الشرك في توحيد العبادة: والشرك في العبادة هو صرفها أو صرف شيء منها لغير الله. وقد ألمحنا فيما سبق إلى مبدأ حدوثه في الأرض، ولا زال مستمرًا في الخلق إلاّ من رحم الله. وهذا الشرك نوعان: شرك أكبر يُخرج من الملّة، كالذّبح لغير الله ودعاء غير الله، أو صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله. وشرك أصغر لا يخرج من الملّة، لكنه ينقص التّوحيد، وقد يتمادى بصاحبه حتى يقع في الشرك الأكبر، وذلك كالحلف بغير الله، وكثير الرياء، وقول: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت. وما أشبه ذلك من الألفاظ التي تجري على اللسان ولا يقصد معناها. وقد كثر الشرك في هذه الأمّة، واستشرى أمره بسبب ابتعاد أكثر الناس عن الكتاب والسنّة، وتقليدهم للآباء والأجداد على غير هدى، وبسبب الغلو في تعظيم الموتى والبناء على قبورهم، وبسبب الجهل بحقيقة دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه-: (إنّما تنقض عرى الإسلام عروةً عروةً إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية)، وبسبب رواج الشُّبه والحكايات التي ضلّ بها أكثر النّاس واعتبروها أدلّةً يستندون إليها في تبرير ما هم عليه. وهذه الشُّبه منها ما أدلى به مشركو الأمم السابقة، ومنها ما أدلى به مشركو هذه الأمّة. ومن هذه الشُّبه: أولاً: شبهة تكاد تكون مشتركة بين طوائف المشركين في مختلف الأمم قديما وحديثا، وهي: شبهة الاحتجاج بما عليه الآباء والأجداد، وأنّهم ورثوا هذه العقيدة عنهم، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف:23] وهذه حجّة يلجأ إليها كل من يعجز عن إقامة الدليل على دعواه، وهي حجّةٌ داحضةٌ لا يقام لها وزن في سوق المناظرة، فإنّ هؤلاء الآباء الذين قلّدوهم ليسوا على هدى، ومن كان كذلك لا تجوز متابعته والاقتداء به، قال تعالى: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ﴾ [المائدة:104، وقال تعالى: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة:170] وإنّما يكون الإقتداء بالآباء محمودًا إذا كانوا على حق، قال تعالى عن يوسف -عليه السلام-: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾ [يوسف:38]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الطور:21]
وهذه الشُّبهة متغلغلة في نفوس المشركين، يقابلون بها دعوات الأنبياء -عليهم الصّلاة والسّلام-. فقوم نوح لمّا قال لهم نوح: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ﴾ [المؤمنون:23-24]
فجعلوا ما عليه آباؤهم حجّة يعارضون بها ما جاءهم به نبيّهم نوح -عليه السّلام-.
وقوم صالح يقولون له: ﴿أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَ﴾ [هود:62]، وقوم شعيب يقولون له: ﴿أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَ﴾ [هود:87]، وقوم إبراهيم يقولون له لمّا أفحمهم بالحجّة وقال لهم: ﴿مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [الشعراء:70-74]، وقال فرعون لموسى: ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى﴾ [طه:51] وهكذا الكفر ملّةٌ واحدةٌ، لا يملك أهله حجّة يدفعون بها الحق إلاّ هذه الحجّة الواهية.
