يتعرض العالم، منذ فترة ليست بالوجيزة، إلى تغيرات عميقة على مستوى العلاقات، وموارد القوة، وانتقال المعلومة، وتبادل المعرفة والصورة، وصناعة الرموز والشخوص. وهو يشهد تطوراً ملحوظاً على مستوى آليات تصدير الأفكار، وحوار الثقافات، أو صدامها، ويعيش حالات تبدل حادة وجادة في الأهداف والقيم. وهذه الأمور تقتضي كلها أن ندرك أننا أمام صياغة جديدة لعالم جديد مغاير تماماً لعالم ما قبل العولمة. بل إننا أمام صياغة جديدة للأقاليم والأقطار، والمجموعات الثقافية، وحتى المهنية. وبقدر ما يتوحد العالم اليوم حول قواسم مشتركة جديدة، فإن المجتمعات، كوحدات تاريخية وثقافية، تتجزأ وتتفتت وتتحول إلى قبائل صغيرة ثانوية، ثقافية ومعرفية ومهنية. ففضلاً عما يشهده من محاولات لإعادة هيكلة الهويات ثقافياً، فهو يدشن تحالفات مهنية مستقبلية ثورية.
وبقدر ما تنشأ ثقافة متشابهة، بفعل تقنيات الاتصال، فإنه، في الوقت ذاته ينشأ تنوع في الفنون والثقافات والتعليم وخيارات الاستهلاك. وبقدر ما ترتفع وتيرة حرية الاختيار، فإنه، في الوقت نفسه، وبفعل تقنيات الاتصال ذاتها، سيطبع زمننا هذا بالفردية، فيكون الإنسان منغلقاً عن محيطه منفتحاً على علاقات أو ثقافات نائية.
الثقافة تتغير بطبيعية الحال، إذْ يتم الانتقال من ثقافة ذات معايير محددة بوضوح وتراتبية إلى ثقافة تسقط فيها الأفكار، الصور والرموز، في دوامة حقيقية. والفرد ينقّب عبر مختلف العناصر ليكوِّن فسيفساءه أو ملصقاته الخاصة. والقيم المتعارف عليها تكون في محل خلاف بل مجهولة. إذن البنية الاجتماعية بكاملها تتغير. ويعقب التجانس المميز لمجتمع الثورة الصناعية تنافر حضارة ما بعد الثورة الصناعية. وتعقيد النظام الجديد يتطلب بدوره تبادلاً متزايداً للمعلومات بين جميع وحداته، الشركات، الهيئات الحكومية، المستشفيات، الجمعيات وغيرها من المؤسسات، وما بين الأفراد أنفسهم أيضاً وبقدر ما يزيد تبادل المعلومات في تقريب فرص المنافع واستفزازها وحثها نحو مزيد من المكاسب، فهو يدفع إلى نشوء مزيد من فرص التمايز والتفرد والاختلاف.
يرى المفكر الفرنسي چون بودريار أن المجال الأرضي اليوم بات افتراضياً، مُرمّزاً وموضوعاً على الخرائط، وقد صار مقفلاً بفعل عولمته، بمعنى ما (أي لم يصبح سوقاً كونية للسلع فحسب، بل أيضاً للقيم والرموز والنماذج). وهو يعتبر أن وسائل الإعلام (والإعلام عموماً، وقد بات رقمياً) ارتقت بنفسها إلى مصاف الاستقلال الذاتي، وباتت هي المشكلة، بل مصدر المشكلة الذي يروج التصورات والأفكار عن الواقع، ويخلقه بمثابة فوق - واقع بعد أن ألغى الواقع أصلاً. الواقع اليوم هو واقع مُتوهَّم، افتراضي، وهو ينتقل، في أكثر في مقوماته، من الملموس إلى اللاملموس، من الصناعي إلى ما فوق الصناعي، أي المعلوماتية وتقنيات الاتصال.
ويقول بودريار في مكان آخر؛ سنخلق أوضاعاً مفارقة، ونماذج اصطناع، ومن ثم نبذل الجهود لصبغها بألوان الواقع والعادي والمعيش، وبإعادة ابتكار الواقع كتخيل، وذلك بالتحديد لأنه اختفى من حياتنا. إنها هلوسة بواقع ومعيش ومألوف، ولكنه واقع بُني مجدداً، بتفاصيل مقلقة لغرابتها أحياناً، بُني كمحمية حيوانية أو نباتية، ويُقدم بدقة شفافة، ولكنه في كل ذلك بلا مضمون ومنزوع الواقعية مسبقاً وفوق – واقعي.
لا بل إن الثورة التقنية، في الميديا والفن مثلاً، عملت على ترسيخ فكرة الافتراضي في الأشياء والأشكال والمعاني، وهي نقلتنا بسرعة هائلة إلى عالم ما بعد الحداثة، مسخرة بذلك كل المتاح من إمكاناتها من الرموز والأرقام والصور والتصورات، فأصبحنا نستعيض عن الحقيقي بـ الوهمي أو المتخيل الذي هو مثير أحياناً لقابلية الآخرين للغواية. والوهمي أو الافتراضي لا يخضع أحياناً لمرجعيات قائمة، وهو يفترض واقعه لمرات غير متناهية في فضاء غير محدود، أما في أحايين أخرى فالافتراضي يستنسخ الواقع، بذريعة المحافظة على الأصل، أو لعدم القدرة على الوصول إلى الحقيقي، فنستطيع أن تزور اللو?ر دون أن تذهب بالضرورة إلى باريس. هذا خليط من تسليع الثقافي وترويجه وإشاعته. وهو مزيج للميديا والفن والثقافة. كما تستطيع أن تفعل أشياء، أو تملك أشياء، دون أن تلمسها، أو تقترب منها، في عالم يتم فيه إجراء كل شيء عن بعد.
