تعيش المملكة العربية السعودية حالياً ما يمكن أن يطلق عليه حقبة الاصلاحات الاقتصادية والادارية في جميع المجالات. وفي هذا السياق العام جاءت التغييرات الوزارية والإدارية التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، وصدرت يوم السبت 14 فبراير 2009م الماضي، وشملت مجالات عديدة منها التربية والتعليم، الصحة، العدل، الثقافة والإعلام، مجلس الشورى، القضاء، وديوان المظالم. ومن المؤكد أن هذه التغييرات الوزارية والإدارية الجديدة ستعمل على تنشيط العملية الإصلاحية التي انتهجتها الحكومة السعودية مؤخراً، لاسيما أن هذه التغييرات طالت قطاعات وأنشطة خدمية مهمة لها علاقة ومساس مباشر بحياة المواطن السعودي، كالصحة والتعليم والقضاء، الأمر الذي سيتحقق عنه الارتقاء بتلك المجالات بالشكل الذي يحقق تطلعات المواطن السعودي.
وحقيقة تمثل هذه التغييرات قمة الهرم في الإجراءات التي تتم منذ فترة طويلة على طريق الاصلاحات الطويل، وأثمرت نجاحات مقدرة عبر عنها البنك الدولي مؤخراً عندما صنف المملكة العربية السعودية ضمن صدارة دول العالم في الإصلاح الاقتصادي، وذلك في تقرير سهولة أداء الأعمال السنوي لعام 2008م الذي يتم فيه تقييم بيئة الأعمال في 178 دولة في جميع أنحاء العالم. فقد عززت الإصلاحات الاقتصادية الأخيرة مركز المملكة العربية السعودية ضمن التصنيف العالمي بحيث باتت تحتل المركز 23 بعد أن كانت تحتل المركز 38 في العام 2007م. وأكد تقرير البنك الدولي إن المملكة العربية السعودية تعد حالياً أفضل مكان لأداء الأعمال في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام، حيث جاءت متقدمة على الكويت التي حلت في المركز 40 ودولة الإمارات العربية المتحدة التي جاءت في المركز 68 كما جاء تصنيف المملكة العربية السعودية ضمن موقع متقدم عن دول صناعية رئيسية مثل فرنسا التي جاءت بالمركز الـ 31 والنمسا التي حلت في المركز الـ 25. واعتبر عمرو عبدالله الدباغ، محافظ الهيئة العامة للاستثمار، أن الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، هو الذي يقود تحديث وتطوير بيئة الأعمال في المملكة العربية السعودية، وأنه وجَّه بتخصيص جميع الموارد الرامية لتعزيز الاستثمارات المحلية واستقطاب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، حيث شملت الجهود المبذولة في هذا المجال إصدار نظام جديد للاستثمار الأجنبي وتأسيس الهيئة العامة للاستثمار (ساقية) والمضي قدماً في تخصيص بعض الشركات الحكومية والانضمام لعضوية منظمة التجارة العالمية. كما قامت الهيئة العامة للاستثمار بتعزيز الجهود الرامية لتحرير الاقتصاد من خلال تأسيس المركز الوطني للتنافسية وتبني مبادرة 10*10. وقد أكَّد الدباغ أن المملكة العربية السعودية تعمل على تعزيز وتطوير قدراتها التنافسية، في إطار هدفها الرامي لأن تصبح ضمن أكثر 10 دول تنافسية في العالم بحلول عام 2010م. يذكر أن الإصلاحات الاقتصادية الشاملة التي شهدتها المملكة العربية السعودية في السنوات القليلة الماضية بدأت تؤتي ثمارها، حيث أصبحت المملكة العربية السعودية تحتل مركز الصدارة على مستوى منطقة الشرق الأوسط من حيث حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة، كما قفزت التدفقات الاستثمارية التي استقطبتها المملكة العربية السعودية خلال عامين من ملياري دولار أمريكي إلى 18 مليار دولار أمريكي، ومن المتوقع أن تشهد هذه التدفقات نمواً متسارعاً مع مضي العمل قدماً في تطوير المدن الاقتصادية والتي باتت تستقطب كبرى الشركات العالمية المهتمة بتنفيذ استثمارات ضخمة في السوق السعودي.