ثانيا: الشبهة التي أدلى بها مشركوا قريش وغيرهم، وهي الاحتجاج بالقدر على تبرير ما هم عليه من الشّرك، قال تعالى في سورة الأنعام: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام:148]، وقال في سورة النّحل: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [النّحل:35]، وقال في سورة الزخرف: ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾ [الزخرف:20] قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عند آية الأنعام: «مناظرة ذكرها الله –تعالى-، وشبهة تشبث بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرّموه: بأنّ الله مطلع على ما هم فيه من الشرك والتّحريم لما حرّموه، وهو قادر على تغييره، بأن يلهمنا الإيمان، ويحول بيننا وبين الكفر فلم يغيّره؛ فدلّ على أنّه بمشيئته وإرادته ورضاه منّا بذلك. قال: وهي حجّةٌ داحضةٌ باطلة، لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمّر عليهم، وأدال عليهم رسله الكرام، وأذاق المشركين من أليم الانتقام: ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ﴾ أي: بأنّ الله راضٍ عنكم فيما أنتم فيه، ﴿فَتُخْرِجُوهُ لَنَ﴾ أي: فتظهروه لنا وتبيّنوه وتبرزوه، ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ﴾ أي: الوهم والخيال، ﴿وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ﴾ تكذبون على الله فيما ادعيتموه» [تفسير ابن كثير "2/186"] انتهى. وقال عند تفسير آية النّحل: "ومضمون كلامهم: أنّه لو كان الله تعالى كارها لما فعلناه لأنكره علينا بالعقوبة ولما مكننا منه. قال الله -تعالى- رادًّا عليهم شبهتهم: ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾، ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النّحل:36] أي: ليس الأمر كما تزعمون أنّه لم ينكره عليكم، بل قد أنكره عليكم أشدّ الإنكار، ونهاكم عنه آكد النهي، وبعث ﴿فِي كُلِّ أُمَّةٍ﴾ أي: في كل قرن وطائفةٍ من النّاس رسولاً، وكلّهم يدعون إلى عبادة الله وينهون عن عبادة ما سواه، ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ فلم يزل تعالى يرسل إلى النّاس الرّسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم، في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوحا، وكان أوّل رسولٍ بعثه الله إلى أهل الأرض، إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي طبقت دعوته الإنس والجنّ والمشارق والمغارب» [تفسير ابن كثير "2/586-587"]. وكلّهم كما قال الله –تعالى-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:25] وقوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف:45]، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النّحل:36]. فكيف يسوغ لأحدٍ من المشركين بعد هذا أن يقول: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} فمشيئة الله - تعالى - الشرعية عنهم منتفية، لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله. وأما مشيئته الكونيّة وهي تمكينهم من ذلك قدرًا فلا حجّة لهم فيها، قال: "ثمّ إنّه تعالى قد أخبر أنّه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرّسل" انتهى.
فهم لم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح، لأنّهم لا يعتقدون قبح أفعالهم بل هم ﴿يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْع﴾، وهم إنّما يعبدون الأصنام ليقرِّبوهم إلى الله زلفى، فلم يريدوا بذلك إلاّ الاحتجاج على أنّ ما ارتكبوه حقٌ ومشروع ومرضي عند الله، فردّ عليهم سبحانه بأنّه لو كان الأمر كذلك لما بعث الرّسل لإنكاره ولما عاقبهم عليه. ثالثا: ومن شُبههم: ظنّهم أنّ مجرّد النطق بلا إله إلاّ الله يكفي لدخول الجنّة، ولو فعل الإنسان ما فعل من المكفرات والشركيات، متمسكين بظواهر الأحاديث التي ورد فيها: أنّ من نطق بالشهادتين حُرِّمَ على النّار. والجواب على هذه الشبهة: أنّ الأحاديث المذكورة محمولة على من قال لا إله إلاّ الله ومات عليها، ولم يناقضها بشرك، بل قالها خالصًا من قلبه مع كفره بما يعبد من دون الله، ومات على ذلك، كما في حديث عتبان: (فإنّ الله قد حرّم على النّار من قال لا إله إلاّ الله يبتغي بذلك وجه الله) [مسلم "1/456"] وفي صحيح مسلم: (من قال: لا إله إلاّ الله، وكفر بما يُعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه وحسابه على الله) [مسلم "1/53"]، فعلّق النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- عصمة المال والدم بأمرين:
