كتبه/ محمد الجهمي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فلا شك أن من أعظم نِعم الله وآياته أن جعل البيتَ هو المأوى والسكنَ؛ في ظله تلتقي النفوسُ على المودة والرحمة، والحصانة والطهر، وكريم العيش والستر، في كنفه تنشأ الطفولة ويترعرع الأحداثُ، وتمتد وشائج القربى، وتتقوَّى أواصرُ التكافل.
ترتبط النفوس بالنفوس، وتتعانق القلوب بالقلوب (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنّ)(البقرة:187)، في هذه الروابط المتماسكة والبيوتات العامرة تنمو الخصال الكريمة، وينشأ الرجال الذين يؤتمنون على عظيم الأمانات، ويـُربى النساء اللاتي يقمن على أعرق الأصول.
غير أن واقع الحياة وطبيعة البشر -كما خلقهم الله سبحانه وهو أعلم بمن خلق- قد يكون فيها حالات لا تؤثر فيها التوجيهات، ولا تتأصل فيها المودة والسكن مما قد يصبح معه التمسك برباط الزوجين عنتا ومشقة؛ فلا يتحقق فيه المقصود، ولا يحصل به صلاح النشء، وهذه الحالات من الاضطراب وعدم التوافق تكون بواعثها داخلية أو خارجية.
فقد ينبعث من تداخل غيرِ حكيم من أولياء الزوجين أو أقاربهما أو تتبع للصغير والكبير من أمورهما، وقد يصل الحال من بعض الأولياء وكبراء الأسرة إلى فرض السيطرة على من يلون أمرهم؛ مما قد يقود إلى الترافع إلى المحاكم فتفشو الأسرار، وتنكشف الأستار، وما كان ذلك إلا لأمر صغير أو شيء حقير قاد إليه التدخل غير المناسب، والبعد عن الحكمة والتعجل والتسرع وتصديق الشائعات وقالة السوء.
وقد يكون منبع المشكلة قلةُ البصيرة بالدين، والجهلُ بأحكام الشريعة السمحة، وتراكمُ العادات السيئة، والتمسكُ بالآراء الكليلة؛ فيظن بعض الأزواج -مثلا- أن التهديد بالطلاق أو التلفظ به هو الحل الصحيح للخلافات الزوجية والمشكلات الأسرية، فلا يعرف في المخاطبات سوى ألفاظ الطلاق في مدخله ومخرجه، وفي أمره ونهيه، بل في شأنه كله، وما درى أنه بهذا قد اتخذ آيات الله هزوا، يأثم في فعله، ويهدم بيته، ويخسر أهله، هل هذا هو الفقه في الدين؟!
إن طلاق السُنَّة الذي أباحته الشريعة لا يُقصَد منه قطع حبال الزوجية، بل قد يقال: إنه إيقاف لهذه العلاقة، ومرحلة تريث وتدبر ومعالجة (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا . فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)(الطلاق:1-2).
هذا هو التشريع، بل إن الأمرَ ليس مقتصرا على هذا، إن طلاق السنة هو الوسيلة الأخيرة في المعالجة وتسبق ذلك وسائل كثيرة.
فحينما تظهر أمارات الخلاف وبوادر النشوز أو الشقاق فليس الطلاق أو التهديد به هو العلاج، إن أهم ما يطلب في المعالجة: الصبر والتحمل، ومعرفة الاختلاف في المدارك والعقول، والتفاوت في الطباع مع ضرورة التسامح والتغاضي عن كثير من الأمور، ولا تكون المصلحة والخير دائما فيما يحب ويشتهي، بل قد يكون الخير فيما لا يحب ويشتهي (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)(النساء:19).
ولكن حينما يبدو الخلل، ويظهر في الأواصر تحلل، ويبدر من المرأة نشوز وتعالٍ على طبيعتها، وتوجه إلى الخروج عن وظيفتها، حيث تظهر مبادئ النفرة، ويَتَكَشَّفُ التقصيرُ في حقوق الزوج والتنكُّر لفضائل البَعْل، فعلاج هذا في الإسلام صريح ليس فيه ذكر للطلاق لا بالتصريح ولا بالتلميح؛ يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)(النساء:34)، فيكون العلاج بالوعظ، والتوجيه، وبيان الخطأ، والتذكير بالحقوق، والتخويف من غضب الله ومقته، مع سلوك مسلك الكياسة والأناة ترغيبا وترهيبا.
وقد يكون الهجر في المضجع والصدود مقابلا للتعالي والنشوز، ولاحظوا أنه هجر في المضجع وليس هجرا عن المضجع، إنه هجر في المضجع وليس هجرا في البيت، ليس أمام الأسرة أو الأبناء أو أمام الغرباء، الغرض هو المعالجة وليس التشهير أو الإذلال أو كشف الأسرار والأستار، ولكنه مقابلة للنشوز والتعالي بهجر وصدود يؤدي إلى التضامن والتساوي، وقد تكون المعالجة بالقصد إلى الشيء من القسوة والخشونة؛ فهناك أجناس من الناس لا تغني في تقويمهم العشرة الحسنة والمناصحة اللطيفة، إنهم أجناس قد يبطرهم التلطف والحلم.
