بدائع القرآن
الناقل :
mahmoud
| الكاتب الأصلى :
بلاغة القرآن
| المصدر :
www.islamiyyat.com
ليس البديع في يد الفنان حلية تقتسر، ولا زينة يستغنى الكلام عنها، ولا زخرفة يأتي دورها، بعد أن يكون المعنى قد استوفى تمامه.
ولا يجئ مكانه في المرتبة الثالثة، بعد استيفاء علمى المعاني والبيان حقهما، فإن الإنتاج الأدبي يبرز إلى الوجود في نظمه الخاص، وبه الصور البيانية ، والمحسنات البديعية دفعة واحدة، فكأنما هذا المحسن البديعى جاء في مكانه ليقوم بنصيبه من أداء المعنى أولا، أما ماجاء فيه من جمال لفظي فقد جاء من أن تلك الكلمة بالذات يتطلبها المعنى ويقتضى المجيء بها.
وليس كل ماذكره علماء البديع بألوان جمال تستحق أن تذكر بين المحسنات وذلك يتطلب معاودة النظر في دراسة هذه الألوان لاستيفاء الجميل وحذف مالا غناء فيه..
· أما ما ورد في القرآن مما نعده محسنات بديعية فقد وردت الألفاظ التي كان بها الحسن البديعى في مكانها، يتطلبها المعنى ولا يغنى غيرها غناءها ،
· خذ ماورد في القران الكريم من الجناس التام كقوله تعالى{ يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار* يقلب الله الليل والنهار* أن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار}
· تجد كلمة الأبصار الأولى مستقرة في مكانها فهي جمع بصر، ويراد به نور العين الذي تمّيز بين الأشياء ،
· وكلمة الأبصار الثانية جمع بصر بمعنى العين،
· ولكن كلمة الأبصار هنا أدل على المعنى المراد من كلمة العيون، لما أنها تدل على ما منحته العين من وظيفة الإبصار، وهي التي بها العظة والاعتبار، فأنت ذا ترى أن أداء المعنى كاملا تطلب إيراد هذه الكلمة ، حتى إذا وردت رأينا هذا التناسق اللفظي.
واقرا قوله تعالى{ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة} فكلمة (الساعة) الأولى جيء بها دالةعلى يوم القيامة، واختير لذلك اليوم هذا الاسم هنا للدلالة على معنى المفاجأة والسرعة ، وكلمة( ساعة) الثانية تعبر أدق تعبير عن شعور هؤلاء المجرمين فهم لا يحسون انهم قضوا في حياتهم الدنيا برهة قصيرة الأمد جدا حتى يعبروا عنها ببرهة أو دقيقة مثلا، ولا بفترة طويلة يعبرون عنها بيوم مثل، ا فكانت كلمة( ساعة) خير معبر عن شعورهم بهذا الوقت الوجيز.
· وما ورد في القرآن من جناس ناقص، فسبيله سبيل التام، وانظر إلى قوله تعالى{ وهم ينهون عنه وينأون عنه، وان يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون} ألا ترى أن موقف الكفار من القرآن أنهم يبعدون الناس عنه، كما يبعدون أنفسهم عنه فعبّر القرآن عن ذلك بكلمتين متقاربتين ليشعر قربهما بقرب معنييهما.. ويطول القول إذا مضينا في بيان كيف حلت كل كلمة في جمل الجناس محلها بحيث لا تغنى كلمة اخرى في هذا الموضع غناءها، ولابد أن أشير إلى تلك الآيات التي ورد فيها بعض ألوان من الجناس مثل قوله تعالى{ فأما اليتيم فلا تقهر و أّما السائل فلا تنهر}
· وقوله تعالى{ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة }
· وقوله{ والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق}
· وقوله سبحانه{ ولقد أرسلنا فيهم مُنِذِرين فانظر كيف كان عاقبة المُنذَرين}. فأنت ترى النهى عن القهر جاء إلى جانب اليتيم، بمعنى الغلبة عليه والاستيلاء على ماله و أما السائل فقد نهى عن نهره وإذلاله فكلا الكلمتين جاء في موضعه الدقيق، كما وردت كلمتا( ناظرة وناضرة ) أي مشرقة وإشراقها من نظرها الى ربها، وقد توازنت الكلمتان في جملتيهما لما بينهما من صلة السبب بالسبب واختيار كلمة( المساق) في الآية الثانية لتصور هذه الرحلة التي ينتقل فيها المرء من الدنيا إلى الآخرة فكأنه سوق مسافر ينتهي به السفر إلى الله.
