الحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمد خاتم الرّسل ومن تمسَّك بسنّته وسار على نهجه إلى يوم الدين. أمّا بعد: فإنَّ العقيدة هي الأساس الذي يقوم عليه بنيان الأمم، فصلاح كل أمّة ورقيّها مربوط بسلامة عقيدتها وسلامة أفكارها، ومن ثمّ جاءت رسالات الأنبياء -عليهم الصلاة والسّلام- تنادي بإصلاح العقيدة. فكل رسول يقول لقومه أوّل ما يدعوهم: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف:59]، ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النّحل:36].
وذلك لأنّ الله -سبحانه- خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56] والعبادة حق الله على عباده، كما قال النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه-: (أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله ؟ قال: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. وحق العباد على الله: أن لا يعذّب من لا يشرك به شيئ) [البخاري "13/300" ومسلم30] وهذا الحق هو أوّل الحقوق على الإطلاق لا يسبقه شيء ولا يتقدمه حق أحد. قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَان﴾ [الإسراء:23]، وقال تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَان﴾ [الأنعام:151] ولأسبقية هذا الحق وأولويته على سائر الحقوق، وكونه الأساس الذي ينبني عليه سائر أحكام الدين؛ نرى النّبيّ –صلى الله عليه وسلم- لبث في مكّة ثلاث عشرة سنة يدعو النّاس إلى القيام به ونفي الإشراك عنه. وجاء القرآن الكريم في معظم آياته بتقريره ونفى الشُّبَه عنه، وكل مصلٍّ فرضًا أو نفلاً يعاهد الله على القيام به في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [ الفاتحة:5]. وهذا الحق العظيم يسمّى توحيد العبادة أو توحيد الإلهيّة، أو توحيد الطلب والقصد. أسماء لمسمّى واحد، وهذا التّوحيد مركوز في الفطر: (كل مولود يولد على الفطرة)، وإنّما يطرأ الانحراف عنه بسبب التربية الفاسدة: (فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه) [مسلم "2047"]. وهذا التّوحيد أصيل في العالم والشرك طارئ عليه ودخيل فيه، قال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة:213]، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُو﴾ [يونس:19]. قال ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: (كان بين آدم ونوح عليهما الصّلاة والسّلام عشرة قرون كلّهم على الإسلام) [تفسير ابن كثير "1/250"]. قال العلاّمة ابن القيّم: «هذا هو القول الصّحيح في الآية وذكر ما يعضده من القرآن» [إغاثة اللهفان "2/201]. وأوّل ما حدث الشرك في قوم نوح، حين غلوا في الصالحين واستكبروا عن دعوة نبيّهم: ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْر﴾ [نوح:23]. قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجالسون فيها أنصابا وسمّوها بأسمائهم. ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسى العلم عُبدت) [البخاري "6/133"]. قال الإمام ابن القيّم -رحمه الله-: «قال غير واحد من السّلف: لمّا ماتوا عكفوا على قبورهم، ثمّ صوّروا تماثيلهم، ثمّ طال عليهم الأمد فعبدوهم» [إغاثة اللهفان "2/202"]. ثمّ قال -رحمه الله-: «وقد تلاعب الشّيطان بالمشركين في عبادة الأصنام بكل قومٍ على قدر عقولهم، فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوّروا تلك الأصنام على صورهم، كما في قوم نوح، وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين.