ولا يمكن الحديث عن الإصلاح الاقتصادي بمعزل عن التغييرات الوزارية والإدارية الأخيرة التي تمت في 14 فبراير 2009م الماضي، ذلك أنها شملت إلى جانب الاقتصاد، بعض الجوانب المعيشة الهامة التي تمس وتؤثر في حياة المواطن. ومن المتوقع أن تؤدي هذه التغييرات لحلول جذرية للعديد من القضايا والشؤون العالقة المتعلقة بالمواطن، كما يتوقع لتلك التغييرات، أن تسرع من عملية الإصلاح الإداري، بالشكل الذي يسهم في مواكبة مشوار التطور الكبير الذي تشهده المملكة العربية السعودية بشكل خاص والذي يشهده العالم بشكل عام، سيما وأن السعودية أصبحت عضواً فاعلاً في العديد من المنظمات والمؤسسات الدولية، على المستويين الاقتصادي والتجاري، والتي تتطلب تطوير البنية التحتية التجارية والاقتصادية بالشكل الذي يحقق الارتقاء بأداء الاقتصاد والتجارة السعودية. وإذا كانت السياسات الاصلاحية التي نشطت بقوة في بعض القطاعات، قد أثمرت اعترافاً دولياً مقدراً، فإننا ننتهز الفرصة لتحديد بعض الملامح الضرورية للإصلاح المأمول خلال الفترة القادمة.
في ضوء الأزمة المالية العالمية التي يشهدها العالم حالياً والتي لم يسلم منها بلد في العالم، يسعى القائمون على السياسات الاقتصادية في المملكة العربية السعودية لاستيعاب المتغيرات المتسارعة في العالم واحتواء أي آثار جانبية مؤلمة قد تطرأ على هياكل الاقتصاد السعودي عموماً، حتى يتم تجاوز الأزمة واحتواء تبعاتها. فلا شك أن حجم التحديات الاقتصادية في المملكة العربية السعودية قد زادت في ضوء التقلبات التي حدثت في سوق البترول العالمية، حيث انخفض سعر برميل البترول من نحو 140 دولاراً أمريكياً قبل عدة أشهر إلى أقل من 40 دولاراً أمريكياً حالياً، ولا تشير التوقعات القريبة إلى احتمال عودته لمستواه السابق. وفي هذا الإطار، ينبغي العمل على زيادة مساهمة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي مما سيوفر فرص العمل للأعداد المتزايدة من المواطنين التي ستنضم إلى سوق العمل كل عام، وبالتالي تخفيف العبء على الميزانية الحكومية والسعي نحو المزيد من الاندماج في الاقتصاد العالمي للاستفادة من الفرص التي قد تتاح في السوق العالمية. وتتطلب السياسات الاصلاحية المقترحة من الحكومة أن تلعب دور العامل المحفز لمشاركة أكبر من جانب القطاع الخاص في عملية التنمية الاقتصادية عن طريق تهيئة البيئة الاقتصادية العامة التي تتسم بالاستقرار وتوفير الأطر الملائمة لهذا الغرض، فرأس المال الخاص يتجه دوماً إلى الدول التي لديها أنظمة استثمارية واضحة ونظام تشريعي وقضائي فاعل وجدير بالثقة.
تتميز حركة التجارة الخارجية للمملكة العربية السعودية بحرية تنقل رؤوس الأموال وحرية الصرف الأجنبي بدون أي قيود. وللوهلة الأولى يبدو أن المملكة العربية السعودية في وضع جيد يؤهلها للاستفادة من سوق حرة مفتوحة، غير أن هناك العديد من المسائل التي ينبغي معالجتها. ومن المسلم به أن المملكة العربية السعودية لابد وأن تتجه لإنشاء سوق إقلمية مشتركة في المستقبل المنظور مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وسيكون من الأسهل للمملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية أن تتفاوض ككتلة موحدة لتحصل على شروط أيسر لحركة وصول منتجاتها التصديرية مثل البتروكيماويات إلى الأسواق الخارجية. وسيظل بمقدور السعودية أن توفر الدعم لصناعاتها الوليدة والناشئة التي تعنى بمتطلبات الأسواق المحلية أو بمتطلبات سوق إقليمية موحدة، ولكن لن يكون بمقدورها أن تطبق ذلك بالنسبة لصناعاتها التصديرية بمقتضى أحكام اتفاقية منظمة التجارة العالمية. وقد تتشجع العديد من الشركات العالمية على الاستثمار في السعودية متى توفرت الكتلة الاقليمية الاقتصادية التي ستتيح لمنتجات هذه الشركات حرية الوصول إلى كافة أسواق الكتلة. ويتطلب الاندماج في الاقتصاد العالمي توفير شفافية أكبر والتخلص من بعض المعوقات البيروقراطية بهدف تحسين المناخ الاستثماري.
من الواضح أن بعض الأنظمة التجارية تحتاج إلى تطوير. فعلى الرغم من تحسين آليات فض المنازعات، إلا أنها مازالت تتسم في بعض الأحيان ببطء الاجراءات. كما ينبغي للنظام التشريعي أن يقر بحقوق الدائنين على أكمل وجه، وذلك لتشجيع البنوك على تقديم المزيد من القروض للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم. وهناك ضرورة لتوفير المعلومات البيانية والتحليلية الوافية والصادرة في الوقت المناسب حول الشركات والأسواق المحلية لتزويد المستثمرين بقاعدة بيانات موثوقة يعتمد عليها.
