كتبه ياسر برهامي
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما بعد،
قول النبي صلى الله عليه وسلم: )وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك واليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، استغفرك وأتوب إليك).
في قوله عليه الصلاة والسلام (لبيك وسعديك) قلنا أن هذه التلبية فيها إجابة لأمر الله عز وجل، فيستشعر العبد أن الله عز وجل قد ناداه وأراده وأخلصه له، فهو يجيب ربه إجابة بعد إجابة وهو مقيم على طاعته مستمر في عبادته والخضوع له، وشرعنا في ذكر الأبيات الجميلة للإمام ابن القيم، قال:
فما كل عين بالحبيب قريرة
ولا كل من نودي يجيب المناديا
ومن لم يجب داعي هداك فخلـِّه
يجب كل من أضحى إلى الغي داعيا
وقل للعيون الرُمَّدِ إياكِ أن ترِي
سنا الشمسِ فاستغشِ ظلام اللياليا
وسامح نفوسا لم يهبها لحبهم
ودعها وما اختارت ولا تك جافيا
وقل للذي قد غاب يكفي عقوبة
مغيبك عن ذا الشأن لو كنت واعيا
ووالله لو أضحى نصيبك وافرا
رحمت عدوا حاسدا لك قاليا
ثم يقول ابن القيم:
ألم تر آثار القطيعة قد بدت
على حاله فارحمه إن كنت راثيا
ألا ترى آثار المعاصي والذنوب والكفر والنفاق، والانقطاع عن الله وعن أمره وعن العمل بشرعه، ألا تراها ظاهرة على وجوه الكفرة والظلمة والفسقة وعلى أحوالهم كلها، ألا ترى كيف يقضون أوقاتهم في النكد والعذاب، لا يجدون راحة إلا بغياب عقولهم بالسكر بالخمر والمخدرات، والسكر بالشهوات حتى ينسوا ما هم فيه من البلاء. إن هذه القطيعة التي بينهم وبين الله عز وجل يظهر لها أثر يراه كل مؤمن في وجوههم، فإن للمعصية ظلمة في الوجه وضيقا في الرزق وبغضا في قلوب الخلق، فالمؤمن يرى آثار الظلمة كما أنه يرى آثار النور كما قال الله عز وجل(سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) فالطاعات لها آثار في الوجوه والأحوال.
لذلك تجد عامة شعوب الأرض لا تستغني عن الخمر، ووقع في روسيا منذ فترة أن الحكومة لم تجد ما يكفى المرتبات للموظفين، فعرضت أن يأخذوا بقيمتها عبوات من المناديل الورقية، فتظاهر الناس رافضين، فأعطتهم بقيمتها الفودكا وهى الخمر الروسية، وهذه هي التي أسكتت الناس لأنها لازمة لهم في الحانات وعلى موائدهم، والعياذ بالله. وفي المشارق والمغارب تجد المخدرات منتشرة في البيئات المليئة بالمنكر والفساد، فلو كانت حياة الفرد عندهم سعيدة فلماذا يريد أن يغيب عقله؟، لماذا يريد ألا يشعر بما هو فيه؟، لا رد، إلا أنه يريد الهروب من واقعه إلى الخيال بالخمر والمخدرات، أو أن يشاهد التلفزيون والأفلام وأوهامها الخيالية، والعياذ بالله، كل هذا من آثار القطيعة، ولو أنه أتصل بأمر الله لكان بينه وبين الله عز وجل صلة كصلاة وزكاة وصوم، ولما شعر بهذا الألم، فهؤلاء جديرون بالشفقة والرثاء.
خفافيش أعشاها النهار بضوئه
ولائمها قطع من الليل بادية
هؤلاء الظلمة وأهل البدع والضلال مثل الخفافيش التي يعميها ضوء النهار، فالخفاش عندما يظهر النور لا يتحمل ولابد أن يعيش في الظلام، فهم أعماهم ضوء النهار أي نور الوحي المنزل، إذا ظهر تألموا، فعندما وجدوا البشر قد ساروا على طريق العبودية تألموا ومكروا ليبعدوا الناس عن دين الله عز وجل، هؤلاء -والله- منهم العلمانيون المنافقون الذين يكادون يموتون كمدا حين يرون ظهور الإسلام وعودة الناس إليه، ومنهم اليهود والنصارى والمشركون وأذنابهم من أعداء الدين، فلا يلائمهم ولا يناسبهم إلا فترات الظلام فترات غياب ظهور الشريعة عن الأرض، وهيهات لهم فلا يزال الله يظهر الحق ويعلي الدين(أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ)الأنبياء44.
