كتبه/ ياسر عبد التواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فمن لهم أولئك الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً؟... من يقوم بشأنهم... في زمن صار غنى الأغنياء وطغيان الطغاة مرتبطاً بهم!، إن ضعفهم مغرٍ للغاية، وقلة حيلتهم تشي بهم وتستخرج الرغبات السادية البغيضة عند من يتعامل معهم.
فما أيسر أن تتسلق عليهم، وأن تجري عليهم من التجارب المحرمة، أو تبيع عليهم السلع النافقة، أو حتى تقصفهم وتضربهم وتجبي منهم الضرائب، وتأخذ العطايا، وتستبيح المحرمات؛ فهم سوق الأغنياء يبيعون عليهم ما يريدون... وهم مطية الطغاة يتسابقون عليهم في مضمار الفساد... ولن يشعر أحد بما أصابهم لأنهم لا بواكي لهم!!!
قل هذا عن المستضعفين من الأفراد، وقـُلْه أيضاً على المستضعفين من الجماعات والدول... قله عن عامل أو خادمة... قل ذلك عن مغتَرب يسعى لأود عياله... قله عن غير الحسيب بين أصحاب الحسب... وقله عن الفقير بين الأغنياء, أو اليتيم على موائد اللئام... قله عن فتاة عضلها ذووها فتركوا تزويجها بغية الاستئثار بمالها، أو رغبة في تزويجها من صاحب سلطان أو قريب لا ترضاه... قله كذلك عن كبار السن، بل قله أحياناً عن بعض الآباء أو الأجداد الذين يعانون جحود الأبناء.
اللائحة طويلة، لكنها بلا شك تضم أيضاً الدول المستضعفة لقلة عَددها أو عُددها أو مالها، فلا فرق بينها وبين الأفراد، فكلهم مستضعفون... يستأسد عليهم الجبان، ويترفع عليهم الخسيس، ويتطاول عليهم الوضيع.
بينما هم لا يملكون إلا دموعهم، وربما انتبه بعضهم إلى الدعاء، ويا له من سلاح ماض لو يشعرون!!
ويبقى السؤال... من للضعفاء؟... ما المسؤولية الواجبة الملقاة على عاتق غيرهم تجاههم؟
ونقول: لقد ندب الإسلام إلى نصرة المظلوم، وإعانة المحتاج، وفك الأسير، وإعالة الفقير. وفي التاريخ الإسلامي مواقف مشرفة استطاع فيها المسلمون أن يرفعوا الظلم عن الأفراد والشعوب، وأنقذوهم من نير الظلم والأذى والاحتلال، فدخل الناس طواعية في هذا الدين الذي وجدوه يحقق العدل في دنيا الواقع، وكل ذلك من الدفاع عن حقوق الإنسان، فكل من يقوم بالنصرة والعمل من أجل رفع الظلم فله عظيم الأجر والثواب؛ كما أن انتهاك تلك الحقوق يستوجب إلحاق القصاص بالفاعل.
ولقد أشار إلى ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ) رواه البخاري.
ومن ذلك الحديث الذي رواه ابنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اسْتَعَاذَكُم بالله فأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُم بالله فأَعْطُوهُ، وَمَنْ آتَى إِلَيْكمُ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ). وفي رواية (فإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ) رواه أبو داود، وصححه الألباني.
فقديماً وجدنا حلف الفضول، وهو حلف نشأ في الجاهلية، واحترمه المسلمون؛ لأنه حلف يدعو إلى مكارم الأخلاق، وإلى الوقوف في وجه الجشع والظلم والعدوان.
ذكر ابن إسحاق قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان -لشرفه ونسبه- فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وهو الذي قال فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (لَقَدْ شَهِدْتُ فِى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِى بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوِ أُدْعَى بِهِ فِى الإِسْلاَمِ لأَجَبْتُ) رواه البيهقي، وصححه الألباني.
وفي حديث عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِى وَأَنَا غُلاَمٌ فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِى حُمْرَ النَّعَمِ وَأَنِّى أَنْكُثُهُ) رواه أحمد، وصححه الألباني.
وهذا الحلف هو المعني المراد في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلاَمُ إِلاَّ شِدَّةً) رواه مسلم، لأنه موافق للشرع إذ أمر بالانتصاف من الظالم، فأما ما كان من عهودهم الفاسدة، وعقودهم الباطلة على الظلم والغارات، فقد هدمه الإسلام والحمد لله.
وخذ مثلاً على شهامة المسلمين في تطبيق مثل هذه الأحلاف الطيبة قال ابن إسحق: تحامل الوليد بن عتبة بن أبي سفيان على الحسين ابن علي في مال له -لسلطان الوليد، فإنه كان أميراً على المدينة- فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن بسيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم لأدعون بحلف الفضول. فقال عبد الله بن الزبير: وأنا أحلف بالله لئن دعاني لآخذن بسيفي، ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعاً، وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه.
فهذا الحماس في التطبيق، وهذه الهمة في التضافر وإنكار المنكر كلها من المسؤولية الأدبية والضمير الحي والبنيان المرصوص الذي يتكاتف لبنائه طوائف المجتمع المسلم الواعي؛ ليكون سداً ضد الفساد والمفسدين.
فالمهم هو زوال الفساد. فلنتعاون إذن جميعاً؛ لأن يداً واحدة لا تصفق.. ولننهض جميعاً لنعين جماعات ومنظمات أخذت على عاتقها تلك المهمة النبيلة، وتنطلق من منطلقات إسلامية إيمانية.
وأقول هناك مسؤولية أدبية، وهناك مسؤولية قانونية وشرعية.
والبعض يخلط ويظن أن الانطلاق نحو حلول مشاكل المستضعفين هو فقط يقع على ضمير الأقوياء. ونقول: نعم ما أعظم صحوة الضمير! وما أحرص الإسلام على تربية أبنائه على الرقابة الذاتية!
لكن الإسلام أيضاً وضع أطراً شرعية لحفظ حقوق المستضعفين. ولئن كانت تلك الأحاديث تشير إلى الوجوب الشرعي، وإلى أن نصر المظلومين وإعانتهم من مكارم الأخلاق، فإن هناك أدلة أخرى تدل على جواز الشكاية ممن ظلم وآذى، ومِن ثم إنزال العقوبة به من قبل المسئولين.
ومن ذلك ما ورد في الحديث الصحيح عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وَعِرْضَهُ) قَالَ وَكِيعٌ : عِرْضُهُ شِكَايَتُهُ وَعُقُوبَتُهُ حَبْسُهُ.