الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
لقد أذهلني ما رأيت من تخلف المرأة المعاصرة المنتسبة للإسلام عن المستوى السامي الوضئ الذي أراد الله أن تكون فيه وليس بينها وبين بلوغ ذلك المستوى العالي إلا أن تعكف على معرفة شخصيتها الأصلية التي صاغتها نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة -وجعلت منها امرأة راقية متميزة بمشاعرها وأفكارها وسلوكها ومعاملاتها- وجعلت ذلك فيها ديناً يجب أن تعض عليه بالنواجذ.
وإن بلوغ المرأة ذلك المستوى الرفيع لأمر بالغ الأهمية في حياة الإنسانية عامة، لما للمرأة من أثر كبير في تربية الأجيال وصناعة الأبطال وغرس الفضائل وتثبيت القيم وتغير الحياة بالحب والمودة والرحمة والجمال، وملء البيوت بالأمن والراحة والسكن والرضا والاستقرار.
المرأة المسلمة هي المرأة الوحيدة المهيأة لإشاعة ذلك كله في دنيا المرأة المعاصرة المتعبة المكدودة، المرهقة من لغوب الفلسفة المادية ونقب الحياة الجاهلية التي عمت المجتمعات الشاردة عن هدى الله -تبارك وتعالى-.
وذلك بمعرفتها نفسها وإقبالها على مكوناتها الذاتية ومناهلها الفكرية النقية وصياغة شخصيتها الصياغة الأصلية التي ارتضاها لها الله ورسوله، وميزها بها على نساء العالمين.
ومن تدبر نصوص الكتاب والسنة رأى أن رحمة الله بالمرأة المسلمة كانت كبيرة -إذ انتشلها بالإسلام من الهوان والضعف والذل والوأد والتبعية المطلقة للرجل- ورفعها إلى علياء الأنوثة العزيزة المكرمة المصونة، وجعلها مستقلة بمالها إن كانت ذات مال -مساوية للرجل في الكرامة الإنسانية والتكاليف الشرعية- لها حقوق وعليها واجبات كما للرجل حقوق وعليه واجبات، وهي والرجل سيان أمام الله -عز وجل- في ثوابه وعقابه.
ولم يقتصر فضل الإسلام على المرأة بنقلها هذه النقلة الهائلة من التخلف والذل والضياع إلى علياء التقدم والعزة والأمن والكفاية، بل عني عناية بالغة أيضاً بتكوين شخصيتها تكويناً شاملاً في كل جانب من جوانب شخصيتها الفردية والأسرية والاجتماعية، بحيث غدت إنساناً راقياً جديراً بالاستخلاف في الأرض.
فكيف كون الإسلام شخصيتها؟ وكيف بلغ في هذا التكوين المبلغ الرفيع الذي لم تبلغه المرأة في تاريخها إلا في هذا الدين؟
أولاً: المرأة المسلمة مع ربها:
ـ مؤمنة يقظة:
فإن من أبرز ما يميز المرأة المسلمة إيمانها العميق بالله، وعقيدتها النقية الصافية التي لا تشوبها شائبة من جهل أو خرافة أو وهم -فعندها يقيناً جازماً بأن ما يجرى في هذا الكون من حوادث وما يترتب عليه إنما هو بقضاء الله وقدره- وأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطئه لم يكن ليصيبه.
وما على الإنسان في هذه الحياة إلا أن يسعى في طريق الخير ويأخذ بأسباب العمل الصالح في دينه ودنياه متوكلاً على الله حق التوكل مسلماً أمره لله موقناً أنه فقير دوماً لعونه وتأييده وتسديده ورضاه.
وهذا الإيمان العميق يزيد شخصية المرأة المسلمة قوة ووعياً ونضجاً فإذا هي ترى الحياة على حقيقتها دار ابتلاء واختبار ستعرض نتائجها في يوم آت لا ريب فيه.
قال -تعالى-: (قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(الجاثية:26).
وقال -تعالى-: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ)(المؤمنون:115).
ولن يعزب عن رب العزة والجلال في هذا اليوم مثقال حبة من خردل.
قال -تعالى-: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)(الأنبياء:47).
فإذا تأملت المرأة المسلمة معاني هذه الآيات أقبلت على ربها إقبال الطائعات المنيبات الشاكرات، وتعد لآخرتها في هذا اليوم ما تستطيع من الأعمال الصالحات.
عابدة ربها:
لابد أن تقبل المرأة المسلمة الصادقة على عبادة ربها بهمة عالية -لأنها تعلم أنها مكلفة بالأعمال الشرعية التي فرضها الله على كل مسلم ومسلمة- ومن هنا فهي تؤدي فرائض الإسلام وأركانه أداءً حسناً، لا ترخص فيه ولا تساهل ولا تفريط.
تشعر بمسئوليتها عن أفراد أسرتها:
لا تقل مسئوليه المرأة المسلمة عن أفراد أسرتها أمام الله -عز وجل- عن مسئولية الرجل، بل قد تكون مسئوليه المرأة في بعض الجوانب أكبر من الرجل لما تعلم من خفايا حياة أولادها الذين يعيشون معها وقت أطول، وقد يطلعونها على ما لا يطلعون عليه الأب.
فالمرأة المسلمة الواعية تشعر بهذه المسؤولية كلما سمعت قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية على بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) متفق عليه.
همها مرضات الله -تعالى-:
فهي تطلع دوماً في أعمالها إلى مرضات الله -عز وجل- وتزنها بهذا الميزان الدقيق -فما رضي الله عنه فعلته- وما لم يرضى الله عنه أعرضت عنه وكرهته، وإذا وقع التعارض بين ما يرضي الله -عز وجل- وما يرضي الناس فإنها تختار مرضات الله بلا تردد ولو أسخط الناس، مستهدية في ذلك بهدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- القائل: (من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس)(رواه الترمذي وصححه الألباني).
تعمل على نصرة دين الله -عز وجل-:
فمن أجل الأعمال التعبدية التي تقوم بها المرأة المسلمة هو نصرة دين الله في واقع الحياة، والعمل على تطبيق منهجه في حياة الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، فهي تشعر في أعماقها أن عبادتها تبقى ناقصة إذا هي قصرت في هذا الجانب الحيوي من حياتها وحياة المسلمين جميعاً، إذ به يتحقق الهدف الكبير الذي خلق الله الجن والإنس من أجله، وهو إعلاء كلمة الله في الأرض والذي به وحده تتحقق عبادة البشر لله (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)(الذاريات:56).
ولاؤها لله وحده:
فالمرأة المسلمة لا يكون ولاؤها إلا لله لا لأحد غيره، ولو كان زوجها أو أبيها وهم أقرب الناس إليها، ونجد قمة هذا الولاء في صنيع أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان -رضي الله عنهما- عندما زارها أبوها وهم بالجلوس فما راعه إلا إن راءها وثبت على الفراش فختطفته وطوته عنه- فقال يا بنية ما أدري أرغبتي بي عن هذا الفراش أم رغبتي به عنى؟ قالت: بل هو فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنت رجل مشرك فلم أحب إن تجلس عليه
تقوم بواجب الأمر عن المعروف والنهى عن المنكر:
وهذا من تكريم الإسلام للمرأة عندما كلفها بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد بوأها مكانة اجتماعية وإنسانية عالية -إذ جعلها لأول مرة في التاريخ آمرة وما كانت تعرف في غير دين الإسلام إلا مأمورة وقال -تعالى-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(التوبة:71).
وللحديث بقية إن شاء الله.