المال البشرى بالتعليم قد لا يؤدى إلي النتائج المطلوبة ما لم يقترن بإجراءات أخري مصاحبة، مثل مواءمة مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل، وكيفية توزيع هذا الاستثمار فى التعليم علي المستويات المختلفة والاهتمام بنوعية المخرجات التعليمية. وبجانب التعليم، يجب اللجوء إلي التدريب الذى سيساعد الشباب علي اكتساب خبرات تساعدهم فى المنافسة علي الوظائف وفتح آفاق فرص عمل مختلفة أمامهم، ويجب أن تساهم الدولة والشركات والمؤسسات العامة والخاصة وجميع مؤسسات المجتمع فى عملية التدريب بقدر المستطاع. ومن أهم الأسباب التى تساعد علي مساهمة القطاع الخاص فى التدريب، وضع السياسات ولوائح العمل التى تضمن استفادته من العمالة التى قام بتدريبها وعدم تنقلها قبل فترة محددة يتم الاتفاق عليها بموجب عقد يوقعه الطرفان قبل البدء فى عملية التدريب مما يشجع هذه المؤسسات الخاصة علي زيادة الإنفاق علي التدريب. وخير مثال علي ما يؤديه الاستثمار المناسب فى رأس المال البشرى، ما حدث فى إيرلندا حيث أن الاستثمار فى التعليم خاصة فى مجال التكنولوجيا والمجالات التقنية الأخري أدي إلي زيادة التوظيف وخفض معدلات البطالة، بل أدي إلي نتيجة أخري مهمة ضاعفت من نمو الاقتصاد وبالتالى فرص التوظيف؛ وهى أن وجود مخرجات تعليم ذات مهارات جيدة شجع علي جذب شركات عالمية إلي الاستثمار فى إيرلندا، وساهم أيضاً فى توطين التقنية فى إيرلندا؛ وهو هدف وطنى تسعي إليه المملكة العربية السعودية ضمن أحد أهم أولويات التنمية فيها.
^
إن مشاركة أصحاب الأعمال والعمالة والجهات الرسمية فى وضع سياسات العمل والتنسيق والتشاور بين هذه الأطراف فى وضع هذه السياسات التى تؤثر علي مصالحهم المختلفة؛ سوف يساهم بصورة كبيرة فى التوصل إلي اتفاقيات مُرضية للجميع. ويجب أن يستشار ممثلو المجموعات التى تتأثر مباشرة بالإجراءات التى تتخذ بشأن العمالة ويتم التعاون معهم، وكذلك الذين يمكن أن يفيد تعاونهم فى تطبيق الخطط والسياسات تطبيقاً سليماً وناجحاً. حيث أن نظم الإنتاج الجديدة تتطلب تعاوناً شاملاً بين العمال وأصحاب العمل، ويؤدى مثل هذا التعاون إلي تحقيق منافع ملموسة من حيث زيادة الإنتاجية وزيادة سرعة وفعالية انتشار التكنولوجيا الجديدة. وقد أدي التنسيق والتشاور المستمر بين ممثلى هذه الأطراف فى إيرلندا إلي نجاح سياسات خفض البطالة. ولعل هذا من أهم العوامل التى تساهم فى إنجاح خطط وبرامج توظيف العمالة الوطنية فى الاقتصاد. فلا يجب أن نتصور أن الأنظمة واللوائح والعقوبات من قبل الجهاز الحكومى دون استشارة وموافقة القطاع الخاص وإدخاله شريكاً فى القرار وفى مسؤولية تنفيذه، سوف تؤدى إلي الغاية المرجوة منها.