إنه مجتمع ما بعد الصناعة، أو ما بعد الحداثة، حيث انهيار الأرقام وسحقها، وحيث هندسة المعرفة، والمنزل الذكي (Smart Home) والمدن الآلية (Computerized Cities) والمقاهي الإلكترونية (Electronic Café) وطرق المعلومات السريعة وصناعة الأخلاق (Ethics Industry). إنه بعبارة أخرى مجتمع التكنولوچيا، حيث الأرقام والرموز بأنواعها، مع الصوت والنص والصورة، مع المكتوب والمنطوق، مع المحسوس وغير المحسوس، مع العقل والأسرار البيولوچية الدفينة، الوهمية والممكنة. وتنتشر أشياء هذه المعلومات من أدوات المطابخ إلى المفاعلات الذرية. إنها صناعات الأوهام التي تسعى لإقامة عوالم مصطنعة، مركبة، وغير واقعية، تبدو التكنولوچيا فيها مثل الماء والغذاء والهواء.
لا ريب في أن تكنولوچيا المعلومات، وهي التكنولوچيا الساحقة، إنما جاءت وليدة للتلاقي الخصب بين العديد من الروافد التي يقف على قمتها الكومبيوتر، ونظم الاتصال، وهندسة التحكم التلقائي. وهذه التكنولوچيا تختلف اختلافاً جوهرياً عن سابقاتها من التكنولوچيات الأخرى، ولهذا فهي تدفعها بشدة اليوم إلى خارج الحلبة لتأخذ مكانها، بل لتستأثر به وحدها، معلنة الزمن الذي يختلف عن كل الأزمنة.. زمن ما بعد الحداثة.
لقد أصبحت تكنولوچيا المعلومات، بالفعل، هي العامل الحاسم في تحديد مصير عالمنا هذا، دوله وأفراده. وهي لم تجر تغييراتها فقط في المجال الأقرب إلى مفهومها؛ سهولة تبادل المعلومات وسرعة تداولها، بل إنها أثرت، إلى جانب ذلك، على جميع عناصر الإنتاج الأخرى: الأرض، المواد الخام، التمويل الأسواق، التسليح، التسويق، وحتى العمالة نفسها. فالعمالة المطلوبة اليوم هي العمالة التي تفكر، وتطرح الأسئلة، وتتزود بالخبرة بانتظام، أي العمالة التي تعتمد على عقلها أكثر من اعتمادها على سواعدها المفتولة.
وكما فرضت تكنولوچيا المعلومات مستويات جديدة من العمالة، فقد أتاحت بالتالي خيارات متعددة من التعليم والتدريب. ولكي يكتمل الانسجام فقد طرحت هذه التكنولوچيا تصوراً مغايراً للمستهلك في مجتمع يختلف مزاجه عن المجتمع الآفل في العصر الصناعي الغابر، أو الذي سيصبح قريباً غابراً. فهو مستهلك متحير بين الخيارات، متغيِّر بين التفاصيل، يتخذ قراره ضمن إجراءات تكفل له في الغالب التكيف مع إيقاع الشروط الجديدة للتحديات الجديدة أيضاً.
المجتمع كله يتغير.. وصحيح أن معدل التغيير يتوقف على طبيعة التكنولوچيات المؤثرة وتفاعلها مع عناصر بيئتها الاجتماعية، ولكن المؤكد أننا اليوم بصدد ثورة تكنولوچية عارمة، وهي أحدثت وستحدث تغيرات حادة، بمعدلات متسارعة، لم يشهدها المجتمع الإنساني من قبل؛ وذلك على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والتربوية والثقافية والعسكرية. ويطرح بونيجي ماسودا، الياباني، في دراسته المستقبلية الشهيرة عن مجتمع المعلومات عام 2000م، تصوره عن تحول مجتمع اليابان إلى مجتمع مغاير بشدة، مغاير في أشكال تنظيماته ومؤسساته وصناعاته، وطبيعة سلعه وخدماته، وأدوار أفراده وحكامه، ونسق القيم، والمعايير التي تولد الغايات وتحكم العلاقات بين الأفراد والجماعات والمؤسسات داخل هذا المجتمع.
فالعالم يشهد، بالفعل، سلسلة من التحوّلات، تولّد معتقدات وقيماً مختلفة، كما تولد سلوكاً جديداً، على المستويين الفردي والجماعي، وإنه ليصح القول بأن حواجز تاريخية وثقافية راسخة ما تنفك تنهار أمام مرأى من الجميع بين مجتمعات وشعوب اليوم.
ولا يمكن فهم العولمة، من حيث هي تدويل الاقتصادات الوطنية، وتجديد الرأسمالية، وتقديم النظرة الليبرالية في الاقتصاد والسياسة.. لا يمكن فهم ذلك كله إلا بفهم ثورة المعرفة، وانفجار تكنولوچيا المعلومات والاتصال، إن هذه الثورة، وإن ذلك الانفجار، هما ما دفع ويدفع إلى عملية التدويل القسرية، وهما ما منح ويمنح هذه العولمة تجلياتها الملموسة في السياسة والثقافة والقانون والفنون وغيرها. فالعولمة والانفجار المعلوماتي هما حدثان متلازمان خلص عنهما، مُجتمعيْن، العالم الذي يبشرنا في كل يوم جديد بخيارات متنوعة للعيش والتبادل، كما يبشرنا بتأكيد أهمية الثروة التي، على عكس غيرها من الثروات، تتزايد وتتكاثر بمزيد من الاستهلاك، أي المعرفة.
وكما يقول ريشار فولك بأننا على طريق لم تتحدد بها مسارات العولمة نهائياً بعد، ولربّما كانت دول العالم على طريق عقد عالمي سيفرض نفسه قوة كبرى في القرن الواحد والعشرين، وسيلعب أدواراً بعيدة كل البعد عمّا لعبته الرأسمالية والاشتراكية، وما انبثق عنهما في القرن التاسع عشر والربع الأخير من القرن العشرين.. إننا حكماً على أبواب عالم جديد، وهل ما حدث من أزمة مالية عالمية عاصفة في العام 2008م الماضي هو مؤشر مهم يدفع للعكوف على فكرة تجديد الرأسمالية بعد أن أخذت تترنح، أو هي توشك، كما يرى البعض، أن تلقى ما لقيته الاشتراكية من قبل، عندما تهاوى، أمام دهشة الكثيرين، العملاق السو?ياتي.