الأول: قول لا إله إلاّ الله. والثاني: الكفر بما يعبد من دون الله. فلم يكتفِ باللفظ المجرّد عن المعنى، بل لا بد من قولها والعمل بها. فقول: لا إله إلاّ الله سبب لدخول الجنّة والنّجاة من النّار، ومقتضٍ لذلك، ولكن السبب والمقتضى لا يعمل عمله إلاّ إذا تحققت شروطه وانتفت موانعه. قيل للحسن -رحمه الله-: «إنّ أناسا يقولون: من قال لا إله إلاّ الله دخل الجنّة، فقال: من قال لا إله إلاّ الله، فأدّى حقّها وفرْضها دخل الجنّة». وقال وهب بن منبه لمن سأله: أليس لا إله إلاّ الله مفتاح الجنّة قال: «بلى، ولكن ما من مفتاح إلاّ وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلاّ لم يفتح». فكيف يقال إنّ مجرّد النطق بلا إله إلاّ الله يكفي لدخول الجنّة، ولو كان الناطق بها يدعو الأموات ويستغيث بهم في الملمات ؟. ولا يكفر بما يعبد من دون الله ؟. هل هذا إلاّ من المغالطة بالباطل. رابعا: ومن شُبههم: دعواهم أنّه لا يقع في هذه الأمّة المحمّديّة شرك، وهم يقولون: لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، وأنّ هذا الذي يقع منهم مع الأولياء والصالحين عند قبورهم ليس بشرك. والجواب عن هذه الشبهة: أن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنّه سيحصل في هذه الأمّة مشابهة لليهود والنّصارى فيما هم عليه. ومن جملة ذلك اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: (لتتبعُن سنن من كان قبلكم حذو القذّة، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه" قالوا: يا رسول الله اليهود والنّصارى ؟، قال: "فمن ؟) [البخاري "13/300" فتح الباري] فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أنّ هذه الأمّة ستفعل ما فعلته الأمم قبلها من الديانات والعادات والسياسات مطلقا. وقد وجد في الأمم قبلنا الشرك، فكذلك يوجد في هذه الأمّة. وقد وقع ما أخبر به -صلى الله عليه وسلم-، فها هي القبور تعبد من دون الله بأنواع العبادات، ويصرف لها كثيرٌ من القربات. وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أنّها (لا تقوم السّاعة حتى يلحق حي من أمّته بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمّته الأوثان) [أبو داود، وابن ماجه]. وقد حدث في هذه الأمّة من الشرك والمبادئ الهدّامة والنِّحَل الضالة ما خرج به كثير عن دين الإسلام. خامسا: من شُبههم: استدلالهم بحديث: (إنّ الشيطان قد يئس أن يعبده المصلّون في جزيرة العرب)، وهو حديث صحيح مروي عن عدّة طرق في صحيح مسلم وغيره، وقد استدلّوا به على استحالة وقوع الشرك في جزيرة العرب. والجواب عن ذلك: بما قاله ابن رجب -رحمه الله-: «أنّ المراد: أنّه يئس أن تجتمع الأمّة كلها على الشرك الأكبر». وأشار ابن كثير إلى هذا المعنى عند تفسير قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ﴾. وأيضا في الحديث المذكور نسبة اليأس إلى الشيطان مبنيًا للفاعل، ولم يقل: (أيِّسَ) بالبناء للمفعول، وإياسه ظنٌّ منه وتخمين لا عن علم، لأنه لا يعلم الغيب، وهذا غيب لا يعلمه إلاّ الله، وظنّه هذا تكذِّبه الأحاديث الثابتة عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، والتي أخبر فيها عن وقوع الشرك في هذه الأمّة من بعده، ويكذّبه الواقع، فإنّ كثيرًا من العرب ارتدّوا عن الإسلام بعد وفاة النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بأنواعٍ من الردَّة. والله أعلم. سادسًا: ومن شُبههم: تعلقهم بقضية الشفاعة، حيث يقولون: نحن لا نريد من الأولياء والصالحين قضاء الحاجات من دون الله، ولكن نريد منهم أن يشفعوا لنا عند الله، لأنّهم أهل صلاح ومكانة عند الله –سبحانه وتعالى-، والشفاعة ثابتة بالكتاب والسنّة، فهذا الذي نريده منهم. والجواب: أنّ هذا هو عين ما قاله المشركون من قبل في تعليل تعلقهم بالمخلوقين من دون الله، كما قال تعالى عنهم: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر:3]، وقال تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس:18]