هؤلاء المجرمون يجولون ويصولون ويمرحون بباطلهم في فترات انتصار الباطل المؤقت، والذي قدّره الله وليس من صنعهم هم، هم يعتقدون أنهم انتصروا لكن الحقيقة أن ربنا قدّر فترات الظلمة فكما أن هناك ليل ونهار، فهناك فترات ينتصر الباطل وينتشر ويأتي النهار بعد ذلك، وقدّر الله وجود الظلام وفترة انتصار الباطل امتحانا لعباده المؤمنين ليعبدوه في فترة الإحراق قبل أن تأتي مدة الإشراق، فكما أن الليل والنهار من خلق الله فالاستضعاف والتمكين ومداولة الأيام بين الناس هي من أفعاله سبحانه، وإنما يصول أهل الكفر والظلم في الظلام ويظنون أنهم هم الذين صنعوا الظلام ومنعوا ظهور الإسلام وليس ذلك – والله- في قدرتهم (يُرِيدُونَ أَن يطفئوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوكَرِهَ الْكَافِرُونَ )التوبة32 ، (هُو الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)التوبة33، فسوف يطلع النهار وسوف يشرق النور، نور الدين الحق ولوكره الكافرون، وعند ذلك ستختفي الخفافيش وتتوارى.وإنما قدّر الله ذلك ليعلم من يجيبه في فترة الإظلام ويسير إليه سبحانه رغم الظلمة، وإلا فعند ظهور نور الشمس يستيقظ كل الناس، ولكن من الذي سبق؟، الذي سار بالدجى والتزم بطاعة الله في فترة الظلمة (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل)
فيا محنة الحسناء تهدى إلى امرئ
ضرير عنين من الوجد خاليا
إذا ظلمة الليل انجلت بضيائها
يعود لعينيه ظلاما كما هي
انظر إلى أحوال الكافر والمبتدع قد غرق في شهوات نفسه البهيمية والإبليسية، شهوات بهيمية كالأكل والشرب والنكاح وشهوات إبليسية كشهوة الكبر والعجب والعلو في الأرض والرياسة والملك والجاه وإذلال الناس،انظر إليه حين يشبهه ابن القيم رحمه الله إذا ألقيتَ عليه مسألة محبة الله عز وجل ومسألة الإجابة إلى أمر الله والقرب منه، فتجده لا يفقه كثيرا مما تقول، كأهل مدين قوم سيدنا شعيب إذ يقول لهم (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) فيردوا عليه(يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ)هود91.
فمسألة محبة الله عز وجل عندما تطرح على شخص مبتدع ضال أو شخص كافر أو غارق في الشهوات كحسناء وضيئة زفت إلى رجل أعمى وِعنـِّين، والعياذ بالله، فهو أعمى لا يرى حسنها وِعنـِّين لا قدرة له على أن يصل إلى جماعها ووطئها، فالحسناء ستكون محنتها صعبة جدا، فقد يمكن تجاوز ذلك لأن معشره يهون ما به، ولكنه فوق ذلك بلا حب وخالٍ من الود والوجد، وهو أمر غاية في السوء، وهو مـَثل دقيق للإنسان الذي لم يحب الله قط في عمره، ولا يفهم ولا يرى ولا قدرة له على أن يتعبد لله، لا يعيش إلا في الشهوات، لا يعيش إلا في الضلال، يشتم ويسب ويلعن، يشرب المخدرات، يظلم الناس ويسرق يعتدي، هذه هي حياته والعياذ بالله، وما أسوأ معاملته للحسناء لا يمكن أن يعاشرها ولا أن يرى جمالها، حتى وإن كان جمالها لـَيـُذهب ظلمة الليل فتنيره.
مسألة حب الله ككتاب الله لأنها منه (لا يمسه إلا المطهرون) والكتاب دل عليها، وهذا القرآن لا يمسه إلا المطهرون على أحد الوجوه في التفسير، أو هو إشارة إلى أن القرآن لا يفهم معناه ولا يمس قلبه إلا من كان متطهرا قلبه، فمن الذي يجد لذة القرآن كما قال عثمان رضي الله عنه:"لو طهرت قلوبكم لما شبعت من كلام الله"، فهذه المسألة لا يفهمها ولا يفهم معناها ولا يذوق لها حلاوة ولا يرى قبسها ونورها إلا من كان مطهرا.
فلو كلمت واحدا من هؤلاء عن العبودية والحب وعن لبيك وسعديك أعاد الضياء في عينيه ظلاما، وبقيت عينيه مظلمة كما هي من قبل عرض هذه المسألة عليه، فإذا كان الأمر كذلك فلا تعرضها عليه ولا تحاول معه طالما وجدت إعراضا فضن بها إن كنت تعرف قدرها، إلا أن ترى كفؤاً آتاك مواتيا، فابخل بهذا العلم عن غير أهله، ولا تضيع وقتك إن كنت تعرف قدره.
وليس معنى ذلك عدم عرضه على الخلق ابتداءا، بل لابد من البيان لكن إذا وجدت الإعراض والغفلة والعمى فابتعد عنهم حتى تجد من يصلح لهذا الشأن وعلمه هذا العلم وبينه له، فهو الذي يقبله، وهو كالكفء للحسناء آتاك موافقا على بذل مهر المحبة، وهو التضحية والبذل للنفس والمال فما مهرها شيء سوى الروح.
فيا أيها الجبان تأخر، لست كفؤاً مساويا، إذا أردت أن تكون محبا محبوبا فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فنفسك وروحك - إذا إن كنت قبلت البيع- ليست ملكا لك، فسلمها لمالكها يفعل بها ما يشاء، وهو قد وعدك أنه يحفظها عليك ويردها عليك أوفر مما كانت، أما من لا يريد البذل ولا التضحية ولا يريد أن يصاب في سبيل الله فهو الجبان عن البذل فليتأخر فليس أهلا للمحبة ولا صالحا لهذا البيع (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)البقرة214
فكن أبدا حيث استقلت ركائب
المحبة في ظهر العزائم سارية
كن أيها المؤمن حيث أمرك الله شرعا أن تكون، وافعل ما يحبه الله وما يقتضيه حبه من اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا الحب يحملك حملا إلى المنازل العالية في أسرع وقت وفي أهنأ سفر وأكثره راحة بلا عناء ولا تعب، وسر دائما بالعزيمة والإرادة الجازمة لوجه الله، فالإرادة الصادقة التي لا تنثني منك له سبحانه تسير على ظهرها إلى بلاد الأفراح. والحمد لله رب العالمين