من أسرار القرآن الكريم
الناقل :
mahmoud
| المصدر :
www.islamiyyat.com
السرّ الأول : ظاهرة النسبية في القرآن الكريم
ما أردنا قوله: (عند نظرنا في القرآن الكريم.. لماذا نحتكم للمعاني الاصطلاحية الشائعة، ولا نحتكم إلى جملة المعاني اللغوية للفظ؟!.. إن أخذ جملة المعاني اللغوية للفظ بالحسبان (وهي متعددة) يفتح آفاقا جديدة للانفتاح على النص الكريم)
بين يدي الظـاهرة
مع ازدياد تعقيدات الحياة وتشعباتها تزداد حاجتنا لفهم أنفسنا، ولفهم الواقع من حولنا، وهي المهمة التي يمكن أن نوكلها لأنفسنا بجدارة إن نحن أحسنا التعامل مع كتاب الله تعالى، لكن ذلك التعامل يحتاج منا إمعان نظر ، بحيث لا تبقى معارفنا الدينية مجرد تكرار لمعارف آبائنا وأجدادنا.
ولدى تمعننا في آيات الله فقد جذب انتباهنا جانب اعتبرناه في حينه جديرا بالدراسة، بل اعتقدنا بأنه يخفي خلفه ظاهرة أصيلة من الظواهر التي يوحي بها النص القرآني الكريم، وتلك الظاهرة هي "ظاهرة النسبية في القرآن الكريم"، لكن وقبل أن نخوض في أمر تلك الظاهرة ؛ فلابد من بعض التقديم بين يديها..
القرآن: كلامُ الله
يُعرّف القرآن الكريم بأنه كلامُ الله العربيّ المثبت في اللوح المحفوظ للإنزال، ثم المنزّل بواسطة جبريل الأمين على سيدنا محمدe للهداية والإعجاز، وهو المنقولُ إلينا بالتواتر؛ والمكتوب في المصاحف.
وفي تعريف مبسط له يمكن القول بأنه: كلام الله المنزّل على محمدٍ e؛ المتعبد بتلاوته.
والقرآنُ لغةً: مشتقٌ من مادة الفعل "قرأ"(1) والذي يأتي بمعنى: الجمع والضمّ. والقراءةُ هي: ضمُّ الحروفِ والكلماتِ إلى بعضها. والقرآن في الأصل كالقراءة، مصدر: قرأ؛ قراءة؛ وقرآناً. قال تعالى: {إنّ علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه}(القيامة:17-18) أي قراءته. وهو مصدرٌ على وزن "فُعلان" ،بالضم، كالغُفران، والشُكران. تقول: قرأته قرءاً وقُرآناً، بمعنى واحد.
ويُطلقُ "القرآن" بالاشتراك اللفظي على مجموع القرآن، وكذلك على كلّ آيةٍ من آياته، فإذا سمعتَ من يتلو آيةً من القرآن الكريم صحّ أن تقول: إنه يقرأُ القرآن، مثال ذلك قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}(الأعراف:204).
وقد ذُكر كذلك بأن تسميته "قرآناً" إنما جاءت لجمعِهِ ثمرةَ كتبِ الله كلِها، ولجمعِهِ ثمرةَ جميعِ العلوم، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء}(النحل:89).. وقد سُمي القرآنُ "قرآناً" كونه متلواً بالألسنة، كما روعي في تسميته "كتاباً" كونه مدوناً بالأقلام.
وللعلماء في تعريفِ "القرآن" قولاً يميزه عن غيره من الكتب المنزّلة، فهو (كلامُ الله المنزّل على محمدe، المتعبد بتلاوته).
إعجازُ القرآن الكريم وسحرُ بيانه
وللقرآن الكريم وجوه من الإعجاز التي لا تعد ولا تحصى بحيث تعجز الكلمات عن الإحاطة بكل تلك الوجوه، لكنّ بعضاً من الكلمات التي أوجزت في وصفه تناولت "الغاية الموضوعية" التي جاء القرآن الكريم لأجل تحقيقها، فهو ،من هذا المتناوَل، حجةُ الله على العالمين، والمستندُ الأكبرُ لشريعة الإسلام، وبثبوت حجة الله على البشر ثبتت الحجةُ بضرورة العمل..