وأمّا خواصّهم فاتخذوا الأصنام على صور الكواكب المؤثرة في العالم بزعمهم، وجعلوا لهم بيوتا وسدنةً وحجّابا وقربانا. ولم يزل هذا في الدنيا قديما وحديثا. وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة، وهم قوم إبراهيم -عليه السلام-، الذين ناظرهم في بطلان الشّرك وكسر حجّتهم بعلمه وآلهتهم بيده، فطلبوا تحريقه. وطائفةً أخرى اتخذت للقمر صنما، وزعموا أنّه يستحق العبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلي. وطائفةً تعبد النّار وهم المجوس، فيبنون لها بيوتا كثيرةً، ويتخذون لها الوقوف والسّدنة والحجّاب، فلا يدعونها تخمد لحظةً واحدةً. وطائفةً تعبد الماء، تزعم أنّ الماء أصل كلّ شيء وبه كلّ ولادةٍ ونمو ونشوء وطهارة وعمارة. وطائفةً تعبد الحيوانات: فطائفة عبدت الخيل، وطائفة عبدت البقر، وطائفة عبدت البشر الأحياء والأموات، وطائفة تعبد الجنّ، وطائفة تعبد الشجر، وطائفة تعبد الملائكة» [إغاثة اللهفان "2/218، 219، 229، 230، 231، 233] انتهى كلام ابن القيّم - رحمه الله -. ومن الأثر الذي مرّ من رواية البخاري عن ابن عبّاس في بيان سبب حدوث الشرك في قوم نوح .. ندرك أولاً: خطورة تعليق الصور على الجدران ونصب التماثيل في المجالس والميادين، وأنّ ذلك يؤول بالنّاس إلى الشرك، بحيث يتطور تعظيم تلك الصور والتماثيل إلى عبادتها واعتقاد جلب الخير ودفع الشّر منها، كما حدث لقوم نوح. ندرك ثانيا: مدى حرص الشّيطان على إضلال بني آدم ومكره بهم، وأنّه قد يأتيهم من ناحية استغلال العواطف ودعوى الترغيب في الخير، فإنه لمّا رأى في قوم نوح ولوعهم في الصالحين ومحبّتهم لهم دعاهم إلى الغلو في هذه المحبّة، بحيث أمرهم بنصب صورهم على المجالس، وهدفه من هذا الخروج بهم عن جادة الصّواب. ندرك ثالثا: أنّ الشيطان لا يقصر نظره على إغواء الأجيال الحاضرة، بل يمتد إلى الأجيال المستقبلة، فإنّه لمّا لم يتمكّن من إيقاع الشرك في الجيل الحاضر من قوم نوح طمع في الجيل المقبل ونصب له الأحبولة. ندرك رابعا: أنّه لا يجوز التساهل في وسائل الشّر، بل يجب قطعها وسد بابها. ندرك خامسا: فضل العلماء العاملين، وأنّ وجودهم في النّاس خير، وفقدانهم شر، فإنّ الشيطان لم يتمكن من إغواء القوم حتى فقدوا. أنواع التوحيد: إنّ التّوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبيّة، المتمثّل بالإقرار بالخالق، وانفراده بالخلق والتّدبير والإحياء والإماتة وجلب الخير ودفع الشّر. وهذا النّوع لا يكاد ينازع فيه أحد من الخلق، حتى إنّ المشركين كانوا يقرّون به مع شركهم ولا ينكرونه، كما ذكر الله -تعالى- عنهم في قوله: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ [يونس: 31.] وأمثالها من الآيات كثير. وفيها البيان الواضح بأنّ المشركين كانوا يقرّون بهذا النّوع من التّوحيد، وإنّما كانوا يجحدون النوع الثاني منه، وهو توحيد العبادة، المتمثّل في إفراد الله -سبحانه وتعالى- في الطّلب والقصد في كل ما يصدر من العبد من أنواع العبادة، كما تدل عليه وتعبّر عنه كلمة "لا إله إلاّ الله".