ونستطيع أن نقول إن من أدرك هذه الحقيقة، ولم يتلكأ أو يتردد في القفز فوق صهوتها، استطاع أن يختصر سنوات طويلة من الكفاح من أجل اللحاق بعالم اليوم، الممعن في انطلاقته، وهو بغير جواد المعرفة لم يكن بمقدوره أن يحصل على ما حصل عليه، أو أن يحقق ما حققه في حل مشكلات أساسية كانت تعيق نموه وتقدمه. بل بدون هذا كانت تلك المشكلات ستتفاقم من حوله، فلا تزيده إلا ضعفاً وفقراً وتخلفاً. ولقد وَجَدَتْ دول متأخرة، كانت تتعاظم مشكلاتها السكانية، حلولها المثلى في القفز فوق صهوة المعرفة الجديدة، لتحرر نفسها من مشكلات كبرى ليس لها من حلول أخرى، ومن تلك الدول الصين والهند وكوريا وسنغافورة وماليزيا وغيرها.
سيغربل مجتمع المعرفة الجديد هذا العالم غربلة تعيد فرزه في صورة طبقات جديدة، وتكتلات جديدة، وموازين قوى جديدة، لتتهاوى من ثقوب الغربال تلك الكيانات الضعيفة أو غير الصامدة. وسيكون في مقدمة تلك الكيانات الدول العربية الضعيفة، بطبيعة الحال.
لقد جاءت التكنولوچيات الجديدة لتؤكد، فعلاً، ما بشرت به العولمة في تجلياتها الكبرى، من نهاية الجغرافيا، أو موتها، وبالتالي لتعلن الخلاص من محددات السجون والحدود التي طبعت الكرة الأرضية. فالجميع يحاور الجميع، والجميع يرسل ويستقبل، ويعقد الصفقات، ويبرم الاتفاقات، ويتبادل المعرفة، مع الجميع أيضاً. فأضحت هكذا التكنولوچيات الجديدة، ولاسيما الإنترنت، هي غزو العقول، وتكييف المنطق، وتوجيه الجمال، وصنع الأذواق، وقولبة السلوك، وترسيخ قيم عالمية جديدة. إنها هي التي تنقلنا من القبيلة الضيقة إلى القبيلة البشرية الكبرى، وتمنحنا الثقافة السريعة. وهي تجعل بمتناولنا المعارض السريعة، والفن، والرسم، والموسيقى، وهي الملاذ الوحيد الواسع لديمقراطية المعرفة في الأمكنة والأزمنة كلها ومن دون أي قيود. إن هذه المعرفة، بفضل التقنية، متاحة للضعفاء مثل الأقوياء، وللفقراء مثل الأغنياء، وللمغلوبين مثل الغالبين، وللمقهورين مثل المستبدين. فهي، بإشاعاتها المعرفة، حققت أهم ما يتوخاه مشروع الديمقراطية: العدل والمساواة. وأصبح الإشكال كله منحصراً في سؤال واحد؛ هل الجميع أحسنوا استغلال هذا الذي جرى ويجري؟
إن الإنترنت، أسرع الوسائل الاتصالية في هذه العولمة، تظهر أهميتها وفاعليتها من خلال حركة القطيع الإلكتروني الذي يتدفق معلومات ومعرفة خالقة بذلك حضارة عالمية واحدة.
إن وجهاً من وجوه أثر الإنترنت هو انحسار نخبوية الثقافة، أو نهاية ديكتاتورية المثقفين، ووصايتهم، ومنح أنفسهم الحق دون غيرهم في التصرف والإملاء والادعاء. فالمعلومات اليوم، في سيرها وانتقالها، سلسة وانسيابية. ثم إن كفاءة الأداء الكلي للمجتمع تقاس بمدى شفافيته المعلوماتية، أي مدى فاعلية التواصل المعلوماتي بين مؤسساته وأفراده، ونوعية الخطابات التي تسري فيه، وسرعة انسيابها. والمعرفة في مجتمع ما بعد الحداثة، كما يتصورها ليوتار، لا تعد معرفة إلا إذا صيغت في صورة تسمح بتداولها من خلال الوسائل المعلوماتية الحديثة. وبغير ذلك فهي ليست معرفة، فكأن مفهوم المعرفة يكتسب هكذا بعداً دلالياً جديداً وهو البعد الاتصالي الإشاعي المجتمعي، فالتقنية وسعت من مفهوم المعرفة، وهي أضافت إليه شرطاً وجودياً هو أن يكون من السهل تداول المعلومات وانتقالها بين الأفراد والمؤسسات.
