كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد سار الصراع الإسلامي الأوربي وفق السنة الكونية التي قررها الله -عز وجل- في قوله -تعالى-: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)(آل عمران:140)، فكان النصر من نصيب المسلمين تارة ومن نصيب عدوهم تارة، ولكن عند التأمل تجد أن المحصلة العامة هي أن الغلبة كانت للمسلمين -بفضل الله تعالى-، وأن المسلمين كانوا أسرع فيئة بعد الكبوة، رغم أن هذه إحدى خصائص الروم إلا أن المسلمين فاقوهم فيها -بفضل الله تعالى-، وهذا راجع إلى عوامل كثيرة يأتي على رأسها قدرة المجتمع المسلم على إفراز جيل جديد يتجاوز آثار الهزيمة من ناحية الكم، حيث كان المجتمع المسلم يعي دائماً قوله -صلى الله عليه وسلم-: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم) رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني، ومن ناحية الكيف حيث كان المجتمع المسلم يعي قوله -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) متفق عليه.
وإن كانت الهزيمة غالباً ما تكون نتيجة لغياب أو ضعف الوعي بهذه الجوانب، إلا أنه على الجانب الآخر غالباً ما كان حدوثها سبباً في عودة الوعي إلى الأمة بأسباب قوتها متمثلة في تشريعاتها الربانية في كل نواحي الحياة، لاسيما وأن هذه التشريعات كانت تبقى في أحوال النصر والهزيمة على حد سواء ثابتة محفوظة يتعلمها المسلمون ويعلمونها لأبنائهم.
وبعد عدة جولات من المواجهة الإسلامية - الأوربية، وبعد اندحار الحروب الصليبية، والتي تولد من رحمها صحوة إسلامية امتدت لقرون طويلة، كان من نتاجها فتح القسطنطينية، وعودة الجيوش الإسلامية إلى تهديد أوربا في عقر دارها مرة أخرى، عندها بدأ الأوربيون في إدراك أن هذه الأمة لا تهزم بالقوة العسكرية وحدها، وبدءوا في دراسة كل علوم المسلمين الدينية والدنيوية، مما عرف فيما بعد بالاستشراق، والذي انتهى بدوره إلى توصيات إلى الساسة ورجال الكنيسة بضرورة طمس معالم التشريع الإسلامي من أيدي المسلمين في ذات الوقت الذي يحاولون الاستفادة منها في إدارة شئونهم الداخلية.
وبالفعل استفادت النظم القانونية والتشريعية التي ظهرت في أوربا بعد عصر الاستشراق من الشريعة الإسلامية إلا أنه منعهم من الاستفادة الشاملة من الشريعة الإسلامية اصطدامها في كثير من الأحيان بعقائدهم، واصطدامها في أحيان أخرى بعادات متأصلة فيهم، مثل اعتيادهم شرب الخمر، والذي حاولوا تجريمه قانوناً أكثر من مرة -رغم زعمهم إباحتها في دينهم- إلا أنهم فشلوا.
وفي الجانب الاجتماعي اصطدمت محاولات اقتباسهم من الإسلام بتساهلهم بالزنا، وبحبهم للدنيا وعدم رغبة الآباء في تحمل تبعات الأنباء كلية أو لفترة طويلة على الأقل.
وهذا الفشل في اقتباس شرائع الإسلام مع إدراكهم التام أنها أحد أهم أسباب قوة المسلمين، أدى إلى اهتمامهم البالغ بنزع هذه التشريعات من واقع المسلمين، وقد تركز هذا في بادئ الأمر في دعوتين أساسيتين:
الأولى: الدعوة إلى تحديد النسل لمنع المسلمين من التفوق العددي، لاسيما أن تفوق المسلمين العددي له رافد آخر غير زيادة النسل، وهو زيادة المنتقلين من النصرانية وغيرها إلى الإسلام من كل عواصم العالم الغربي.
وأما الدعوة الثانية: فكانت الدعوة إلى ما أطلقوا عليه "تحرير المرأة"؛ ليفقدوا الأسرة المسلمة والمجتمع المسلم أحد أهم جوانب تماسكه وقدرته على إفراز العناصر الصالحة متمثلاً في تفرغ الأمهات للمهمة الرئيسية التي خلقن من أجلها.
وقد بذلت جهود جبارة، وأنفقت أموال باهظة وجندت جيوش من الزنادقة والمنافقين من أجل هذه الدعوة الخبيثة، امتدت عبر قرن وربما قرنين من الزمان، حصل من جرائها ثمار خبيثة أمرُّ من الحنظل، أدمت قلوب ومدامع المؤمنين، ولكنها لم تُرضِِ بعدُ طموح الأعداء حيث ظهرت الصحوة الإسلامية المباركة، فاعتدل معها الميزان إلى حد كبير -بفضل الله تعالى-، وحيث بقيت عند المرأة المسلمة بصفة عامة، والأمهات بصفة خاصة بقية من إيمان ورغبة في القيام بأعباء الرسالة التي مازلن يجدن من يذكرهن أنهن خلقن من أجلها، فامتنعت الكثيرات منهن من الخروج للعمل، ومن خرجت منهن ضاعفت من جهدها حتى لا يفرغ بيتها منها بصفة نهائية، هذا بالإضافة إلى أن المؤشر بدأ يتحرك في اتجاه العودة إلى العمل بتشريعات الإسلام، ومعه بدأ مؤشر عودة المرأة المسلمة إلى بيتها.
ومن هذا المنطلق قرر الأعداء إلقاء سهم آخر من جعبتهم الخبيثة، وقرروا مخاطبة الأطفال مباشرة وسعوا إلى نزع ولاية الآباء والأمهات عن أبنائهم رغم اعترافهم بأنهم ناقصو الأهلية إلى الدرجة التي يطالبون فيها بعدم معاقبتهم على جرائمهم حتى بعد بلوغهم مبلغ التكليف من الناحية الشرعية.
ومن ثم فهم لا ينازعون في حاجتهم إلى نوع من الولاية والوصاية، ولكنهم يريدون أن يستبدلوا سلطة الأبوين بسلطة بديلة كانت في أول الأمر سلطة المجتمع المحلي لكل بلد، ولكنهم وجدوا أن هذا أيضاً لا يؤتي الفساد الذي يرجونه، فكان سعيهم الخبيث إلى رفع ولاية الآباء واستبدالها بولاية المؤسسات الدولية التي تريد أن تنشئ أبناء المسلمين على رجس الحضارة الغربية دينا وخلقاً.
في ذات الوقت الذي تمنعهم فيه من أن يأخذوا بما عندهم من تقدم دنيوي، وإن كنا لا يمكن أن نرضى بتسليم أبنائنا لهم؛ ليفسدوا عليهم دينهم، وإن أعطوهم الدنيا بحذافيرها.
إذا تبين هذا، فيبقى السؤال عن مدى قدرتهم على النجاح فيما أرادوه.
والجواب: إن هذا متوقف على مدى تمسك كل فرد من أفراد الأمة بشرع الله -عز وجل-، ولاسيما الآباء الذين ينبغي عليهم أن يضعوا قوله -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) نصب أعينهم، ولنتذكر أن الغرب فشل في أن يفرض على أبنائه ترك الخمر لشدة تعلقهم بها، فهل ينجح في أن يفرض علينا ترك أبنائنا لهم ليفسدوا عليهم دينهم ودنياهم؟ نعوذ بالله أن نكون ممن يفعل أو يفعل به ذلك. اللهم آمين.