وقد ثبتت حجةُ الله على البشر بثبوتِ إعجاز القرآن الكريم لكل من تحداهم الله من العقلاء، وهذه الحجة لا تقتصر على من نزل القرآن الكريم فيهم في العصر الأول للنبوة، بل ثبتت كذلك في حق من نُقل إليهم فيما بعد ،بالتواتر، وإلى يومنا هذا. وقد ثبتت حجة الله عزّ وجلّ على البشر بثبوت عجزهم أمامه وحيرتهم في مواجهته.
و"العجز" حسبما هو مُتعارفٌ عليه: اسمٌ للقصور وعدم الاستطاعة عن فعل الشيء. وهو ضد "القدرة"، وإذا ثبت الإعجاز ظهرت قدرة المُعجِز، ويكون الهدف من الإعجاز: إظهارُ صدق النبيّ e في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب عن معارضته في معجزته الخالدة؛ وهي القرآن الكريم، وعجز الأجيال المتتابعة من بعدهم، فالقرآن الكريم ،من هذه الناحية، جاء بالتحدي الدائم والمستمر إلى يوم القيامة؛ في مواجهة الجنِّ والإنس؛ وذلك عندما تحداهم أن يأتوا بمثله: {وإن كنتم في ريبٍ مما نزَّلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين}(البقرة:23).. كذلك فقد تحدّاهم أن يأتوا ببعضٍ من مثله: {قل فأتوا بعشر سورٍ مثله مفتريات}(هود:13)..
وعندما ثبتَ عجزُهم أمام هذا التحدي؛ كان القول الفصل: {قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثلِ هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيراً}(الإسراء:88)
وأمام هذا الإعجاز؛ وذلك التحدّي.. تعددت الآراء حول إعجاز القرآن الكريم؛ والقدرِ المعجز منه، فقد ذهب المعتزلةُ إلى أن الإعجاز يتعلق بجميع القرآن الكريم لا ببعضه أو بكل سورة برأسها. لكنّ آخرين ذهبوا إلى أن القليل والكثير منه مُعجِز؛ دون تقييد بسورة معينة، لقوله تعالى: {فليأتوا بحديثٍ مثله}(الطور:34).
وذهبت فئةٌ ثالثةٌ إلى أن الإعجازَ يتعلقُ بسورةٍ تامةٍ ولو كانت قصيرة، أو قدْرِها من الكلام؛ كآيةٍ واحدةٍ أو آيات.
كذلك وجدنا من ذهب إلى أن إعجاز القرآن الكريم لا يقعُ في قدرٍ معينٍ منه فحسب؛ بل نجد ذلك الإعجاز كذلك في (أصواتِ حروفِه، ووقعِ كلماتِه، كما نجده في الآية والسورة، فالقرآن كلام الله وكفى)(2).. وهي حجةٌ ،ولا شكّ قوية تسترعي الانتباه إلى حقيقةٍ في غاية الأهمية؛ وهي أن إعجاز القرآن الكريم لم يقتصر ، فقط، على الحقائق الموضوعية التي يطرحها، ولا في قدراته البلاغية وحسب، بل في تمتعه كذلك بإعجازٍ غيرِ عاديّ حتى على مستوى تناسقِ حروفِ الكلمة الواحدة.
سحرٌ يأخذ بالقلوب والألباب
لقد كان تأثيرُ القرآن الكريم على كلّ من سمعه تأثيراً عجيباً؛ إذ سحرت(3) كلماتُه قلوبَهم؛ وسلبتهم عقولهم وألبابهم، وكان أعجب ما فيه أن خاصيته تلك كانت بالنسبة لهم أمراً غامضاً غيَر معتاد، ووجدوا فيه ظاهرةً تكاد تكون ،بالنسبة لهم، غيرَ مفهومةِ الأسباب!!.. (ونزل القرآن فظنّه العربُ أولّ وهلةٍ من كلام النبيّ e، وروحوا عن أنفسهم بانتظار ما أَمِلوا أن يطلعوا عليه في آياته البيّنات..)(4) ولم يكن عجيباً حينها أن تتباينَ ردودُ أفعالهِم تجاهه، فمنهم من اطمأن إليه فآمن به، ومنهم من جحد فكفر، ومنهم من لم يحسم الأمر فآثر الانتظار لعل الأيام تأتي بالخَبَرْ!.