تمثل عملية تخصيص بعض مؤسسات القطاع العام جزءاً مهماً من عملية التكيف الاقتصادي، وستتاح الفرصة للقطاع الخاص في السعودية أن يتملك ويطور العديد من المرافق العامة التي يتم تشغيلها حالياً من قبل الحكومة، مع الاشتراط بأن ينتج عن ذلك تخفيض تكاليفها وتحسن في أدائها وتوفيرها لفرص توظيف أفضل للقوى العاملة الوطنية. ومن شأن عمليات التخصيص هذه مع تزايد حجم مشاركة القطاع الخاص، أن تخفف من العبء المالي على الميزانية العامة وترفع من كفاءة الكثير من مؤسسات القطاع العام. ويمكن استخدام الناتج عن عمليات التخصيص لخفض الديون المحلية المستحقة على القطاع العام. وبشكل عام يرجح أن تلجأ الحكومة السعودية إلى البدء بتخفيض حيازتها بصورة تدريجية في الشركات التي لها أسهم مدرجة في سوق الأوراق المالية ليتبعها تخصيص شركات الطيران والهاتف والكهرباء وغيرها، في حين أنه يمكن في مشاريع الكهرباء والماء منح القطاع الخاص عقوداً لمدة محدودة على أساس برامج البناء والتشغيل ثم إعادة التسليم.
شهدت السنوات الأخيرة تطورات كبيرة في آليات ونظم عمل السوق المالية السعودية، وهو أمر ضروري لنجاح برامج التخصيص. ويؤمل المزيد من الإجراءات الاصلاحية للسوق المالية خلال الفترة القادمة لمواكبة التطورات الراهنة في العالم. وقد كان لتوجهات الحكومة الرامية لزيادة مشاركة القطاع الخاص أثر بالغ في تطوير الأسواق المالية المحلية وإكسابها دوراً أكبر. فقد تم بالفعل اختبار جدوى الاقتراض المحلي من خلال إصدار أدوات دين عامة، على أن يتبع ذلك تطوير أسواق للتعامل بهذه الأدوات، وهو أمر سيتيح زيادة حجم إصدارات السندات وأذونات خزينة الحكومة وإيجاد تدفق سلس لها في السوقين الأولية والثانوية وتحسين عملية التسعير. كما يتعين على المملكة العربية السعودية السماح بتداول الأسهم عبر حدود دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وبالتالي خلق سوق مالية إقليمية، وستكون هذه السوق رمزاً للتعاون الاقتصادي الخليجي، كما تدعو إليه الاتفاقية الاقتصادية الموحدة. وأيضاً سيسهم قيام سوق مالية إقليمية في تجنب المشاكل الناجمة عن صغر وضعية الأسواق المحلية ويوفر للمؤسسات المالية قدرات إصدار أكبر. وباختصار فإن ذلك سيساعد على الاستفادة من الموارد المالية المتوافرة على مستوى المملكة العربية السعودية ككل.
إن العنصر البشري هو محور خطة التنمية, لأن المواطن السعودي هو الثروة الحقيقية للبلاد. ولا سبيل للتقدم إلا عن طريق سد الفجوة مع الدول المتقدمة التي اهتمت بالعنصر البشري خصوصاً من ناحية تدريبه على التقنيات التكنولوچية وتأهيله وبناء كوادر بشرية قادرة على مواجهة تحديات العصر وتكون على دراية كاملة بمتطلبات التنمية وتطوير الاقتصاد. إن تنمية موارد الدولة وتطوير نهضتها الشاملة, لا يمكن أن تتم بمعزل عن تنمية العقول البشرية وتطوير قدراتها وتشجيعها على الإبداع لتقوم بدور حيوي لتطوير الخطط والبرامج التنموية. والراصد لموضوع تنمية الموارد البشرية يجد أن له أطرافه التي تتكامل فيما بينها وتتناسق لتحقيق هدف محدد ألا وهو تنشئة إنسان قادر على الإبداع والابتكار قادر على الإسهام في دعم الاقتصاد الوطني. وبالنظر للمتغيرات العالمية التي تشمل حدة المنافسة بين مؤسسات بعضها البعض، فإن إدارة الموارد البشرية في هذه المؤسسات لابد وأن ترتقي لمستوى التطبيق بالنظر للقواعد المحققة لتنمية هذه الموارد. وكل هذا يتطلب وجود استراتيچية خاصة بالمؤسسات تسعى من خلالها لتحقيق أهدافها وتوفير صيانة قوة العمل بما يحقق فهم العنصر البشري لطبيعة المؤسسات. ومن أجل تنمية وتطوير الموارد البشرية, هناك نقطتان أساسيتان من الضروري تطويرهما بما يتناسب مع البرامج الحديثة لتنمية هذه الموارد وهي: