رابعا: خصائص الأنبياء والرسل: 1- الوحي: خصّ الله الأنبياء دون سائر البشر بوحيه إليهم، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ﴾ [الكهف:110]. 2- العصمة: الأنبياء معصومون في تبليغ ما أمرهم الله عز وجل بتبليغه، وهم معصومون أيضا من الدنيَّات المخلَّة بالمروءة، ومعصومون كذلك من كبائر الذنوب وقبائحها، ويقع منهم عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم صغار الذنوب، كأكل آدم من الشجر التي نُهي عنها قال تعالى: ﴿فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَعَصَىٰ ءادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ﴾ [طه:121]، وتسرَّع داود في الحكم قبل سماع قول الخصم الثانِي، فأسرع إلى التوبة، فغفر الله له ذنبه قال تعالى عنه: ﴿فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذٰلِكَ﴾ [ص: 24، 25]، وقد عاتب الله نبيَّنا صلى الله عليه وسلم على تحريمه على نفسه ما أباحه الله له: ﴿يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوٰجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [التحريم:1]. ولا يتنافى وقوع الصغيرة من النبيِّ في كونِهم أسوةً وقدوة، لأنّه يسارع إلى التوبة، فيكون قدوة وأسوة للعاصين بأن يسارعوا إلى التوبة والاستغفار، فالأنبياء لا يُقَرُّون على المعصية، ولا يؤخِّرون التوبة، وهم بعدَ التوبة أكملُ منهم قبلها. وهذه الصغائر من أدلِّ الدلائل على بشريتهم، وهي صغائر نادرة معدودة، لا تقدح في عصمتهم، ولا سبيل فيها إلى النيل منهم والطعن فيهم. 3- البشرية: الذين يستعظمون ويستبعدون اختيار الله بعض البشر لتحمُّل الرسالة لا يقدرون الإنسان قدره، فالإنسان مؤهَّل لتحمّل الأمانة العظمى قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَـٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُول﴾ [الأحزاب:72]. وهم عندما استعظموا ذلك لم ينظروا إلى أنّ الرسول ليس جسدًا فقط يأكل ويشرب وينام ويمشي في الأسواق لحاجته، ﴿وَقَالُواْ مَا لِهَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى ٱلأسْوَاقِ﴾ [الفرقان:7]، بل له جوهرٌ متمثل في نفخة الله له من روحه، ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى﴾ [الحجر: 29]، ثم إنّ الرسول يُعدّ للرسالة إعدادًا، قال الله تعالى مخاطبا موسى عليه السلام: ﴿وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى﴾ [طه:41]، وأحاط نبيَّه محمّدًا صلى الله عليه وسلم برعايته من صغره قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَىٰ (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ﴾ [الضحى:6-8]، وعن أنس ابن مالك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمِّه ـ يعني ظئره ـ فقالوا: إنّ محمدًا قد قتل، فاستقبلوه، وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره[1]. والبشر أقدر على القيادة والتوجيه، وهم الذين يصلحون أن يكونوا قدوة وأسوة، وإنّها لحكمة تبدو في رسالة واحدٍ من البشر إلى البشر، واحد من البشر يحسُّ بإحساسهم، ويتذوَّق مواجدهم، ويعانِي تجاربَهم، ويدرك آلامهم وآمالهم، ويعرف نوازعهم وأشواقهم، ويعلم ضروراتِهم وأثقالهم، ومن ثم يعطف على ضعفهم ونقصهم، ويرجو قوتَهم واستعلاءهم، ويسير بِهم خطوة خطوة، وهو يفهم ويقدِّر بواعثهم وتأثراتِهم واستجاباتِهم، لأنّه في النهاية واحدٌ منهم، يرتاد بِهم الطريق إلى الله، بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق. وهم من جانبهم يجدون فيه القدوة، لأنّه بشر مثلهم، يتسامى بِهم رويدًا رويدًا، ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أنّ الله قد فرضها عليهم، وأرادها منهم، فيكون بشخصه ترجمة حيّة للعقيدة التي يحملها إليهم، وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معروضة لهم، ينقلونَها سطرا سطرًا، ويحققونَها معنى معنى، وهم يرونَها بينهم، فتهفو نفوسهم إلى تقليدها، لأنّها ممثلة في إنسان[2]. 4- خيرية النسب: الرسل ذوو أنساب كريمة، فجميع الرسل بعد نوحٍ من ذريته، وجميع الرسل بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرٰهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَـٰبَ﴾ [الحديد:26]، ولذلك فإنّ الله يصطفي لرسالته من كان من خيار قومه نسبًا، عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسمعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)[3]. وهذا أمر مشتهر معروف قال هرقل ملك الروم: "فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها"[4]. 