إن ما حققته تكنولوچيا المعلومات، في المجمل، على المستوى الثقافي تحديداً هو أنها أضحت معول هدم مطلوب ومرغوب فيه، وفق مزاج العالم الذي تتشكل ملامحه في كل لحظة، وتكون مهمته هي إزاحة الحواجز الفاصلة بين فروع المعرفة ومناهجها. ولقد أحدث ذلك المعول في حواجز فروع المعرفة ما أحدثته العولمة ذاتها في حواجز الجغرافيا، والسيادات القومية. فقد ساعد على ظهور توليفات علمية ومنهجية مستحدثة، لتبرز إلى السطح إشكاليات غير مسبوقة، تستحث المفكر على توليد الجديد، وإعادة طرح القديم. لقد دفعت تكنولوچيا المعلومات بالمعرفة الإنسانية، من خلال التلاقح العلمي، واقتراض المناهج، إلى مشارف جديدة لم تكن في الحسبان، فقربت، كما يقول بعض الباحثين، المسافات بين موضوعات عديدة على الخريطة العلمية الشاملة كانت تبدو أشد ما تكون بعداً. وإن الامتزاج العلمي والمنهجي الذي ساعدت عليه تكنولوچيا المعلومات سيخلّص علوم الإنسانيات من طبيعتها الوصفية والسردية، وسيدخلها إلى مصاف العلوم المنضبطة، وذلك بعد أن سبقتها إلى ذلك ركيزتها الأولى، وهي اللسانيات. هذه هي هيكلة جديدة لفروع المعرفة، فإن مشروع إلغاء الحدود، جغرافياً، وتوهين السيادات القومية، سياسياً، انسحب هكذا على البنيات التقليدية الراسخة لفروع المعرفة، فتداخلت المناهج، وتنوعت فرص الاستعارة، والدمج، والخلط، والتوليد، وأصبحنا نقف على أبواب مفاهيم ومناهج جديدة، ليس لها إلا أن تكون مصدراً للثراء المعرفي والغنى الثقافي.
أما على المستوى الإعلامي، فما من شك في أن الثورة الهائلة التي شهدها مجال تقنية المعلومات، وتقنيات الاتصال، اقتضت ظهور قيم جديدة في مجالات تبادل المعلومات وتداولها؛ وهي تؤكد، من جهتها، تحقق ديمقراطية الوصول إلى المعلومات، على مستوى الإعلام، وإنتاجها، وإعادة إنتاجها. فلم تعد مسألة التصرف بالمعلومات ملتصقة بالنخبة، موت النخبة، بل إن الجميع يتصرفون بها، وهم يرسلونها ويستقبلونها، أو يستهلكونها ويعيدون تصديرها، بالمقدار نفسه من فرص اليسر والسهولة.
ويمكن، في هذا السياق المنذر بتدفق معلوماتي ومعرفي واتصالي هائل، متابعة مدونات سياسية وتكنولوچية واجتماعيّة وسياحية وتعليمية وترفيهية وموسيقية وفلسفية وصحية وأدبية ورياضية، ومدونات حول الأزياء والأفلام والسيارات والألعاب الالكترونية، بالإضافة إلى المدوّنات المتخصصة في نشر الاعلانات. ويمكن أن تكون المدوّنات خاصة أو عامة، أو مرتبطة بالشركات، وذلك لتطوير مستوى أداء الموظفين عن طريق جعلهم يتبادلون الخبرات عبر الموقع الإليكتروني. وهناك مدوّنات خاصة بشركات للعلاقات العامة والتسويق، بل يوجد مواقع خاصة بصناعة المدونات نفسها. وقد تطوّرت الأدوات التي تسمح للأفراد بالتدوين، لدرجة أصبح فيها التدوين ممكنا وسهلاً لأي شخص يريد ذلك، وأصبح بالإمكان التدوين مباشرة من متصفح الانترنت، أو من خلال برامج تحرير النصوص، مثل مايكروسوفت وورد، وحتى من الهواتف الجوالة.
وهناك الملايين من المدونات الإلكترونية. ونظراً لانتشار هذه الظاهرة فقد ظهرت محركات بحث خاصة بها وهو محرك تكنوكراتي.
لقد تحققت الديمقراطية المعلوماتية، فهي هنا شأن عام، يصنعه الجميع، ويصل إليه الجميع. كما تحقق النمو الأفقي للثقافة، فهي لم تعد حكراً على النخبة إنتاجاً أو استهلاكاً.
إن نمو المعلومات أضحى، في منظومة مدركات الاتصال الجديدة، أفقياً، فهو لم يعد، كما السابق، يأتي فقط من الأعلى إلى الأسفل، بل إنه يتوالد ويتكاثر من الجوانب والأطراف. وهذا كله أحدث انقلاباً هائلاً في الصناعات الاتصالية نفسها، وفي وسائلها وتقاليدها، وبطبيعة الحال في لغتها. وبما أن الصحافة الإلكترونية هي إحدى الصناعات الاتصالية الجديدة، فهي تنسف، كما نلاحظ، كل ما ألفناه في الوسائل الصحفية التقليدية، شكلاً وأداء. فمن حيث الشكل هي ليست ورقية بطبيعة الحال، وهي تقدم طرقاً مختلفة في عرض المعلومات، وهي تدفع نحو المستهلك أدوات مختلفة للتصفح. أما من حيث المضمون فهي أيضاً، على خلاف الصحافة التقليدية، في نمو متواصل في كل لحظة، فالتغطية الخبرية يمكن أن تتم تغذيتها بالمستجدات دون توقف، كما أن الخبر نفسه أضحى عرضة للموت في أي لحظة بسبب المستجدات ذاتها. أما السرعة في هذا كله فقد قفزت فوق كل حواجز اللغة، وفوق كل الممنوعات الثقافية، وقد عرفت تلك الحواجز والممنوعات، فيما سبق، بالصرامة والتدقيق والحدة، والمتطلبات الشروطية المتعلقة بما يسمى بالمهنية أو الحرفية، مما كان له أبلغ الصلة بالضوابط والمحددات التي تميز المحترفين عن الهواة والدخلاء.
وهذا هو ما يفسر الخوف الذي يسري داخل الغرف الإخبارية في الصحف العالمية الكبرى من أن الشبكة العنكبوتية، بتركيزها على المنافسة في سرعة النقل، قد تقوض من قيم الصحافة المطبوعة، التي تركز كثيراً على الدقة والأسلوب والمضمون.