والشفاعة حق ولكنها ملك لله وحده: ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ [الزمر:44] فهي تُطلب من الله لا من الأموات، والله قد أخبرنا أنّها لا تحصل إلاّ بشرطين:
الشرط الأوّل: إذن الله للشافع أن يشفع كما قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِه﴾ [البقرة:255] والشرط الثاني: أن يكون المشفوع فيه ممن رضي الله قوله وعمله، وهو المؤمن الموحِّد، كما قال تعالى: ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء:28]، وقال تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ [النجم:26]، وقال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْل﴾ [طه:109] فالله لم يرخص في طلب الشفاعة من الملائكة ولا من الأنبياء ولا من الأصنام، لأنها ملكه وحده، ومنه تطلب: ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيع﴾ [الزمر:44] فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع، وإن لم يأذن له لم يتقدم في الشفاعة بين يديه، وليس الأمر كما يحصل عند المخلوقين من تقدم الشفعاء إليهم وإن لم يأذنوا لهم، ويقبلون شفاعتهم ولو لم يرضوا بها، فإن المشفوع عنده من المخلوقين يحتاج إلى الشافع ومعاونته، فيضطر لقبول شفاعته وإن لم يأذن له فيها، وأمّا الله -سبحانه- فهو الغنيّ عمّا سواه، فليس بحاجةٍ إلى أحدٍ، بل كل أحدٍ محتاج إليه. وأيضا المخلوق لا يدري عن كل أحوال رعيّته حتى يبلّغه عنها الشفعاء لديه، -والله سبحانه- بكل شيءٍ عليم، لا يخفى عليه شيءٌ من أحوال خلقه، فليس بحاجةٍ إلى من يُبلِّغه. وحقيقة الشفاعة عند الله -تعالى-: أنّ الله –سبحانه وتعالى- هو الذي يتفضّل على أهل الإخلاص فيعفو عنهم ويغفر لهم، بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه بذلك. سابعًا: ومن شُبههم قولهم: إنّ الأولياء والصالحين لهم مكانة عند الله، كما قال تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ [يونس:62-64] والتعلق بهم والتّبرّك بآثارهم من تعظيمهم ومحبّتهم، وكذلك سؤال الله بجاههم وحقهم. وما أشبه ذلك من التعليلات. والجواب: أنّ المؤمنين كلّهم أولياء الله، وهم يتفاوتون في هذه الولاية بحسب إيمانهم وأعمالهم الصالحة، ولكن الجزم لمعين بأنه ولي الله يحتاج إلى دليل من الكتاب والسنّة، فمن شهد له الكتاب والسنّة بالولاية شهدنا له بذلك، ومن لم يشهد له الكتاب والسنّة فإننا لا نجزم له بذلك، ولكن نرجوا للمؤمن الخير، وحتى من ثبت في الكتاب والسنّة أنّه من أولياء الله، فإنه لا يجوز لنا الغلو فيه والتّبرّك به، وسؤال الله بجاهه وحقه، فإنّ ذلك من وسائل الشرك، ومن البدع المحرّمة. فنحن نحبّ الصالحين ونقتدي بهم في الأعمال الصّالحة والخصال الطيِّبة، ولا نغلوا فيهم ونرفعهم فوق منزلتهم، فإنّ الغلو في الصّالحين هو مبدأ الشرك، كما حصل في قوم نوح لمّا غلوا في الصّالحين، فآل بهم الأمر إلى أن عبدوهم من دون الله، وكما وقع في هذه الأمّة بسبب الغلو في الصّالحين من الشرك في العبادة، وقد حذّر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من الغلو، فقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ [المائدة:77]. وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النّصارى ابن مريم، إنّما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) [البخاري "6/478" فتح الباري]. والإطراء: مجاوزة الحد في المدح.