5- أحرار بعيدون عن الرق: لا يكون الأنبياء والرسل أرقاء أبدًا، فالرقّ نقص بشري، رفع الله أنبياءه عنه، وما حدث ليوسف عليه السلام إنّما هو رقٌّ خارجٌ عن الأصل، فالأصل حريته، والرق طارئ عليه ظلمًا وعدوانًا، وكان نوعًا من أنواع البلاء من الله عليه، ولم يستمر، قال السفاريني: "الرقّ وصف نقصٍ لا يليق بمقام النبوة، والنبيّ يكون داعيًا للنّاس آناء الليل وأطراف النهار، والرقيق لا يتيسر له ذلك، وأيضًا الرِقِّيّة وصف نقصٍ يأنف منه النّاس، ويستنكفون من اتباع من اتصف بِها، وأن يكون إمامًا لهم وقدوة، وهي أثر الكفر، والأنبياء منَزَّهون عن ذلك"[5]. 6- لا يكونون إلا رجالاً: ومن خصائص الأنبياء وسنة الله فيهم أن جعلهم رجالاً، قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء:7]. 7- تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم: هذه خاصية ليست لغير الأنبياء، قال صلى الله عليه وسلم: (إنّ عيني تنامان، ولا ينام قلبي)[6]، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة الإسراء: والنبي صلى الله عليه وسلم نائمة عيناه، ولا ينام قلبه. وكذلك الأنبياء تنام أعينهم، ولا تنام قلوبُهم[7]. 8- تخيير الله لهم عند الموت: خصّهم الله بِهذه الخاصية، فيخيّرون عند الموت، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من نبيّ يمرض إلاّ خُيِّر بين الدنيا والآخرة)، وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذتْه بحَّة شديدة، فسمعته يقول: (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين)، فعلمت أنّه خُيِّر[8]. 9- لا تأكل الأرض أجسادهم: والأرض لا تأكل أجساد الأنبياء كرامة لهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله عز وجل قد حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام)[9]. فمهما طال الزمان وتقادم العهد تبقى أجسادهم محفوظة من البلى. 10- يكونون أحياء في قبورهم: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (مررتُ على موسى ليلة أسري بِه عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره)[10]. 11- يقبرون حيث يموتون: وهذا ممّا خُصّ به الأنبياء بعد موتِهم أنّهم لا يقبرون إلاّ حيث يموتون، ولذلك قُبر صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها، تحت فراشه الذي مات عليه، فعن ابن جريج قال: أخبرنِي أبِي أنّ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يدروا أين يقبرون النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يقبر نبيٌّ إلاَّ حيث يموت)، فأخَّرُوا فراشه، وحفروا له تحت فراشه[11]. _______________________ [1] مسلم في الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم (162). [2] انظر: في ظلال القرآن (19/2553). [3] مسلم في الفضائل، باب فضل نسب النبيِّ صلى الله عليه وسلم (2276). [4] البخاري في بدء الوحي، باب بدء الوحي (7). [5] لوامع الأنوار البهية (2/265). [6] البخاري في الجمعة، باب قيام النبيّ صلى الله عليه وسلم بالليل (1147)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبيّ صلى الله عليه وسلم (738) من حديث عائشة رضي الله عنها. [7] البخاري في المناقب، باب كان النبيّ صلى الله عليه وسلم تنام عينه، ولا ينام قلبه (3570). [8] البخاري في التفسير، باب ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقً﴾ (4586). [9] أحمد (4/8)، والنسائي في الجمعة، باب إكثار الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم (1374)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب فضل الجمعة (1085)، والحاكم (1/413) من حديث أوس بن أوس رضي الله عنه، قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1301). [10] مسلم في الفضائل، باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم (2375). [11] أخرجه أحمد (1/7) بسندٍ منقطع. وأخرجه الترمذي (108) من طريق عبد الرحمن بن أبي بكر، عن ابن أبي مليكة عن عائشة عن أبي بكر، وابن أبي بكر ضعيف. وأخرجه الترمذي في الشمائل (378)، والطبراني في الكبير (6366) بإسناد صحيح عن سالم بن عبيد الأشجعي أنّ النّاس قالوا لأبي بكر: أين يُدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: في المكان الذي قبض فيه روحه، فإنّ الله لم يقبض روحه إلاّ في مكان طيّب. فعلموا أنّه صدق.