جمع القرآن الجزء الأول

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : الشيخ / صفوت نور الدين | المصدر : www.quranway.net

أخرج البخاري في (صحيحه) عن زيد بن ثابت الأنصاري، (رضى الله عنه) - وكان ممن يكتب الوحي- قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة، وعنده عمر بن الخطاب فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى إن استحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه، وإني أرى أن تجمع القرآن، فقال أبو بكر: قلت لعمر: كيف أفعل شئ لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ فقال عمر: هو والله خير،فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر، قال زيد: وعمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شئ لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ قال أبو بكر هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبو بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت من سورة ((التوبة)) آيتين مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ )(التوبة: من الآية128) حتى ختم براءة إلى آخرها .

 

وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر.

وأخرج البخاري عن زيد ابن ثابت الأنصاري أيضاً: لما نسخنا الصحف من المصاحف فقدت آية من سورة (الأحزاب) كنت أسمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقرأها فلم أجدها عند أحد إلا خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شهادته شهادة رجلين: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)(الأحزاب: من الآية23)، فألحقناها في سورتها في المصحف .

الحديث يبين جمع زيد للقرآن مما كان مكتوباً فيه من:

العسب: جمع عسيب: وهو جريد النخل يكشطون الخواص ويكتبون في الطرف العريض.

واللخاف: جمع لخفة: وهي الحجارة الرقاق أو صحائف الحجارة.

والرقاع : جمع رقعة، وقد تكون من جلد أو ورق.

وقطع الأديم: الجلد بعد دبغه، أما قبل دبغه فيسمى إهابا.

والأكتاف: عظم البعير أو الشاه كان إذا جف كتبوا عليه

والأضلاع:جمع ضلع، وهوالعظم المعروف.

والأقتاب: جمع قتب، وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه.

وقعة اليمامة

كانت فتنة بني حنيفة أصلها في إدعاء مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي، حيث ادعى النبوة وأرسل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) كتاباً قال فيه : (من مسليمة رسول الله سلام عليك اما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشاُ قوم يعتدون ) فأجابه النبي (صلى الله عليه وسلم) (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض له يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين)

وكان ذلك أواخر سنة عشرة من الهجرة، وقد توفى النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل القضاء على فتنة مسليمة فكانت وقعة اليمامة من آخر السنة الحادية عشر التي توفي فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولكنها أمتدت حتى أول السنة الثانية عشر، وقد صبر فيها الصحابة صبراً لم يعهد مثله.

يقول ابن كثير في (فضائل القرآن) : إن مسيلمة التف حوله من المرتدين قريب من مائة ألف، فجهز الصديق خالد بن الوليد في قريب من ثلاثة عشر ألفاً، فالتقوا معهم، فانكشف الجيش الإسلامي لكثرة ما فيه من أعراب فنادى القراء من كبار الصحابة: يا خالد خلصنا، يقولون ميزنا عن هؤلاء الأعراب، فتميزوا منهم وانفردوا، فكانوا قريباً من ثلاثة آلاف، ثم صدقوا الحملة وقاتلوا قتالاً شديداً وجعلوا يتنادون يا أصحاب سورة البقرة، فلم يزل ذلك دأبهم حتى فتح الله عليهم وولى جيش الكفر فاراً واتبعتهم السيوف المسلمة في أقفيتهم قتلاً وأسراً وقتل الله مسيلمة وفرق شمل أصحابه، ثم رجعوا في سلام.

وقد قتل من المسلمين في هذه الغزوة خمسمائة وقيل: أربعمائة وخمسون، منهم من المهاجرون والأنصار ثمانية وخمسون غالبيتهم من قراء القرآن، أما من قتل من الكافرين فكانوا بضعة وخمسون ألفاً.

ولقد صبر الصحابة في حرب اليمامة صبراً لم يعهد مثله وجعل خالد لا يبرز له منهم أحد الا قتله، ولا يدنو منه شئ إلا أكله، وممن استشهد في هذه الغزوة:

جعفر بن ثابت بن قيس حفر لقدميه بعدما تحنط وتكفن يحمل الراية حتى قتل.

زيد بن الخطاب قال: أيها الناس عضوا على أضراسكم، واضربوا في عدوك، وامضوا قدماً.

وقال: والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله فأكلمه بحجتي، فقتل شهيداً، رضى الله عنه.

وممن قتل في هذه الغزو: حزن بن أبي وهب جد سعيد بن المسيب، وقتل معه ولداه عبد الرحمن ووهب، وابن ابنه حكيم بن وهب بن حزن

وقتل سالم مولى أبي حذيفة، أحد الأربعة الذين قال فيهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (استقرئوا القرآن من أربعة) .

وكان أبو دجانة سماك بن خراش، أحد الشجعان، ممن أقتحم على بني حنيفة الحديقة، فانكسرت رجله، شارك وحشي في قتل مسيلمة.

ومنه الطفيل بن عمر الدوسي، الذي أسلمت دوس بدعوته لهم.

أما عباد بن بشر فكان صاحب شجاعة وبلاء شديد، وكان ذا ورع وعبادة وتهجد.

وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، الذي أسلم قبل دار الأرقم وهاجر إلى الحبشة والمدينةوقد أخى النبي (صلى الله عليه وسلم) بينه وبين عباد بن بشر.

وقد قتل يوم اليمامة أيضاً :

- السائب بن عثمان بن مظعون، والسائب بن العوام أخو الزبير بن العوام وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وهو ممن أسلم قديماً وهاجر إلى الحبشة، فلما عاد حبسه أبوه سهيل بن عمرو ، فلما كان يوم بدر خرج معهم، فلما توجهوا فر إلى المسلمين فشهدها معم.

-عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، وكان أبوه رأس المنافقين ، واما هو فمن سادات

الصحابة وفضلائهم شهد بدراً وما بعدها، وكان أشد الناس على أبيه .

ومنهم مغمر بن عدي، وهو أخو علصم بن عدي، الذي آخى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بينه وبين زيد بن الخطاب، ولما قال الناس عند موت رسول الله (صلى الله عليه وسلم): وددنا أنا متنا قبله؛ قال معمر: لكني والله ما أحب أن أموت قبله لأصدقه ميتاً كما صدقته حياً.

وممن أستشهد يومئذ من الصحابة أيضاً

مالك بن عمرو؛ وهومن المهاحرين وممن شهدوا بدرا.

ويزيد بن قيس بن رباب الأسدي (بدري) والحكم بن سعيد بن عاص بن أمية.

وعامر بن البكر الليثي (بدري) وصفوان بن أمية بن عمرو، وأبو قيس بن حارث بن قيس السهمي،ممن هاجرإلى الحبشة، وعبد الله بن مخرمة من المجادين وممن شهد بدراً، وعمارة بن حزم بن زيد (من الأنصار).

وغيرهم رضي الله عنهم، كان منهم يوم اليمامة البلاء الحسن والشجاعة النادرة والقتال الشديد، وإن كان في قتلهم شرخ للإسلام إلا أن الله جعل في هذا الشرخ خيراً،

بأن نبه عمر ليشير على الصديق بجمع القرآن ، فجمع ، فالحمد لله الذي جعل من كل شدة تمر بالإسلام خيرا وحفظً وتمكيناً، ومن راجع السيرة والتاريخ في القديم والحديث عرف ذلك ولمسه؟، والحمد لله رب العالمين.

من إهانات الله لمسيلمة الكذاب

الله يظهر المعجزات على يد أنبيائه شاهد صدق على قولهم، فلما أراد مسيلمة - لعنه الله – أن يستخف قومه، فيدعي لهم أنه صاحب آيات معجزة عامله الله بضد مقصوده فأظهر الإهانة له في ذلك، من ذلك أنه بصق في بئر فغاص ماؤها بالكلية، وفي أخرى فصار ماؤها أجتجاً، وتوضأ وسقى بوضوئه نخلا ًفيبست وهاكت، وأتى بولدان يبرك عليهم فجعل يمسح رؤسهم، فمنهم من قرع رأسه، ومنهم من لثغ لسانه، ويقال: إنه دعا لرجل من أصحابه لوجع في غينيه فمسحهما فعمي.

أتباع مسيلمة:

جاء رجل –هو طلحة النمري- من اليمامة إلى مسيلمة الكذاب فسأله: من يأتيك؟ قال: رجس، قال: أفي نور أم في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال: أشهد أنك كاذب، وأن محمد صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب الينا من صادق مضر.