فإذا لاحت القسوة؛ سكن الجامح وهدأ المهتاج، فقد يكون اللجوء إلى شيء من العنف دواء ناجحا، ولماذا لا يلجأ إليه وقد حصل التنكر للوظيفة والخروج عن الطبيعة؟!
ومن المعلوم لدى كل عاقل أن القسوة إذا كانت تعيد للبيت نظامه وتماسكه، وترد للعائلة ألفتها ومودتها؛ فهي خير من الطلاق والفراق بلا مراء، إنه علاج إيجابي تأديبي معنوي ليس للتشفي ولا الانتقام، وإنما سيزيل به ما نشز، ويقوّم به ما اضطرب.
وإذا خافت الزوجة الجفوة والإعراض من زوجها فإن القرآن الكريم يرشد إلى العلاج بقوله: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)(النساء:128).
العلاج بالصلح والمصالحة، وليس بالطلاق، ولا بالفسخ، وقد يكون بالتنازل عن بعض الحقوق المالية أو الشخصية محافظة على عقدة النكاح. (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) الصلح خير من الشقاق والجفوة، والنشوز والطلاق.
فهذا عرض سريع وتذكير موجز بجانب من جوانب الفقه في الدين، والسير على أحكامه، فأين منه المسلمون؟
أين تحكيم الحكمين في الشقاق بين الزوجين؟؟
لماذا ينصرف المصلحون عن هذا العلاج؟؟
هل هذا زهد في إصلاح ذات البين؟؟
أو هو رغبة في تشتيت الأسرة وتفريق الأولاد؟؟
إنك لا ترى إلا سفها وجورا، وبعدا عن الخوف من الله ومراقبته، وهجرا لكثير من أحكامه، وتلاعبا في حدوده؛ أخرج ابن ماجه وابن حبان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَلْعَبُ بِحُدُودِ اللَّهِ يَقُولُ : قَدْ طَلَّقْت قَدْ رَاجَعْت).
وقال محمود بن لبيد: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاَثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا فَقَامَ غَضْبَانًا ثُمَّ قَالَ: (أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟) حَتَّى قَامَ رَجُلٌ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ أَقْتُلُهُ؟ رواه النسائي، وصححه الألباني.
واعلموا أن طلاق السنة الذي أباحته الشريعة يجهله كثير من جماهير المسلمين:
إن الطلاق في الحيض محرم، وطلاق الثلاث محرم، والطلاق في الطهر الذي حصل فيه وطء محرم.
فكل هذه الأنواع طلاق بدعي محرم يأثم صاحبه، ولكنه يقع في أصح أقوال أهل العلم.
أما طلاق السنة الذي يجب أن يفقهه المسلمون فهو الطلاق طلقة واحدة في طهر لم يحصل فيه وطء، أو الطلاق أثناء الحمل.
إن الطلاق على هذه الصفة علاج؛ حيث تحصل فترات يكون فيها التريث والمراجعة.
فالمطـلِق على هذه الصفة يحتاج إلى فترة ينتظر فيها مجيء الطهر، ومن يدري فقد تتغير النفوس، وتستيقظ القلوب، ويُحدِث الله من أمره ما يشاء.
وفترة العدة -سواء أكانت عدة بالحيض، أو بالأشهر، أو بوضع الحمل- فرصة للعودة والمحاسبة قد يوصل معها ما انقطع من حبل المودة ورباط الزوجية.
ومما يجهله المسلمون أن المرأة إذا طلقت طلاقا رجعيا فعليها أن تبقى في بيت الزوج لا تخرج منه، بل إن الله جعله بيتا لها: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) تأكيدا لحقهن في الإقامة، فإقامتها في بيت زوجها سبيل لمراجعتها، وفتح أمل في استثارة عواطف المودة، وتذكير بالحياة المشتركة، فالزوجة في هذه الحالة تبدو بعيدة في حكم الطلاق، لكنها قريبة من مرأى العين.
وهل يراد بهذا إلا تهدئة العاطفة وتحريك الضمائر، والتأني في دراسة أحوال البيت والأطفال، وشئون الأسرة (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا).
فاتقوا الله أيها المسلمون، وحافظوا على بيوتاتكم، وتعرَّفوا على أحكام دينكم، وأقيموا حدود الله ولا تتجاوزوها، وأصلحوا ذات بينكم، رزقني الله وإياكم الفقه في دينه، والبصر في شريعته، ونفعنا بهدي كتابه، ورزقنا السير على سنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-.