وكتب لاندمان في بيان نشرته بابلك إديتورز چورنال؛ بالطبع يزيد العمل السريع من احتمال الخطأ، وهذا بالتأكيد خطر يجب الاعتراف به، والتعامل معه بحرص. ولكن الحرص على الأسلوب واللغة ليس هو القيمة الوحيدة التي ينبغي الإذعان لها، ولو كان الوضع كذلك، لقمنا، منذ وقت طويل، بهجر الصحف اليومية والأسبوعية والمجلات، وتحولنا إلى جرائد الأكاديميين. السرعة أيضاً لها قيمتها، فالسرعة تعني وصول المعلومة إلى المواطنين في الوقت الذي يريدونه وعندما يحتاجون إليها.
لقد نقلت التكنولوچيا الجديدة الصراع بين الوسائل إلى ساحات أخرى، فهي لم تعد محصورة كالسابق بين الصحافة الورقية والتليفزيون في شكلهما التقليديين، فقد توسعت الساحات ذاتها، ودخلها عناصر جديدة غيرت تماماً من طبيعة الصراع ووسائله.
ويعد النص الإلكتروني، الخبر أو القصة الخبرية، نصاً مفتوحاً، ومن الممكن أن يمتد ليضيف معلومات تاريخية وعلمية، عن طريق الروابط مثلاً، بل يمكن لكاتب النص أن يخدم الحدث عبر كل فروع المعرفة. كما قد يدعم النص الإلكتروني بمواد بصرية وسمعية، ويمكن استخدام برنامج غوغل إيرث للمساعدة في خدمة الحدث في مكان معين يراه القارئ أمامه رأي العين. هذا فضلاً عن أن النص الالكتروني يبقى نصاً نشيطاً ومتفاعلاً طوال الوقت، أما النصف المطبوع فمغلق ينتهي بنهاية آخر كلمة في التقرير.
وتقدم صحيفة نيويورك تايمز للقراء خبرة تتميز بالثراء على شبكة الإنترنت. فالإضافة إلى النص المكتوب، هناك مقاطع ?يديو وأخرى صوتية، وأساس هذا كله هو النطاق والعمق والاستشهاد الذي تتميز به كتابة التقارير على صحيفة نيويورك تايمز.
والهاتف الذكي اليوم دليل على ما تسخره التقنية من خدمات جديدة تضمن السرعة والتحديث المتواصل للمعلومات. فيسجل الصحفي، الذي من الممكن أن يكون اليوم أي أحد، المعلومات على هاتفه، ثم يرسلها في كل دقيقة أو دقيقتين عن طريق الاتصال بالإنترنت لاسلكياً. وهذا ما سهّل على الكثيرين أن يصبحوا مراسلين في بث حي مباشر عبر المدونات.
ونحن نتذكر أشهر سبق صحفي خلال العام 2006م، فقد كان تصوير الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لحظة إعدامه بكاميرا الهاتف الجوال. وهناك أحداث عديدة وكوارث صورت بنفس الطريقة. وهذه التقنية هي التي فضحت صانعها ومبدعها في سجن أبو غريب وفي المعتقل الشهير في غوانتانامو.
وكان لافتاً التعاون بين قناة سي إن إن الإخبارية وموقع الـ فيس بوك لتغطية فعاليات تنصيب الرئيس الأمريكي باراك أوباما.. وبعد ساعة من تنصيب أوباما، كان هناك أكثر من 139 ألف تعليق من المراقبين للتنصيب على صفحة الـ فيس بوك الخاصة بقناة سي إن إن بعد أن سجل 25 مليوناً من مستخدمي الموقع انضمامهم إلى صفحة سي إن إن على الموقع.
لقد بدأت المساحات المخصصة للقارئ تزداد بصورة كبيرة، منذ ظهور الصحف الإلكترونية والمواقع الإلكترونية للصحف المطبوعة، بل إنها تطغى على مساحات المحررين، وتحول القارئ إلى شريك ومتلق إيجابي. وقد تحققت ثقافة تشجع علاقة أكبر مع القراء، خاصة وغير رسمية.
وكما غيرت التقنية العادات التي درج عليها أهل الصحافة (وغير أهلها) في كتابة أخبارهم، فقد غيرت عادات القراء في التعامل أو التفاعل مع تلك الأخبار. وإذ يتلاقى في الصحافة اليوم الصحافي والقارئ في فضاء صناعة الكتابة (الخبر) كلاهما يصنعانه وينقلانه، فإنه يتم هكذا تبادل السلطات بينهما أو هي تتداخل وتتكامل. ويتعامل المتلقي مع الوسيلة وكأنها وسيلته الخاصة، تمنحه سلطات جديدة، لم تكن تتيسر له في السابق، وهو يستطيع أن يمارسها عن طريق اشتراكه بالتحرير، فيصبح فاعلاً ومنفعلاً، فهو مراسل جديد يُقلق المراسل الأساسي، ويكمله أو يدحضه.
صاغ الفيلسوف الألماني هايبرماس نظرية رصينة اسمها المجال العام public sphere تؤكد أن وسائل الاعلام الجديدة الالكترونية، كما هو مشترط، تخلق حالة من الجدل بين الجمهور تتيح، من خلاله، تأثيراً كبيراً في القضايا العامة، وهو يؤثر على النخبة والنخبة الحاكمة والجمهور.
فلم تعد علاقة القارئ بالصحيفة تقتصر على اتصاله بها عبر بريد القراء في شكله التقليدي. إذ سطا البريد اليوم على كل الصفحات، وهو لم يعد محبوساً في ركن منفصل. فتعليقات القراء تكتب مباشرة تحت المادة المكتوبة من قبل المحرر. والشكل الجديد لبريد القراء لم يتح له فقط التمرد على حبسه في مكان ثابت في الصحيفة، بل كان أيضاً سبباً في تفاعلية القارئ المحرر أو الكاتب فيرد بنفسه على تعليقات القراء على قصته الصحافية أو مقاله. كما أتاح للصحيفة عنصر المصداقية خاصة مع النشر المباشر لآراء القراء.
إن وفرة رسائل القراء ومشاركاتهم، تتيح روافد للقضايا والأحداث والأفكار التي تغطيها الصحيفة، وقد أتاحت التكنولوچيا زيادة ملحوظة ومعتبرة في هذه الروافد. كما كانت سبباً في زيادة اكتشاف صحافيين لديهم الموهبة الصحافية التي تمكنهم، بمزيد من الصقل، أن يصبحوا صحافيين محترفين. ومن جهة أخرى، فقد اضطرت بعض المواقع الإخبارية الشهيرة إلى أن تتيح للقراء أن يرسلوا قصصاً إخبارية، وهو ما يعرف بصحافة الجمهور Public Journalism وبناء على ذلك يرسل القراء مئات الآلاف من القصص الإخبارية تتم فلترتها في مقر الصحيفة وينشر منها عشرات القصص.
وهكذا ظهر مصطلح القارئ المحرر. فالرسالة الإعلامية اليوم هي مشروع شراكة بين القارئ والمحرر، وهو ما أنتج الصحافة المواطنة Citizen Journalism ويقصد بها نوع من الصحافة التي يتيح لأي مواطن أن يقدم معلومات للغير.
في ظل الاجتياحات التقنية الهائلة هناك أيضاً إرهاصات بموت الكتاب التقليدي في زمن الكتابة الإلكترونية، أي بعد ولادة النبع الإلكتروني الذي لا ينضب. وقد لا يموت الكتاب الورقي كلياً في الوقت القريب على الأقل، ولكنه لن يكون في مأمن من أضرار بالغة تنتظره أمام هذا النبع الذي وَضَع تحت تصرفنا، من جهة ثانية، مكتبات جوالة زهيدة الأثمان. فبعد مرور أكثر من 5 قرون على طرح جوهانس غوتنبرغ أوّل كتاب مطبوع في العالم، أصبح بإمكان أي أحد اليوم حمل مكتبته معه في حقيبته أثناء السفر. ذلك أن شركة أمازون Amazon الإلكترونية طرحت جهاز كيندل Kindle المحمول الذي يستطيع قراءة الكتب والجرائد والمجلات الإلكترونية وتحميلها بشكل آلي من موقع الشركة.
وتبلغ أبعاد جهاز كيندل 19.1 × 13.5 × 1.8 سنتيمتر، ويبلغ وزنه حوالي 292 غراماً، ويبلغ سعره 399 دولاراً أمريكياً. ويمكن لفئات مختلفة من المستخدمين الاستفادة منه، مثل المسافرين من العلماء والأطباء والعمال التقنيين الذين يريدون مراجع سريعة (وخفيفة الوزن) أينما ذهبوا.
ولقد ظهر اليوم، في العالم، ما يسمى بـالناشرون الجدد وهم متفائلون بمستقبل نشاطهم، ويرون فيه خدمة للمبدعين الشباب الذين يئسوا من محاولات اقتحام قلاع شركات النشر التقليدية. وكثيرون يرون أن المستقبل لا محالة الآن هو للثقافة الرقمية، حيث أن معظم المنتجات الثقافية أصبحت تسوق الآن عن طريق شبكة الإنترنت، خاصة فيما يتصل بالكتب. لقد انتهى دور الناشر التقليدي الذي يمارس دور المستغل البشع للكاتب، وفي الوقت ذاته دور الوصي على القارئ. والناس لم يعودوا الآن يفارقون الحاسوب، الذي كفاهم انتظار ما ينعم به الناشرون عليهم، كما كفاهم أعباء التردد على المكتبات بحثاً عن الجديد. هذا فضلاً عن قلة ما ينفقون في هذه السبيل، فثقافة الكتاب الإلكتروني متوفرة لكل الناس، وهي ليست مقتصرة على المقتدرين فقط، فالجميع يصل إليها بسهولة وسرعة لم تكن في الحسبان. فلم يكن الهدف هو فقط إزاحة الكتب الورقية من مواقعها، أو إزالتها من بين أيدي المستخدمين، بل هو أيضاً وضع جهاز إلكتروني سهل الاستخدام عوضاً عنها. فالحصول على الكتاب، أو الكتب، أصبح الآن مجرد نقرة تكون نتيجتها تحميل الكتاب الرقمي. وهذا ما يعيدنا إلى فكرة ديمقراطية المعرفة وشيوعها بين الجميع.
إن النبوءة بموت الكتاب الورقي لا تؤخذ هنا بحرفيتها، وإنما المقصود هو أن تناول المعرفة أصبح أكثر يسراً، من حيث الوقت، ومن حيث الثمن المادي. فإذا كان إنشاء المكتبة الخاصة يتطلب في السابق حيزاً من المكان، وقدراً من الاستطاعة المالية، وجهداً ووقتاً، فإن هذا كله لم يعد لازماً اليوم. وإذا كان هذا التطور قد يوحي، للوهلة الأولى، بتضاؤل مستقبل الصناعة الثقيلة للمعرفة والثقافة والفكر، فهو، في واقع الأمر، إنما يؤدي إلى ازدهار هذه الصناعة، إنتاجاً، فهي لم تعد تخضع لمزاج الناشرين والموزعين، كما يفضي هذا التطور إلى سهولة استهلاكها، فهو يختصر الوقت، ويختزل الجهد والمال، وهي هكذا متاحة للجميع.
وكما قدمت أمازون أكثر من 90 ألف كتاب رقمي، حتى الآن، فقد قدمت أيضاً خيارات الاشتراك بالجرائد اليومية. ومن الجرائد الأمريكية المشهورة التي يمكن الاشتراك بخدماتها نيويورك تايمز و وول ستريت جورنال و واشنطن بوست. ومن الجرائد العالمية الأخرى؛ لوموند، وفرانكفورت الألمانية، والآيرش تايمز. أما بالنسبة للمجلات الإلكترونية فإن تايم وفوربس وأتلانتك مانثلي هي بعض منها.