· وفي كلمة( مُنذِرين) ما يشير إلى الربط بينهم وبين( المُنذَرين) الذين أرسلوا إليهم،..
· وقل مثل ذلك في قوله تعالى{ ويل لكل همزة لمزة} فان شدة التشابه بين الكلمتين يوحي بالقرابة بينهما مما يجعل إحداهما مؤكدة للأخرى، فلهمزة المغتاب واللمزة العيّاب، فالصلة بينهما وثقى كالصلة بين الفرح والمرح في قوله تعالى{ ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون} وإيثار كلمة النبأ في قوله سبحانه{ وجئتك من سبأ بنبأ يقين} لما فيها من معنى القوة ، لأن هذه المادة تدل على الارتفاع والنتوء والبروز والظهور، فناسب مجيئها هنا ووصف النبأ تأكيدا لقوته باليقين.
· ويعدون من أنواع البديع المشاكلة ويعنون بها ذكر الشي بغير لفظه لوقوعه في صحبته ويمثلون لذلك بقوله تعالى{ وجزاء سيئة سيئة مثلها} قالوا فالجزاء عن السيئة في حقيقة غير سيئة والأصل وجزاء سيئة عقوبة مثلها،
وقوله تعالى{ ومكروا ومكرالله ، والله خير الماكرين} والأصل أخذهم بمكرهم.
· وبقوله تعالى{ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدا عليكم }قالوا والمراد فعاقبوه فعدل عن هذا لأجل المشاكلة اللفظية ولكنني أرى القرآن اجل من أن يسمى الشيء بغير اسمه لمجرد وقوعه في صحبته بل أرى هذا التعبير يحمل معنى، وجئ به ليوحي إلى القارئ بما لا يستطيع أن يوحي به، ولا أن يدل عليه ما قالوا انه الاصل المعدول عنه، فتسمية جزاء السيئة سيئة ،لأن العمل نفسه سوء، وهو يوحي بان مقابلة الشر بالشر، وان كانت مباحة ، سيئة يجدر بالإنسان الكامل أن يترفع عنها وكأنه بذلك يشير إلى أن العفو افضل وأولى، وعلى هذا النسق تماما ورد قوله{ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.
· و أما مكر الله فان يفعل الماكر، يمدهم في طغيانهم يعمهون ثم يأخذهم اخذ عزيز مقتدر..
· وعدّوا من ألوان البديع الاستثناء ،ومثلوا له بقوله تعالى ، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} وفي هذا التعبير فضلا عن إيجازه ، إيحاء بطول المدة وتهويل للأمر على السامعين، وفي ذلك تمهيد العذر لنوح في الدعاء على قومه وذلك لأن أول ما يطرق السمع ذكر( الألف) فتشعر بطول مدته ونتصور جهاد نوح في ذلك الزمن المديد ولن يقلل الاستثناء من شان هذا التصور ولا يتحقق هذا الإحساس إذا بدأت بغير الألف..
· ومنها اللف والنشر بذكر شيئين أو اكثر، ثم ذكر ما يقابلها، وفيه جمع للمتناسبات من غير فاصل بينها.
