كتبه/ عصام حسنين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
ففي قوله -تعالى-: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:179) بقاء للنفوس، وصيانة لدمائها، وانتشار للأمن في المجتمع، لأن القاتل إذا علم أن سيُقتل انكف وامتنع عن دماء الآخرين، فيكون ذلك حياة للنفوس.
قال أبو العالية -رحمه الله-:
"جعل الله القصاص حياة لكم، فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه -أي: الآية- مخافة أن يقتل".
وبغياب هذه الآية يكون الضد من غياب الأمن وعموم الفوضى، وإراقة الدماء.
يتضح ذلك من هذه النظرة المقارنة بين الأمس واليوم، فقبل الإسلام كان الناس يعيشون في جاهلية جهلاء، وفي فوضى واقتتال، تُقام بينهم الحروب لأتفه الأسباب، والقوي يأكل الضعيف، يجمعهم منطق العصبية الجاهلية "انصر أخاك ظالماً ومظلوماً"[1]
وعاشوا على ذلك دهراً تئن الأرض من ظلمهم، فالظالم يزداد طغياناً وعلواً في الأرض بغير الحق، والمظلوم يموت كمداً وحزناً، إلى أن جاء الله بالخير، برسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبشريعته العادلة الكاملة، فحقنت الدماء إلا بحقها، فعاش الناس آمنين مطمئنين؛ تظلهم شريعة أحكم الحاكمين (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا)(آل عمران: من الآية103)
وقال -تعالى-: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (لأنفال:26)
أنعم الله عليهم بالمن، وفتح عليهم بركات من السماء والأرض، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)(لأعراف: من الآية96)
وقال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ والإنجيل وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ)(المائدة: من الآية66).
وما من دليل أدل على شيوع الأمن في شبه جزيرة العرب من قول عدي بن حاتم -رضي الله عنه-: (بينا أنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه الآخر فشكا إليه قطع السبيل. فقال: يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ فإن طالت بك حياة، فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله، ولئن طالت بك حياة، لتفتحن كنوز كسرى، ولئن طالت بك حياة، لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله فلا يجد أحدا يقبله منه.
قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم- يخرج ملء كفيه) رواه البخاري.
وقد حدثت الثالثة التي أخبر بها الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- في عهد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-!
ثم انظر إلى العقود الزمنية المتأخرة التي غابت فيها شمس الشريعة عن دنيا الناس، كيف عادت الجاهلية الأولى من انعدام الأمن، حيث كثر القتل بغير حق، وحوادث السرقة وقطع الطريق، والاغتصاب والزنا واللواط إلى آخره.
هل استطاعت القوانين الوضعية الطاغوتية توفير الأمن ومنع الجريمة؟ بالطبع لا، والواقع خير شاهد، فالقوانين الوضعية فيها قتل الناس، وإراقة دمائهم، وإذهاب أمنهم، وإغضاب ربهم -سبحانه وتعالى-، وهل يُفلح قوم أغضبوا ربهم - تبارك وتعالى- إلا من أنكر وتحاكم في نفسه ومن تحت يده إلى شريعة ربه -عز وجل-؟!
يقول القرطبي -رحمه الله-: "ولو تُرِك الناس والتعدي من غير قصاص، لأدى ذلك إلى الفساد ودمار العباد، وهذا واضح" التفسير 7/ 142.
والحمد لله رب العالمين على حكمه: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ....)
يُتْبَع إن شاء الله.
[1] هذا منطق الجاهلية، نصرة القبيلة لأي فرد من أبنائها سواء كان ظالماً أو مظلوماً، أما في الإسلام فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً، أرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره) رواه البخاري
فانظر الفرقين، واحمد الله على عدل الإسلام ورحمته.