في الوقت الذي تنذر فيه الثورة التقنية والاتصالية الجديدة بموت الكتاب في صورته التقليدية، فهي تدفع بفكرة التأليف نفسها إلى أن تكون في متناول الجميع (أفقية الثقافة وتغذيتها من الأطراف). وفي موازاة أن ينشئ كل من أراد صحيفته، أو نافذته الإلكترونية، على المستوى الإعلامي، يمكن لأي أحد اليوم أن يؤلف كتابه، وأن يجد بيسر وسهولة ناشره. (موت النخبة، فلم يعد التأليف هو شغل النخبة وحدهم) إن تأليف الكتاب لم يعد مشكلة، بغض النظر عن مدى توفر أدوات التأليف التقليدية اللازمة في المؤلف الراهن من عدمها. بل إن أدوات التأليف في مجملها أصبحت أقل صرامة وأقل حدة، (يحدث هنا ما حدث للقيم الصحافية على المستوى الإعلامي). وقد أوجد شباب المؤلفين منافذ لهم للهرب من سطوة الناشرين أياً كان نوعهم، تقليديين أو إلكترونيين، فأخذوا ينشرون إنتاجهم بأنفسهم، وهم اتخذوا هذه الخطوة للهرب من سطوة القراء التقليديين أيضاً، القراء الذين تعودوا على الخطابات المقفلة، المحصنة، التي يتم التعامل معها بشيء من القدسية، فهي دائماً الإلهامات التي لا تتوفر لأي أحد، فهي مقتصرة على الموهوبين والمدججين بالشهادات العليا، أو الإجازات التي لا يطالها سوى فئة محدودة من بني البشر!..
لقد تهاوت تقاليد وقيم كثيرة في صناعة الثقافة، وفي التعامل مع مصادرها، وفي مواصفات القائمين عليها إنتاجاً وتصديراً. فهي أضحت بلا حيطان، فيسهل اختراقها من الأطراف وهي لم تعد بتلك الوعورة فيسهم في خلقها وإنتاجها الجميع. (أفقية الثقافة).
وفي خطوة لدعم اللغة العربية على الإنترنت، دشنت مبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز للمحتوى العربي على الإنترنت. وهي تشرك طلاب جامعة الملك سعود وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن للكتابة والمشاركة داخل وحدة المعرفة نول وكل طالب يكتب حسب تخصصه. وهناك نية للتوسع في تغذية هذا المشروع على مستوى وزارة التربية والتعليم، لضمان مشاركة مئات الآلاف من التلاميذ. وتتم هذه المبادرة بالتعاون مع جوجل. وجاءت هذه المنافسة لتمكين جميع شرائح السعوديين من التعامل مع المعلومات بيسر وسهولة.
وقد لوحظ في أكثر من مكان أن هناك شباباً يطرحون مشروعاتهم في التأليف على الشبكة العنكبوتية بتلقائية، وبلا رتوش، بل إن بعضهم يدعون الناس والقراء إلى إبداء الرأي والمشاركة، فإذا بالمؤلف يصبح هو نفسه الناشر، بل إنه يجعل من عمله نصاً مفتوحاً، لا يكتبه هو وحده، بل يشترك معه في هذا الإنجاز آخرون. وهذا يذكرنا بما كنا نتحدث عنه في مكان سابق مما حلّ بمشروع المدونات والصحافة الإلكترونية. فإذا كان القارئ هناك يشارك ويتفاعل، بل يمكنه أن يقوم بدور الصحافي، فإن الحال مشابهة هنا، إذ قد يصبح قارئ النص هو أحد مؤلفيه. وفي كل مكان هناك اليوم مشروعات كثيرة من هذا النوع. وقد قرأنا عن مثل ذلك في المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال. ونذكر، في هذا الصدد، بما نشر في بعض الصحف السعودية مؤخراً حول مشروع حكاية إلكترونية على الإنترنت بعنوان ذيك السنة، وهي تتحدث عن طقاقة تحولت إلى داعية، وقد أسمت نفسها شادية عسكر. وهي تثقفت على يد رجل كان يهديها كتباً وروايات، وكانت تتمنى وقتها أن تكون شيوعية، ولكن المطاف انتهى بها إلى أن أصبحت داعية.
ويرى بعض من تصدى بالنقد لهذه الحكاية أن لغتها كانت أقرب إلى اللغة الشفوية، أي أن أحداً كان يحكي الأحداث، وأن هناك من كان يقوم بالتدوين، دون تدخل ملحوظ، أي بما هو وفق شروط المكتوب المختلف طبعاً عن المنطوق. وفي مثل هذه الأعمال، تثار مسألة التخفي والكتابة بأسماء مستعارة، وهو ما يعزى غالباً إلى حالات التردد عند من لم يكن بعد على درجة من الثقة في نجاح التجربة، ما يعني أن هذه التجارب هي في الغالب لمبتدئين، أو لأناس عاديين، وهذا لا ينفي عنها صفة التأثير، اجتماعياً وثقافياً. فقد وصل تعداد زوار إحدى الروايات الإلكترونية، في المملكة العربية السعودية أيضاً، إلى أكثر من 400,000 زائر، وهذا لم يحدث قط لأي رواية تنتمي إلى الصناعة التقليدية في الكتابة، مهما علا شأن كاتبها.
نحن المحافظون الذين اعتدنا على الثقافة الصارمة، يصيبنا اليوم الكثير من الهلع عندما نشاهد عن قرب بعض ملامح السقوط الشنيع لسلطان اللغة، على الرغم من أن الفجوة الرقمية، التي مازالت تلتهمنا، لم تتح لنا بعد أن ندرك الحجم الحقيقي لما سيأتي من تحديات. والسؤال هو؛ بعد ردم هذه الفجوة الرقمية، هل سنجد أنفسنا أقل محافظة؟! وهل سننظر إلى ما يجري من منطلق رياضي، ثوري، ليبرالي، وأنه من مستلزمات مقومات حياتنا الجديدة؟ أم أننا، على العكس، ستستفزنا الصدمة، وستحثنا على أن نكون أكثر محافظة من ذي قبل. وهل سيكون بيدنا أن نفعل ذلك؟ إن الإجابة على مثل هذا السؤال الآن قد تدخل في باب الأمنيات، ومنذ متى كانت الأمنيات محايدة وموضوعية.