· خذ قوله تعالى{ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله} ألا ترى بين الليل والنهار مناسبة تجمع بينهما ثم يثير هذا تطلعا إلى معرفة السبب في انهما من رحمته وفي ذلك عنصر التشويق وفي تقديم السكون على ابتغاء الفضل تقديم الاستعداد للجهاد في الحياة على الجهاد ، وتأمل كذلك ما يثيره الإجمال من التشويق في قوله تعالى{ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ، فأما الذين اسودت وجوههم اكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون و أما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون} وفي الإجمال الأول إعطاء صورة سريعة لهذا اليوم، ثم يعود بعدئذ إلى إكمال الصورة في تفصيل وإيضاح، وربما يكون قد بدا عندما فصل يذكر من اسودت وجوههم، ليكون الحديث منهيا بذكر طريقة الخلاص من عذاب ذلك اليوم.
· ومن اللف والنشر قوله تعالى{ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا} والسر في الجمع أولا ذكر المنهي عنه جملة واحدة ، ثم العود بعد ذلك لبيان سر هذا النهى .
· وما ورد في القرآن من طباق بالجمع بين المتضادين كانت الكلمة فيه مستقرة في مكانها تمام الاستقرار سواء كان التضاد لفظا أو معنى ، حقيقة أو مجازا، إيجابا او سلبا، كقوله تعالى{ وما يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور} فأنت تراه يعقد الموازنة بين هذين الضدين ، ولا مفر من الجمع بينهما في الجملة لعقد هذه الموازنة التي تبين عدم استوائهما وكقوله تعالى{ وانه هو اضحك و أبكى وأنه هو أمات وأحيا} وقوله سبحانه وتحسبهم أيقاظا وهم رقود}
· ومن الطباق السلبى قوله تعالى{ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}
· وقوله فلا تخشوا الناس واخشون}
· ومن الطباق المعنوى قوله تعالى{ أن انتم الإ تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون } أي إنا لصادقون فان الرسول يجب أن يكون صادقا..
· ومما يرتبط بالطباق المقابلة بان يؤتى بمعينين أو اكثر ثم بما يقابل ذلك على الترتيب فمن الجمع بين الاثنين قوله تعالى{ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} وبين الثلاثة قولة سبحانه{ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} وبين الأربعة قوله تعالى{ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى و أما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} وهذه المقابلة بين المعاني تزيدها في الفكر وضوحا، وفي النفس رسوخا....
· ومن ذلك ترى أن ما ورد في القران من طباق ومقابلة لم يجئ اعتسافا و إنما جاء المعنى مصورا في هذا الألفاظ التي أدت المعنى خيرا أداء ، وأوفاه وكان منها هذا الطباق والمقابلة
· ومن ألوان البديع العكس بان يقدم في الكلام جزء، ويؤخر آخر ثم يقدم المؤخر ويؤخر المقدم، وجمال العكس في انه يربط بين أمرين ويعقد بينهما أوثق الصلات أو اشد ألوان النفور، تجد ذلك في قوله سبحانه{ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} وقوله تعالى{ يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} وقوله تعالى{ هن لباس لكم وانتم لباس لهن} وقوله تعالى{ لاهن حل لهم ولا هم يحلون لهن} وقوله تعالى {ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ}
· ومن اجمل أنواعه ائتلاف المعنى بذكر الأمور المتناسبة بعضها إلى جانب بعض كقوله سبحانه {قال إنما اشكوا بثي وحزني إلى الله } وقد يخفى في بعض الأحيان وجه الجمع بين المعينين، كما في قوله سبحانه {أن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وانك لا تظمأ فيها ولا تضحى} فقد يبدو أن الوجه الجمع بين الجوع والظمأ والعرى والضحاء ولكن التأمل الهادئ يدل على أن الجوع والعرى يسبيان الشعور بالبرد فجمعا معا والظمأ والضحاء يسبيان الشعور بالحر، إذ الأول يبعث التهاب الجوف ، والثاني يلهب الجلد، فناسب ذلك الجمع بينهما
· و ألوان البديع في القران كثير فقد أفراد ابن أبى الإصبع لذلك كتابا عدد فيه هذه الألوان ومثل لها وذكر من ذلك اكثر من مائة نوع ...