ولقد أثار القرآن الكريم ،ومنذ بداياته الأولى، ردودَ فعلٍ تميزت بالحيرة، فلم يكن من السهل ،بدايةً، استيعابُ حقيقة إرسال نبيّ افترضوا وجوب أن يكون واحداً من أرفعِهم مكانةً، أو أكثرِهم مالاً وولداً!!.. أما محمد e وما تميز به من مكانةٍ رفيعةٍ ،سواءً من حيث نَسَبِه أو أخلاقه ،والتي لم يعرفوا لها مثيلاً، فقد كان بالنسبة لهم آخر من يصلح لتلك المهمة! {وقالوا لولا نُزّل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم}(الزخرف:31)...
ولم يكن مهماً ،بالنسبة لبعضهم، ما كان يتمتعُ به محمدٌ e من رفيعِ خصالٍ وصِدْقِ حديث، إذ أضمروا له التكذيب حتى وإن كان صادقاً! (ومرّوا ينتظرون وهم مُعِدّون له التكذيب، مُتربصون به حالةً من تلك الأحوال؛ فإذا هو قَبِيلٌ(5) غيرِ قبيلِ الكلام، وطبعٌ غيرِ طبعِ الأجسام، وديباجةٌ كالسماء في استوائها لا وهيٌ ولا صدعٌ، وإذا عصمةٌ قويةٌ، وجمرةٌ متوقدةٌ، وأمرٌ فوق الأمر، وكلامٌ يحارون فيه بدءاً وعاقبة)(6).
وباختصار؛ فإن الشكّ في تلك اللحظات كان شريعةَ الجميع ،إلا من رحم ربُك، والشكُ ،في حدّ ذاته، حقٌ مشروعٌ يمكن من خلاله التمييز بين الأصيل وبين ما كان ادعاءً، لذا؛ فلم يكن مستغرباً أن يجمعَ الشكُ تجاه محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته بين عمر بن الخطاب والوليد بن المغيرة، إضافة إلى ما أصابهما من صدعٍ وذهول بالتأثير المحكم لآيات القرآن الكريم!.
وتنقلُ لنا كتبُ التاريخ روايتين متشابهتين تؤرخان لإسلام عمر بن الخطاب ،رضي الله عنه وأرضاه، الأولى منهما لعطاء ومجاهد، نقلها ابن إسحق وقد جاء فيها على لسانه: (كنتُ للإسلام مُباعداً، وكنتُ صاحبَ خمرٍ في الجاهلية أحبها وأشربها، وكان لنا مجلسٌ يجتمعُ فيه رجال قريش... فخرجتُ أريدُ جلسائي أولئك فلم أجد منهم أحداً. فقلت: لو أنني جئت فلاناً الخمّار. فخرجتُ فجئته، فلم أجِدْه. قلت: لو أنني جئتُ الكعبةَ فطفتُ بها سبعاً أو سبعين، فجئتُ المسجدَ أريدُ أن أطوف بالكعبة، فإذا رسول اللهe قائمٌ يصلي، وكان إذا صلّى استقبلَ الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، واتخذ مكانه بين الركنين: الركن الأسود والركن اليماني. فقلت حين رأيته: والله لو أني استمعتُ لمحمدٍ الليلةَ حتى أسمعَ ما يقول. وقام بنفسي أنني لو دنوتُ منه أسمع؛ لأروّعنه، فجئتُ من قِبَل الحِجْر؛ فدخلتُ تحت ثيابِها، وما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة، فلما سمعتُ القرآنَ رقّ له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام!.
والرواية الأخرى تشير إلى أن عمر ،رضي الله عنه، خرجَ مُتوشحاً سيفه؛ يريدُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ورهطاً من أصحابه قد اجتمعوا في بيتٍ عند الصفا، وهم قريبٌ من أربعين بين رجالٍ ونساء، وفي الطريق لقيه نعيم بن عبد الله فسأله عن وجهته؛ فأخبره بغرضه، فحذّره (أي نعيم) بني عبد مناف، ودعاه أن يرجع إلى بعض أهله؛ خِتنه(7) سعيد بن زيد بن عمرو، وأخته فاطمة بنت الخطاب زوج سعيد، فقد صبئا عن دينهما. فذهب إليهما عمر، وهناك سمع "خَبّاباً" يتلو عليهما القرآن، فاقتحم الباب، وبطشَ بِخِتْنِهِ سعيد، وشجّ أخته فاطمة... ثم أخذ الصحيفة ،بعد حوار، وفيها سورة "طه"، فلما قرأ صدراً منها قال: (ما أحسن هذا الكلام وأكرمه) ثم ذهب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأعلن إسلامه، فكبّر النبيّ e تكبيرةً عرف أهلُ البيتِ من أصحابِه أن عمر قد أسلم(8).
كذلك فقد واجهت المعاندين والمستكبرين من قريش مواقفُ مشابهة، وذلك من خلال ما أحدثه القرآنُ الكريمُ من تأثيرٍ مزلزلٍ في نفوسهم، فقد حدثَ مثلُ ذلك مع الوليد بن المغيرة؛ والذي أذهلته الآياتُ بِسِحْرِها وأَلَقِها، فتصرفَ مقهوراً مُنساقاً تحت وطأة تأثيرها، حتى وجدناه لا يقوى على إنكار ما أصابه!، ووجدناه يصفُ القرآنَ الكريمَ والحيرةُ تأخذُ بلبّه وجنانه، فأصبح لا يمتلك لنفسه حولاً ولا قوة، وسمعناه يُقرُ مُعترفاً: (فوا لله ما منكم رجلٍ أعلمَ مني بالشعر ولا بِرَجَزِهِ ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن. والله ما يشبهُ الذي يقولُه شيئاً من هذا، والله إنّ لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يُعلى عليه)!!.
لكنّ اعترافه هذا لم يكن ليقنعَ قريشاً، فهو ،أي الوليد، لم يذمّ القرآن، بل امتدحه!!.. فلما زادوا عليه من ضغوطهم؛ لم يجدْ مخرجاً إلا أن يلويَ أعناقَ الألفاظ، وأن يتلاعب بالكلمات، فبدلاً من أن يعترف بأن هذا السحر إنما يدل ،بالضرورة، على عدم بشرية مصدره، وجدناه يتجاوب مع دعوة أبي جهلٍ له؛ والتي قال له فيها: (والله لا يرضى قومُك حتى تقول فيه(9))...
وهنا تتجلّى قدرةُ بعض البشر على التحايل!، واتباع الأساليبِ الملتويةِ لوصفِ حقيقةٍ ما بغيرِ ما يجبُ أن توصفَ به!.. فجاءَ ردّ الوليد هذه المرة: (دعني أفكر فيه). فلما أنْ فكّر قال: (إنْ هذا إلا سحرٌ يؤثر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله ومواليه)؟!.
وبهذا الرد يكون الوليد قد أفشى لنا ،عن غير قصدٍ بالطبع، سراً من الأسرار التي استأثر بها القرآنُ الكريم دون غيره من كلام العرب، ذلك هو الاستحواذُ الغريب؛ والسطوةُ التي لا تردّ؛ لكلمات الله على كلّ من سمعها، بل لعل الوليد في استخدامه لتلك الألفاظ قد أسدى لنا خدمةً أخرى كبيرة، فهو باستخدامه لألفاظٍ من قبيل "سِحْرْ" قد أشار إلى ذلك المصدر الغامض؛ والمجهول لسحر القرآن الكريم، والذي لا يمكن إلا أن يكون وجهاً من الوجوه التي استأثر بها القرآن الكريم؛ فتميزت به لغته عن لغة البشر!.
وفي قولٍ ،يمكنُ تعميمه، فإن ذلك التأثير الاستحواذي للقرآن الكريم لم يكن أمراً مقصوراً على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أو الوليد بن المغيرة، فلطالما ارتبط ذلك الانفعال تجاه القرآن الكريم بعلاقةٍ جدليةٍ مع عامل آخر كان له أبلغ الأثر في تجلية تلك الميزة وذلك السحر، ولم يكن ذلك العامل إلا تلك المقدرةِ اللغويةِ العالية التي طالما تميزّ بها العرب في ذلك الوقت، والتي مكّنت لهم سُبُلَ التفريق بين الأصيل وما هو غير ذلك، تلك المقدرة التي لو لم تُوجد ،في حينه، لما أمكن لنا ،أبداً، أن نشعر بإعجاز القرآن الكريم، ولاستوى لدينا حينها الغث والسمين!..
وأمام تلك السطوة المثيرة للانفعال؛ فلم يكن أمام بعض المستكبرين إلا اختراع الحجج؛ الواحدة تلو الأخرى، وشقّ سُبُلِ الإنكار، سبيلاً في إثر آخر؛ فاتجه البعضُ لوصف القرآن الكريم بأنه: {أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً وأصيلا}(الفرقان:5)..
لكنهم ،هنا أيضاً، لم يفلحوا في إخفاء الأثر العميق الذي أحدثه القرآن الكريم في نفوسهم.. فبوصفهم للقرآن الكريم بـ "الأساطير" ،بعد أن أطلقوا عليه صفة "السحر"، وجدناهم قد أثبتوا عجزَهُم عن ردّه إلى أصلٍ بيّنٍ واضح، فهو بالنسبة لهم سحرٌ غير معلوم المصدر!، أو أسطورةٌ تأتيهم من أعماق التاريخ المجهول، فهم لا يملكون لها ردّا، ولا يعرفون لها تفسيراً!.
بيانٌ يورثُ الحيرة
من هنا؛ فقد تدرجت بهم الحيلةُ لابتداعِ الطرقِ الكفيلةِ بالتغلب على هذا السحر ومواجهة سطوته، وعلى تلك الأساطير ،بزعمهم، والتغلب عليها، وقادهم ذلك إلى تفكيرٍ جديد: فما دام تأثيرهُ غامضاً لا يجدي معه التعامل العقلي البحت؛ فليكن السبيل لمواجهته عدمُ الاستماعِ إليه أصلاً!!: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن، والغَوْا فيه لعلكم تغلبون}(فصلت:26) فغايةُ غَلَبِهِمْ هنا أن يجعلوا أصابعهم في آذانهم فِراراً منه.. وإنه لغلبٌ؛ وأي غلب؟!.
باختصار؛ فقد تجلت الحيرةُ في كلّ ردود الأفعال التي فوجئت بِنَظْمِهِ البديع، فمن آمن كان في حيرةٍ من أمره؛ قبل أن يشرح الله صدره للإيمان، ولعل من آمن ،فيما بعد، كان دائم التساؤل مُتعجباً: ما الذي فعله القرآن بي؟!... ومن كذب على نفسه وخدعها بوصفه للقرآن بالسحر ،ليخلُص إلى نتيجة مفادها أن محمداً ليس أكثر من ساحر، كان في حيرةٍ من أمرهِ كذلك، ولعله قضى لياليه مُسَهَدّا(10) متعجباً يسائل نفسه: أيةُ قوةٍ تلك التي سيطرت عليّ فجعلتني أذهب إلى ما ذهبت إليه؟!...
وقد بيّن القرآنُ الكريم ،في لقطاتٍ نادرةٍ، ردودَ أفعال الفئة الأخيرة، فَصَوّرَها في حيرتها لا تكاد تثبت على حال، فهي متقلبةُ الفكر، مبلبلةُ الخاطر والوجدان، تتناوشها الوساوسُ؛ وتختلطُ عليها الأفكارُ بغير ما انضباط!، ولننظر إلى اللقطات النفسية العجيبة، والتي تجلت في حججهم المبتورة: {قد سمعنا...} ... {لو نشاء لقلنا مثل هذا...} {إن هذا إلا أساطير الأولين...}(الأنفال:31) {أضغاث أحلام...} {بل افتراه...} {بل هو شاعر}(الأ
ولنتأمل الجُمَلِ القصيرةِ؛ والعباراتِ القلقةِ التي صوّرت حالهم، فهي لا تكاد تقذفها الألسِنةُ حتى تنقطع!!... وكأن القرآن الكريم ،وهو يرسم لنا ردود أفعالهم تلك؛ إنما يصوّر لنا حالةً تنطبقُ على البشرِ جميعاً عندما يتنكرون لما هو واضحٌ جليّ، تلك الحالة التي إذا ما تلبست قوماً حوّلتهم إلى حالةٍ من القلق تُفقدهم توازنهم، فنراهم يتلجلجون في الوصف على غيرِ هدىً: {قد سمعنا...}... {لو نشاء لقلنا مثل هذا...}... الخ.. لكنهم ما إن يبدأوا باستعادة توازنهم، والسيطرة على انفعالاتهم؛ حتى نجدَهم يبدأون مرحلةً جديدةً من مراحل الكَذِبِ؛ لكنه كذب صُراح هذه المرة؛ كذبٌ مع سبق الإصرار؛ وبغيرما خجلٍ أو حياء!... وهي المرحلة التي انتهى إليها بعض من تنكر للرسالة المحمدية في مراحلها الأولى؛ حيث لجأوا إلى الادعاء ببشرية المصدر الذي أُخذ عنه القرآن الكريم، والادعاء بعدم اختلافه عن أقوال البشر في شيء؟!: {فقال إن هذا إلا سحرٌ يؤثر، إن هذا إلا قول البشر}(المدثر:24-25)..
من هنا أمكننا أن ندرك عُمق ما أحدثه القرآن الكريم من تأثيٍر غير مسبوق في النفس المتلقية لآياته، تلك التي آمنت، أو هاتيك التي كَفَرَتْ به على حدٍ سواء، لكن تظلُ أشدّ صورِ ذلك التأثير وضوحاً تلك الحيرة الكاملة؛ وذلك الجهل المطبق بماهية السرّ الذي مكّنّ للقرآن أن يُحدث كلّ ذلك الأثر، ولعل ذلك السرّ هو ما ترك الجميع يتساءلون وهم حائرون: أين يكمن السر؟!..
أين يكمن السر؟!
فأين يكمنُ سرّ تلك الزلزلة التي أحدثها القرآن الكريم في كياناتٍ لغويةٍ رفيعة؛ ذاتِ حسٍّ جماليٍّ مُرهف؟!..
... فهل كان السرّ كامناً في الموضوعات ذاتها؛ والتي تناولها القرآن الكريم في أول عهده؟!...
...أم كان السرّ في صُلب التشريعات التي أرساها؟...
... أو لعله كان موجوداً في تلك النبوءات المستقبلية التي تنبأ بها قبل حدوثها بسنوات؟!...
فإذا ما رحنا نستقرئُ الآياتِ الكريمةِ الأولى التي تنزّلت في مكة فلن نجد فيها هذا ولا ذاك، فهي لم تكن تحتوي تشريعاً مُحكماً، ولا علوماً كونيةً سابقة(11) ولن نجد فيها إخباراً بالغيب يقع بعد سنين، مثل ذلك الذي ورد في سورة "الروم"(12).
يجب إذنْ (أن نبحث عن "منبع السحر في القرآن" قبل التشريع المحكم، وقبل النبوءة الغيبية، وقبل العلوم الكونية، وقبل أن يصبح وحدةً مكتملةً تشمل هذا كله)(13)..
وهنا لابد لنا من إعادة السؤال كَرّةً أخرى: ما الذي احتواه القرآن الكريم من أسرار مكّنَتْ له كلّ ذلك التأثير الذي لا يردّ؛ وجعلت له تلك السطوة التي لا تقهر؟!..
لعل ما أحدث كلّ ذلك كان يتمثل في شحناتِ الانفعال التي دفعتها الآياتُ الكريمة في قلوب من استمع إليها، بغضّ النظر عن الموضوع المراد الإخبار عنه...
...ولعله كان متمثلاً في أسلوب الأداء القرآني غير المسبوق، فحيث كان القومُ في مكة أهلَ مُماراةٍ ولجُاجةٍ في القول عن فصاحةٍ وبيان، تجدُ في مكيّ القرآن الكريم ألفاظاً شديدةَ القرعِ على المسامع، تقذفُ حروفُها شَررَ الوعيدِ وألسِنةَ العذاب، وكلّ ذلك قد حدث بشكل استعصى على الفهم، فضلاً عن التحليل والتفسير: (وما درى عربيّ واحدٌ من أولئك: لِمَ جعلَ اللهُ في كتابه هذه المعاني المختلفة، وهذه الفنون المتعددة التي يُهيجُ بعضُها النظر، ويشحذُ بعضُها الفكر، ويمُكِنُّ بعضُها اليقين، ويبعثُ بعضُها على الاستقصاء)(14)... وكان هذا كلُه يقال، وذلك كلُه يقعُ و (القومَ في شغلٍ عن بيانِ هذه الصورة بما يتملونه منها في نفوسِهم، وما يحُسونه منها في شُعورِهم، وهم حَيارى مُضطربون، أو مُلبون مهطِعون)(15).
ولعل الصورةَ الآن قد بدأت بالاتضاح، فكلّ ذلك القدر من التأثير الذي أحدثه القرآن الكريم ،ومنذ اللحظة الأولى، لم يكن إلا استجابةً لذلك السمّو القرآني، والذي أمكن إدراكه؛ وتذوقه؛ والانفعال به.. بفضل ما كان للعرب ،في ذلك الوقت، من إتقانٍ لفنونِ القراءةِ والاستماع، مما مكن للنص القرآني أن يُظهرَ كلّ قُدُراتِه الكامنة، وتجلياتِه اللطيفة، وأحاسيسه الدافقة!.
واستمرت محاولات العلماء ،على مرّ العصور، للتعامل مع النص القرآني بحثاً عن الأسرار المخبوءة فيه، وذلك عبر محاولاتهم الإجابة على بعض التساؤلات المتعلقة بأسرار الإعجاز المبثوثة فيه، وفيما إذا كان ذلك الإعجاز كامناً في حروفه، أو في كلماته، أو هو في مجموع آياته؟!... ليستقر بهم المطاف ،أخيراً، إلى أن كلّ ما في القرآن عجيب، لكنهم استقروا على أن مناط التحدي والإعجاز في القرآن الكريم إنما هو في ناحيته البلاغية، وهي الناحية التي تحدّى القرآن الكريم بها العرب!...
بعضٌ من أشكال استعلاء القرآن
ولتجلية هذا الجانب العجيب من جوانب استعلاء القرآن الكريم على ما عداه من كلام البشر؛ وجدنا أبا بكرٍ الباقلاني يتناولُ النواحي البيانية فيه، مقارناً بين نَظْمِ القرآن الكريم ونَظْمِ ما عداه من الكلام قائلاً فيه: (والذي يشتملُ عليه بديعُ نظمه المتضمِنُ للإعجاز وجوهٌ: منها ما يرجع إلى الُجملة، وذلك أنّ نظمَ القرآن ،على تصرفِ وجوههِ؛ واختلافِ مذاهبهِ، خارجٌ عن المعهودِ من نظام جميع كلامهم، ومُباينٌ للمألوفِ من ترتيبِ خطابِهم، وله أسلوبٌ يختص به؛ ويتميزُ في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد، وذلك أن الطرق التي يتقيدُ بها الكلامُ البديعُ المنظومُ تنقسمُ إلى: أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه، ثم إلى: أنواعِ الكلامِ الموزونِ غيرِ المُقفى، ثم إلى أصنافِ الكلامِ المعدّل المُسْجَع، ثم إلى معدلٍ موزونٍ غيرِ مُسجع، ثم إلى ما يُرسلُ إرسالاً، فتُطلبُ فيه الإصابةُ والإفادةُ وإفهامُ المعاني المعترِضة على وجهٍ بديعٍ؛ وترتيبٍ لطيفٍ، وإن لم يكن معتدلاً في وزنه، وذلك شبيهٌ بجملة الكلام الذي لا يُتَعَمّلُ يُتصنعُ له..) ليقرر ،الباقلاني، من ثمّ: (وقد علِمنا أن القرآنَ خارجٌ عن هذه الوجوه، ومُباينٌ لهذه الطرق، فليس من بابِ السجعِ، وليس من قبيلِ الشعرِ، وتبيّن ،بخروجهِ عن أصنافِ كلامهم وأساليبِ خطابهم، أنه خارجٌ عن العادة، وأنه معجزٌ، وهذه خصوصيةٌ ترجعُ إلى جملةِ القرآنِ وتميزٌ حاصِلٌ في جميعِه)(16).
وكان الإمام "عبد القادر الجرجاني" واحداً ممن تحدثوا عن إعجاز القرآن الكريم، وعن تعلّق ذلك الإعجاز بنظم القرآن ذاته؛ وذلك في كتابه "دلائل الإعجاز". ونظراً لجهود الإمام "الجرجاني" في استقراء الإعجاز القرآني؛ فقد اعتُبِر القرنُ الخامس عصراً ذهبياً للإعجاز، وقد كان الانتصار قَبْلَهُ لِلَفظِ على المعنى؛ وذلك في القضية الجدلية "اللفظ والمعنى" في أيهما تكون الفصاحة والبلاغة؟!.
ولـ "ابن عطية" مقولةٌ رائعةٌ حول إعجاز ألفاظ القرآن الكريم يقول فيها: (وكتاب الله لو نُزعت منه لفظةٌ، ثم أُديرَ لسانُ العربِ على لفظةٍ أحسنَ منها لم يوجدْ!، ونحن يتبينُ لنا البراعةُ في أكثره، ويخفى علينا وجهُها في مواضع، لقصورنا عن مرتبة العرب ،يومئذ، في سلامةِ الذوق وجودةِ القريحة)(17).
وكان "مصطفى صادق الرافعي" ،رحمه الله، معتقداً بأن مظاهر الإعجاز في نظم القرآن الكريم تتمثل في ثلاثةِ وجوه: الحروف وأصواتها، الكلمات وحروفها، والجُمَل وكلماتها(18).
أما الدكتور "محمد عبد الله دراز" فقد قسّم ألفاظَ القرآن الكريم إلى قسمين: الصّدف؛ وسماه "القشرة السطحية"، و اللؤلؤة؛ وسماها "لب البيان القرآني"، ولما تكلم عن "القشرة السطحية" لجمال اللفظ القرآني لاحظ أنها تتألف من عنصرين مؤثرين: الأول: الجمال التوقيعي: ويتمثلُ في توزيعِ حركاتِ ألفاظِ القرآن الكريم وسكناتِها، ومدّاتِها وغُنّاتِها. أما الثاني فالجمال التنسيقي: ويتمثل في رصف الحروف في الكلمات وتأليفها معاً(19).
وحول المعجزة البيانيّة في القرآن الكريم يقول الدكتور "عدنان زرزور": (إن الكلام والبيان هو ما امتاز به الإنسان.. فجاءت معجزةُ محمدe بيانية، للإشارة إلى أن هذه الرسالة هي رسالة الإنسان، حيث كان الإنسان، وفي أي زمانٍ وُجد... ولم يكن البيانُ وقفاً على لغةٍ من اللغات، أو أمةٍ من الأمم، لكنّ اختيارَ لغةِ العربِ لينزلَ بها القرآن؛ وليحملَ بها إلى العالَمِ رسالةَ الإنسان؛ يشيرُ إلى فضيلةٍ بيانيةٍ جامعةٍ؛ امتاز بها اللسانُ العربيّ على كلّ لسان)(20).
من هنا؛ فقد أجمع الدارسون لهذا الجانب من علومِ القرآن على رأيٍ لم يختلفوا حوله!؛ ألا وهو فضيلةُ اللغةِ التي تنزّل بها القرآن الكريم على ما عداها، وعلى تميّزِ القرآن الكريم وبلاغتهِ من هذه الناحية..
ويقودنا هذا الإجماع إلى البحث عن أسرار هذا البيان؛ وذلك عبر الغوص في أعماقِ الأسئلةِ الباحثةِ عن سرّ اللغة؛ التي شرّفها الله عزّ وجلّ بأن حمّلها كلماتِه إلى عباده!.
ولئن كان من المستحيل تناول وحصر كل أسرار السمو اللغوي الموجود في القرآن الكريم من خلال كتاب واحد؛ فإننا نخصص الصفحات التالية لتناول ظاهرة لغوية فريدة، يمكن تبيُنُها وتَتَبُعُها في ألفاظ القرآن الكريم؛ بحيث باتت ذات أثر كبير في تحديد معانيه.. وهذه هي ظاهرة النسبية في القرآن الكريم