إن مجتمع المعلومات يطرح قيماً ومفاهيم وأساليب جديدة، ويفرض على أفراده تحديات قاسية، ويعيد النظر في المسلمات المستقرة، وينذر بصراعات جديدة، ويثير قضايا فلسفية تتعلق بالإنسان في مواجهة الآلية، ويبرز أهمية المعرفة والثقافة واللغة.
ولا مفر، فهذا هو عالمنا الجديد الذي انهارت فيه الحواجز، وذابت من أجله الفواصل، وتوسعت بسببه هوامش المشتركات، وبالمقابل تفتتت فيه الجماعات، وتجزأت الثقافات في داخلها، وسقطت الحرية في اللاحرية، وأصبح الفرد أسير فرديته، يعمل على تكوين فسيفسائه الثقافية والاجتماعية وحده. فنشأت عادات استهلاكية وثقافية جديدة، واندحرت فكرة الحصون والقلاع، والنخب والإملاء والإدعاء، وبالتالي الثقافة التي تنصب من فوق إلى تحت. ولسنا مطالبين بالامتثال لتحديات هذا العالم القاسية، ولا بإعادة النظر في كل مسلماتنا المستقرة، فهذه أمور تتعلق بطبيعة البنى الفكرية والعقدية لكل مجتمع، لكننا بالمقابل مطالبون بأن ندرك بأن الالتقاء مع مجتمع المعرفة اليوم أضحى أمراً في غاية الأهمية لمستقبلنا ومستقبل اقتصادنا، ومستقبل قوتنا في مفهومها الكلي. ولابد أن نوازن بمنطقية وعقل وحكمة بين أن نكون جزءاً من عالمنا المعاصر وأن تكون خسائرنا في حدها الأدنى، أو لا نتكبد أي خسائر البتة.
وما لم نتصرف بمنهجية وموضوعية؛ فإن هذا الموج الهائل سيعصف بنا، وقد يدمرنا، أو يضعنا في موقع أدنى من موقعنا الحالي. والذي يبدو للوهلة الأولى أننا ننضوي ضمن إحدى حالتين؛ الأولى، هي عدم الوعي الكامل بأهمية وخطورة ما يجري، فلا نؤمن بحقيقة ظهور مجتمع المعرفة الجديد الذي هو مجتمع القرن الجديد، والذي على محكه ستتساقط الحبات المريضة من فتحات الغربال الذي سيهز العالم هزاً. وكل ما نظنه؛ هو أن منتجات المجتمع الجديد هذا ما هي سوى تقليعات عابرة أتت بسرعة وستذهب بسرعة، كما هو الحال دائماً مع مثل هذه الموجات. أما الحالة الثانية: فهي تشبه ردة فعل العاجزين، إذ تعتمد، في الغالب، على المقاومة والتحشيد، فالأهم هو قفل الأبواب والنوافذ، وزرع الأسلاك الشائكة والألغام حول الحدود، والتفكير الجاد في إشادة سقف منيع يحجب ما يمكن أن يهبط إلينا من فوق، من السماء، فهي سماء لا تمطر إلاّ أفكاراً ورموزاً وصوراً ومتصورات.. وجنس.
إن نزعة الهروب للداخل هي نزعة الجهلاء والجبناء، وهم يعتقدون أنها خير وسيلة لهم للدفاع عن أنفسهم، (...) إنها محاولات يائسة للهرب، ولن تجدي كثيراً؛ فهي من باب قولهم: يمكنك الهروب ولكن لن يمكنك الاختفاء. إن الهروب تخل وضعف واستسلام، وتقوية للخصوم، وثمن هذا الهروب أكبر من ثمن المواجهة في ميدان العمل العالمي وبدلاً من أن تغلق على رأسك المنافذ افتحها للشمس وللتحدي. وإذا كانت العزلة هي للشعور بالضعف، فالانفتاح ثمرة للشعور بالقوة والعزة، فمن شعر بالضعف توارى واختلق كل المعاذير التي تبرر له أن ينطوي على نفسه، وسيملك كل يوم عذراً، والعذر القادم أقوى من سابقه. وإن العلاقة الواسعة بالعالم ليست خسارة إلا للمفلسين من الأفكار والأخلاق والمعرفة والمغامرة، أو للمضطربين والقانطين واليائسين. كما أن أسلحة المعلومات هي مستويات تساعد الأمم الصغيرة ضد الكبيرة، وتنحاز إلى المدافع ضد الغازي.
نحن في حاجة إلى إعادة بناء أو ترميم تصوراتنا حول مستقبل العالم، وحول مستقبلنا فيه. إن النظر في مثل هذه المسألة الشائكة من خلال الأنساق المعرفية والمنهجية التقليدية لن يؤدي إلى أي نتيجة مفيدة، فينبغي البدء بامتلاك الأدوات اللازمة التي تساعد على تفكيك بنية المجتمع الجديد المعقدة، ثم الشروع في الاستحواذ على الذرائع الموصلة إلى ما هو، بالضرورة، حقنا في المواكبة والاكتشاف.
إن المواعظ والخطب والنياحات ليست أيضاً الطريقة المثلى لمواجهة التحديات، فالمواجهة تحتاج إلى إعداد الأجيال، وتحصينها، وتسليحها بالعلم والمعرفة.. وتلك لعمري قصة أخرى تحتاج إلى أحاديث أخرى.. قد لا تنتهي.
رئيس مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام- الرياض.
محاضرة ألقيت ضمن نشاط «منبر الحوار» في النادي الأدبي بالرياض، (4 أبريل 2009م). بتصرف.