توجد لدي كثير من الدول التى تتبع اقتصاديات السوق الحرة، أنظمة لإعانات البطالة. وتبرر سياسة دعم وإعانة البطالة باعتبارات أخلاقية، وتقدم هذه الإعانات لحين التحاق العمال مجدداً بسوق العمل. ويمكن اتباع هذا الأسلوب ضمن سياسات القضاء علي البطالة فى المملكة العربية السعودية. ويكون ذلك بإنشاء صناديق إعانة البطالة تكون مهمتها مساعدة العاطلين، من غير أن تؤدى إلي زيادة تكلفة العمل علي الأجل القصير أو تثبيط عزيمة المتعطلين فى البحث عن عمل (خلق بطالة اختيارية). وقد تلزم هذه الصناديق المستفيدين منها علي الالتحاق بأحد الدورات التدريبية، كما يحرم منها الذين يتركون وظائفهم طواعية. وتستطيع هذه الصناديق التى يمكن أن ينشئها أو يدعمها القطاع الخاص المساهمة فى تدريب العمالة التى تطلبها سوق العمل، مما يساهم فى رفع عملية التوظيف من ناحية، وزيادة الإنتاجية من ناحية أخري. كما أن إنشاء صناديق دعم المشاريع الصغيرة فنياً وإدارياً ومالياً سوف يساهم فى فتح فرص التوظيف الشخصى. كما أن إنشاء نظام تأمين البطالة والذى يجب أن يغطى جميع المؤسسات، بالإضافة إلي صناديق التنمية الاجتماعية التى تكون مهمتها الأساسية توفير فرص عمل للشباب والخريجين، ودعم الأعمال والمشروعات الصغيرة ودعم المشروعات التعاونية؛ سوف يؤدى إلي زيادة فرص العمل وتفادى كثير من المشاكل الاجتماعية التى تنشأ بسبب البطالة. وهناك قدر من الاتفاق بين واضعى السياسات علي أن نظم إعانات البطالة الحالية تحتاج إلي إصلاح فى معظم البلدان الصناعية. والمشكلة التى تواجهها هذه الصناديق هى كيفية تمويلها وكيفية اتخاذ خطوات لضمان عدم تأثيرها سلبياً علي جهود العمالة فى الحصول علي الوظائف. ويمكن لمخططى سياسات العمل بالمملكة العربية السعودية الاسترشاد فى حل هذين المشكلتين بتجارب كثير من الدول التى تنتهج هذه السياسة فى معالجة مشكلة البطالة.
لا يستطيع العمال الاستفادة من فرص التوظيف المتاحة فى السوق دون الحصول علي معلومات كافية عن ماهية الوظائف المتاحة، وما هى الأجور التى سوف تدفع مقابلها، والمميزات التى تقدمها هذه الوظائف. كما لا يستطيع أصحاب العمل الاستفادة من المؤهلات المتاحة فى سوق العمل لكى يتمكنوا من توظيف ما يحتاجونه من عمالة دون توفر المعلومات. ولا يستطيع أصحاب القرار من اتخاذ القرار الصائب أيضاً دون توفر المعلومات. وقد ساهم توفر المعلومات والبيانات الإحصائية فى إيرلندا فى التعرف علي اتجاهات البطالة وسوق العمل، واتجاهات ومؤشرات الاقتصاد، كما ساهم توفر المعلومات فى دراسة المشكلة بصورة علمية. لذلك لابد من وضع نظام يوفر جمع الإحصائيات عن معدلات ومواصفات البطالة فى المملكة العربية السعودية وتوزيعها حسب الجنس والعمر والمستوي التعليمى وحسب فترة البطالة (طويلة ومتوسطة وقصيرة الأجل) وتحديد أنواعها واتجاهاتها؛ حتي يتم وضع سياسات الحل التى تناسب طبيعة كل شريحة من شرائح البطالة مما سوف يساهم فى الحد من تفاقم المشكلة. كما أن تدفق البيانات والمعلومات سوف يسهل للدارسين والمتخصصين تقديم مقترحاتهم تجاه تفاقم مشكلة البطالة وتحديد الأسباب التى زادت من حدتها وارتفاع معدلاتها مما سوف يسهم فى مشاركتهم فى عملية وضع السياسات والبرامج التى سوف تساهم فى حل مشكلة البطالة بالمملكة العربية السعودية. إن الطرق المحسنة لنشر المعلومات عن فرص العمل بين العمال العاطلين تتيح لهم أن يختاروا من بين الفرص البديلة المتاحة بسرعة وكفاءة أكثر، وعلي هذا فإن بعض الاقتصاديين يعتقدون بأن إنشاء بنك قومى للمعلومات الخاصة بفرص العمل سوف ينقص الوقت الذى ينفق فى البحث عن العمل ويقلل من البطالة الاحتكاكية فى المملكة العربية السعودية، ويؤكدون علي أهمية إتاحة المعلومات للجميع للمشاركة فى تحقيق أهداف برامج التشغيل الوطنى.