إنّ هذه الكلمة تثبت العبادة بجميع أنواعها لله وحده وتنفيها عمّا سواه، ولهذا لمّا طلب النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- من المشركين أن يقولوها امتنعوا وقالوا: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص:5] لعلمهم أنّ من قالها فقد اعترف ببطلان عبادة كل ما سوى الله وأثبت العبادة لله وحده، فإنّ الإله معناه: المعبود، "والعبادة اسم جامع لكل ما يحبّه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة"، فمن نطق بهذه الكلمة وهو مع هذا يدعو غير الله فقد تناقض مع نفسه. والعلاقة بين توحيد الربوبيّة وتوحيد الإلهيّة هي التلازم، بمعنى: أنّ الإقرار بتوحيد الربوبيّة يوجب الإقرار بتوحيد الإلهيّة، والقيام به ظاهرًا وباطنا. ولهذا كان الرّسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- يطالبون أممهم بذلك، ويحتجّون عليهم بما يعترفون به من توحيد الربوبيّة، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الأنعام:102]، وقال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِه﴾ [الزمر:38]. فالإقرار بتوحيد الربوبيّة مركوز في الفطر، لا يكاد ينازع فيه أحد من المشركين، ولم يعرف عن أحد من طوائف العالم إنكار هذا النّوع إلاّ الدهرية الذين يجحدون الخالق، ويزعمون أنّ العالم يسير بنفسه من غير مدبّر له، كما قال الله عنهم: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاّ الدَّهْرُ﴾ [الجاثية:24]، فردّ الله عليهم بقوله: ﴿وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية:24]. فهم لم يبنوا إنكارهم هذا على برهان دلّهم عليه بل على مجرّد ظن، والظّن لا يغني من الحق شيئا، كما لم يستطيعوا الإجابة عن قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ﴾ [الطور:35-36]، ولا عن قوله تعالى: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ [لقمان:11]، ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [الأحقاف:4]. ومن تظاهر بجحد هذا النّوع من التّوحيد كفرعون فهو مقرٌّ به في الباطن، كما قال الله -تعالى- عنه: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ [الإسراء:102]، وقال عنه وعن قومه: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّ﴾ [النّمل:14]. وقال تعالى عن الأمم الأولى: ﴿وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ [العنكبوت:38]. وهذا النوع من التّوحيد كما لم يذهب إلى جحده طائفةٌ معروفةٌ من بني آدم، كذلك في الغالب لم يقع فيه شرك، فالكل مقرون بأنّ الله هو المنفرد بالخلق والتّدبير، ولم يثبت عن أحد من طوائف العالم إثبات خالقين متساويين في الصّفات والأفعال، فالثانوية من المجوس الذين يجعلون للعالم خالقين: خالقا للخير وهو النّور، وخالقا للشّر وهو الظلمة، لا يسوون الظلمة بالنّور، فالنّور عندهم هو الأصل، والظلمة حادثة، وهم متفقون على أنّ النّور خيرٌ من الظلمة. وكذلك النّصارى القائلون بالتثليث، لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب منفصل بعضهم عن بعض، بل هم متفقون على أنّ خالق العالم واحد، ويقولون: إنّ الأب هو الإله الأكبر. والحاصل أنّ إثبات توحيد الربوبيّة محلّ وفاق، والشرك فيه قليل، ولكن الإقرار به وحده لا يكفي العبد في حصول الإسلام، بل لا بدّ مع ذلك أن يأتي بلازمه، وهو: توحيد الإلهيّة، فإنّ الأمم الكفرية كانت تقرّ بتوحيد الربوبيّة، خصوصا مشركي العرب الذين بعث فيهم خاتم الرّسل -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكونوا بهذا مسلمين لمّا لم يأتوا بتوحيد الإلهيّة، والمستقرئ لآيات القرآن الكريم يجد أنّها تطالب بتوحيد الإلهيّة، وتستدل عليه بتوحيد الربوبيّة، فهي تطالب المشركين بما جحدوه وتستدل عليه بما أثبتوه. فهي تأمر بتوحيد العبادة، وتخبر عن إقرارهم بتوحيد الربوبيّة، فتذكر توحيد العبادة في سياق الطلب، وتوحيد الربوبيّة في سياق الخبر. وأوّل أمرٍ جاء في المصحف هو قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:21-22]. وكثيرًا ما نجد في القرآن الكريم الدعوة إلى توحيد العبادة، والأمر به، والجواب عن الشُّبه الموجّهة إليه، وكلّ سورة في القرآن بل كلّ آية في القرآن فهي داعيةً إلى هذا التّوحيد، لأنّ القرآن إمّا خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهذا هو توحيد الربوبيّة. وإمّا دعاء إلى عبادته وحده لا شريك له وترك ما يعبد من دونه، وهذا هو توحيد الإلهيّة. وإمّا خبر عن إكرامه لأهل توحيده وطاعته في الدنيا والآخرة، وهذا جزاء توحيده. وإمّا خبر عن أهل الشرك وعن جزائهم في الدنيا والآخرة، وهذا جزاء من خرج عن حكم التّوحيد. وإمّا أحكام وتشريع، وهذا من حقوق التّوحيد، فإنّ التّشريع حق لله وحده. وهذا التّوحيد بجميع أنواعه وحقوقه تضمّنته كلمةٌ واحدةٌ هي: "لا إله إلاّ الله"، فإنّها تتضمّن نفيا وإثباتا. نفي الإلهيّة الحقّة عن كل ما سوى الله وإثباتها لله وحده. كما تتضمّن: ولاءً وبراءً؛ ولاء لله وبراء مما سواه. ودين التّوحيد قائمٌ على هذين الأساسين، كما قال تعالى عن خليله إبراهيم -عليه الصّلاة والسّلام- إنّه قال لقومه: ﴿نَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ [الزخرف:26-27] . وهذا منهاج كلّ رسول يبعثه الله، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النّحل:36]، وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَ﴾ [البقرة:256]. فمن قال: "لا إله إلاّ الله" فقد أعلن البراءة من عبادة كل ما سوى الله، والتزم القيام بعبادة الله، وذلك عهد يقطعه الإنسان على نفسه: ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيم﴾ [ الفتح:10]. فلا إله إلاّ الله: إعلان لتوحيد العبادة، لأنّ الإله معناه: المعبود، فمعناها: لا معبود بحق إلاّ الله. فمن قال هذه الكلمة عارفا لمعناها، عاملاً بمقتضاها من نفي الشرك وإثبات الوحدانيّة لله، مع اعتقاد ذلك والعمل به فهو المسلم حقا. ومن قالها وعمل بمقتضاها ظاهرًا من غير اعتقاد في القلب فهو المنافق. ومن قالها بلسانه وعمل بخلافها من الشرك المنافي لمدلولها فهو الكافر، ولو قالها مرارًا وتكرارًا، كحال عُبّاد القبور اليوم، الذين ينطقون بهذه الكلمة ولا يفقهون معناها، ولا يكون لها أثر في تعديل سلوكهم وتصحيح أعمالهم، فتراه يقول: لا اله إلاّ الله، ثمّ يقول: المدد يا عبد القادر، يا بدوي، يا فلان يا فلان، يستنجد بالأموات، ويستغيث بهم في الملمات. إنّ المشركين الأوّلين عرفوا من معنى هذه الكلمة ما لم يعرفه هؤلاء، حيث أدركوا أن الرّسول صلى الله عليه وسلم حينما قال لهم: (قولوا: لا إله إلاّ الله) فقد طلب منهم ترك عبادة الأصنام وعبادة الله وحده، ولهذا قالوا: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِد﴾ [ص:5] وقال قوم هود: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَ﴾ [الأعراف:70] وقال قوم صالح له: ﴿أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَ﴾ [هود:62] وقال قوم نوح له من قبل: ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْر﴾ [نوح:23] هذا ما فهمه الكفّار من معنى: لا إله إلاّ الله؛ أنّه ترك لعبادة الأصنام، وإقبالٌ على عبادة الله وحده، فلهذا أَبَوا النّطق بها، لأنّه لا يجتمع مع عبادة اللات والعزّى ومناة. وعُبّاد القبور اليوم لا يدركون هذا التناقض، فهم ينطقون بها مع بقائهم على عبادة الأموات. وبعضهم يفسّر الإله بأنّه: القادر على الاختراع والخلق والإيجاد، فيكون معنى "لا إله إلاّ الله" عنده: لا قادر على الاختراع إلاّ الله. وهذا من أفحش الخطأ، فإنّ من فسّرها بذلك لم يزد على ما أقرّ به الكفّار، فإنّهم كانوا يقرّون بأنه: لا يقدر على الاختراع والخلق والرّزق والإحياء والإماتة إلاّ الله، كما ذكر الله -تعالى- ذلك عنهم ولم يصيروا به مسلمين. نعم، هذا المعنى الذي يذكرونه داخل في معنى لا إله إلاّ الله، لكن ليس هو المقصود من هذه الكلمة. وللحديث بقية