والله -تعالى- قد أمرنا أن ندعوه وحده بدون واسطة ولي أو غيره، ووعدنا أن يستجيب لنا، وهو لا يخلف وعده، فقال سبحانه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:60]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة:186]، وقال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف:55]، وقال تعالى: ﴿فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [غافر:65] وهكذا، كل الآيات فيها الأمر بدعائه مباشرةً من دون واسطة أحد، والأولياء والصّالحون عباد محتاجون، فقراء إلى الله، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء، الآية: 57]. قال العوفي عن ابن عبّاس في الآية: (كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعزيرًا، فقال الله –تعالى-: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ أي: الملائكة المعبودة لهم، يتبادرون إلى طلب القربة إلى الله، فيرجون رحمته ويخافون عذابه، ومن كان كذلك لا يدعي مع الله) [تفسير ابن كثير: 3/46]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والآية عامة، تعم كل من كان معبوده عابد الله، سواء كان من الملائكة أو من الجنّ أو من البشر، فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوًا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصّالحين، سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها؛ فقد تناولته الآية، كما تتناول من دعا الملائكة والجنّ» [فتاوى شيخ الإسلام:11/529]. ثامنا: ومن شُبههم: استدلالهم بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة﴾ [المائدة:35]. وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ [الإسراء:57]. حيث فهموا من الآيتين: مشروعيّة اتخاذ الوسائط بينهم وبين الله من الأنبياء والصّالحين، يتوسلون بذواتهم وبحقهم وجاههم. والجواب عن ذلك: أنّ الوسيلة في الآيتين ليست كما فهموا، بل المراد بها التقرّب إلى الله بالأعمال الصّالحة؛ فالتوسل قسمان: توسلٌ مشروعٌ. وتوسلٌ ممنوع. فالتوسل المشروع أنواع، منها: 1 - التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته كما قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَ﴾ [الأعراف:180] كأن يقول المسلم: يا الله، يا أرحم الرّاحمين، يا حنّان يا منّان، يا ذا الجلال والإكرام، أسألك كذا وكذا. 2 - التوسل إلى الله بإظهار الفقر والحاجة إليه سبحانه، كما قال أيّوب -عليه السّلام-: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء:83]، وكما قال زكريا -عليه السّلام-: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّ﴾ [مريم:4] الآيات، وكما قال ذو النّون -عليه السّلام-: ﴿أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء:87]. 3 - التوسل إلى الله بالأعمال الصّالحة، كما في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَ﴾ [آل عمران:193]. وكما في قصّة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصّخرة، فدعوا الله بصالح أعمالهم ففرّج عنهم، وهو التوسل المذكور في الآيتين الكريمتين اللتين استدل بهما المخالف، فهو التقرّب إلى الله -تعالى- بالأعمال الصّالحة. 4 - التوسل إلى الله -تعالى- بدعاء الصالحين، بأن تأتي إلى عبدٍ صالحٍ حيٍ، وتقول له: ادع الله لي، كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: (لا تنسنا يا أخي من دعائك) [أبو داود 1498، والترمذي3557]، وكما كان الصحابة -رضي الله عنهم- يطلبون من النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو الله لهم، ويطلب بعضهم من بعض الدعاء. أمّا التوسل الممنوع: فهو التوسل بذوات المخلوقين وحقهم وجاههم، كأن يقول قائل: "أسألك بفلان، أو بحق فلان، أو جاهه حيا أو ميتا". فإن هذا بدعة محرّمة، ووسيلة من وسائل الشرك، وإن تقرّب صاحبه إلى المخلوق المتوسل به بشيء من أنواع العبادة فهو الشرك الأكبر، نعوذ بالله من ذلك، كأن يذبح للولي، أو ينذر لقبره، أو يناديه ويطلب منه المدد، وغير ذلك. نسأل الله أن يبصر المسلمين بدينهم، وأن ينصرهم على أعدائهم، ويهدي ضالهم. تاسعا: ومن شُبههم: تعلّقهم ببعض الأحاديث التي ظنوا أنّها تصلح حجّة لهم، كالحديث الذي رواه الترمذي في جامعه بسنده، عن عثمان بن حنيف: أنّ رجلاً ضرير البصر أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: (ادع الله أن يعافيني، قال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خيرٌ لك" قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ ويحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: "اللّهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمد نبيّ الرّحمة، إني توجّهت به إلى ربّي في حاجتي هذه لتقضى، اللّهم فشفِّعه فيَّ)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلاّ من رواية أبي جعفر، وهو غير الخطمي". قالوا: فهذا الحديث فيه التّوجه إلى الله وسؤاله بنبيّه صلى الله عليه وسلم. الجواب عن ذلك: أنّ هذا الحديث إن صح فهو في غير محل النزاع، فإن هذا الأعمى إنّما طلب من النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، وتوجه إلى الله بدعائه مع حضوره وهذا جائز، أن تأتي إلى رجل صالح حي وتطلب منه أن يدعو الله لك، وليس فيه ما يدّل على التوسل والتّوجه بالأموات والغائبين. والنّبيّ -صلى الله عليه وسلم- أمرَ هذا الضرير أن يدعو الله أن يقبل شفاعة نبيّه فيه، فهذا فيه طلب الشفاعة من الله –تعالى-، وطلب الشفاء من الله وحده، وليس في الحديث أكثر من هذا، فهو لا يدل على جواز التوسل بذوات المخلوقين، ونداء الأموات والغائبين. واستدلوا -أيضا- بحديث مكذوب، فيروون: أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم). وهو حديث مكذوب، مفترى على الرّسول صلى الله عليه وسلم، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- [فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية "1/319 ، 346"] عاشرًا: ومن شُبههم -أيضا-: اعتمادهم على حكايات ومنامات. أنّ فلانا مثلاً أتى القبر الفلاني فحصل له كذا وكذا، وفلانا رأى في المنام كذا وكذا، مثل الحكاية التي ذكرها جماعة منهم. وهي أنّ العتبي قال: "كنت جالسا عند قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي فقال: السّلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيم﴾ [النساء:64]، وقد جئتك مستغفرًا لذنبي مستشفعا بك إلى ربّي، ثمّ أنشأ يقول:
يا خير من دفنت في الأرض أعظمه فطاب من طيبهنّ القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثمّ انصرف الأعرابي، فغلبتني عيني، فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في النّوم فقال: يا عتبي، الحق بالأعرابي فبشّره أنّ الله غفر له. والجواب عن ذلك: أنّ الحكايات والمنامات لا تصلح دليلاً تبنى عليه أحكام وعقائد، وقوله تعالى: ﴿جَاءُوكَ﴾ المراد به: المجيء إليه صلى الله عليه وسلم في حياته، لا المجيء إلى قبره، بدليل أنّه لم يكن أحدٌ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان يأتي إلى قبره صلى الله عليه وسلم ويطلب منه أن يستغفر له، مع حرصهم الشديد على الخير وامتثال الأمر، فلو كان ذلك مشروعا لفعلوه. الحادي عشر: ومن شُبههم: الاستدلال بحصول بعض مقاصدهم عند الأضرحة ونحوها، كقولهم: إنّ فلانا دعا عند الضريح الفلاني، أو هتف باسم الشيخ فلان، أو الولي فلان؛ فحصل له مطلوبه. والجواب: أنّ حصول بعض المقصود للمشرك لا يدل على جواز ما هو عليه من الشرك، إذ قد يكون حصول ذلك صادف قضاءً وقدرًا، فظنّ أن ذلك بسبب دعائه لذلك الشيخ أو الولي. أو قد يكون ذلك حصل استدراجا له وفتنة، فلا يدلّ على جواز دعاء غير الله. وهكذا نجد المشركين لا يملكون دليلاً واحدًا صحيحًا لما هم عليه من الشرك، بل هم كما قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ [المؤمنون:117]. وإذا كان الشرك لم يقم على برهان وحجّة، فإنّ التّوحيد قام على البراهين القاطعة والحجج الواضحة: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ [إبراهيم:10]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:21-22]. الثاني عشر: زعم غلاة المتصوّفة ومن يقلِّدهم: أنّ الشرك هو الميل إلى الدنيا والاشتغال بطلبها. والجواب: أنّ هذا يريدون به تغطية ما هم عليه من الشرك الأكبر، المتمثّل بعبادتهم للقبور، وغلوّهم في المشايخ. وطلب الدنيا من الوجه المباح هو مما أمر الله به، وإذا كان القصد منه الاستعانة به على طاعة الله فهو عبادة وتوحيد. الخاتمة.. وبعد: فإنّ الشرك هو أعظم أنواع الظّلم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان:13]. إنَّ الشرك لا تتناوله مغفرة الله لمن مات عليه، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النّساء:48]. إنّ المشرك تُحرّم عليه الجنّة تحريما مؤبدًا، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾ [المائدة:72] إنّ المشرك نجس لا يحلُّ دخوله في حرم الله، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَ﴾ [التّوبة:28] إنّ المشرك حلال الدّم والمال، قال تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ [التّوبة:5]. إنّ المشرك قد ضلّ ضلالاً مبينا، وافترى إثما عظيما. إنّ المشرك قد انحطّ من سمو التّوحيد، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج:31]. إنّ المشرك لا تَحِلُّ مناكحته، قال تعالى: ﴿وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ [البقرة:221] إنّ المشرك لا يقبل منه عمل، ولا تصح منه عبادة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر:65]، ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام:88]. نعوذ بالله من الشك والشرك، والكفر والنفاق، وسوء الأخلاق، وسوء المنقلب في المال والأهل والولد. اللّهم أرنا الحقّ حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات:180-182]، ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النّحل:1]، ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِير﴾ [الإسراء:43]. وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمد وآله وصحبه أجمعين