يفسر ذلك لنا أن اتباع مسيلمة لم يكن إيماناً بنبوته، ولكن كان لأعراض دنيوية شتى (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً)(الكهف: من الآية17)

أنا نحن نزلنا الذكر:

من أقوال بعض المفسرين في قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ):

قال الفخر الرازي: قال بعضهم: حفظه بأن جعله معجزاً مبايناً لكلام البشر، فعجز الخلق عن الزيادة فيه والنقصان عنه ؛ لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا عنه لتغير نظم القرآن، فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن، فصار كونه معجزاً كإحاطة السور بالمدينة؛ لأنه يحصنها ويحفظها .

وقال آخرون: إنه تعالى صانه وحفظه من أن يقدر أحد من الخلق على معارضته.

وقال آخرون: أعجز الخلق عن إبطاله وإفساده ؛ بأن قيض جماعة يدرسونه ويحفظونه ويشهرونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكاليف .

وقال آخرون: المراد بالحفظ هو أن أحد لو حاول تغييره بحرف أو نقطة لقال له أهل الدنيا: هذا كذب وتغير لكلام الله تعالى ، حتى أن الشيخ المهيب لو اتفق له لحن أو هفوة في حرف من كتاب الله تعالى لقال له الصبيان: أخطأت أيها الشيخ وصوابه كذا وكذا، فهذا هو المراد من قوله: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).

واعلم أنه لم يتفق لشئ من الكتاب مثل هذا الحفظ، فما من كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتحريف والتغير، إما في الكثير منه أو في القليل، وبقاء هذا الكتاب مصوناً عن جميع جهات التحريف، منع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده. من أعظم المعجزات، وأيضاً أخبر الله تعالى عن بقائه محفوظاً عن التغير والتحريف، وانقضى الأن قريباً من ستمائة سنة، فكان ذلك أيضاً معجزاً قاهراً. انتهى كلام الفخر الرازي. [واليوم مضى أكثر من أربعة عشر قرناً ولا يزال بحمد الله محفوظاً كما أنزل] .

قال القرطبي في تفسيره عن يحى بن أكثم: كان للمأمون- وهو أمير إذ ذاك – مجلس نظر فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب، حسن الوجه، طيب الرائحة، قال: فتكلم فأحسن الكلام والعبارة، قال: فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقال له: إسرائيلي؟ قال: نعم، قال له: أسلم حتى أفعل بك وأصنع، ووعده، فقال: ديني ودين آبائي وانصرف، قال: فلما كان بعد سنة جاءنا مسلماً، قال: فتكلم عن الفقه فأحسن الكلام؛ فلما تقوض المجلس دعاه المأمون وقال: ألست صاحبنا بالأمس؟ قال له: بلى، قال: فما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذا الأديان، وأنت تراني حسن الخط، فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني ، وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة فاشتريت مني وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت فيها ونقصت، وأدخلتها للوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها، فعلمت أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي، قال يحى بن أكثم فحججت تلك السنة فلقيت سفيان بن عيينة فذكرت له الخبر،فقال لي: مصداق هذا في كتاب الله عز وجل، قال: قلت: في أي موضع؟ قال: في قوله تبارك وتعالى في التوراة والإنجيل : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ)(المائدة: الآية44)، فجعل حفظه إليهم فضاع.

قال السعدي في تفسيره: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) أي في حال إنزاله وبعد إنزاله، ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم، وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله واستودعه في قلوب أمته وحفظ الله ألفاظه من التغير فيها والزيادة والنقص ومعانيه من التبديل، فلا يحرف معنى من معانيه إلا قيض الله له من يبين الحق المبين، وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين.

قال في ((زاد المسير)) : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) فيها ثلاثة أقوال:

أحدها: بين يدي تنزيله وبعد نزوله.

الثاني: أنه لبس قبله كتاب يبطله، ولا يأتي بعده كتاب يبطله.

الثالث: لا يأتيه الباطل من أخباره عما تقدم، ولا في إخباره عما تأخر.

وفي خلافة أبى بكر جمع القرآن زيد وعمر بأشراف الصديق، رضي الله عنهم وكان ذلك في أول العام الثاني عشر أما في خلافة عثمان فجمع القرآن زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وقال عثمان لثلاثة القرشيين: إذا اختلفتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما أنزل بلسانهم ففعلوا، وكان ذلك سنة خمسة وعشرين، وكان نسخاً للصحف التي كتبت في جمع أبي بكر الصديق، رضي الله عنه.

نقل السيوطي عن ابن التين وغيره: الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شئ بذهاب حملته؛ لأنه لم يكن مجموعاً في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتباً مرتباً لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي (صلى الله عليه وسلم)، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءات حتى قرءوه بلغاتهم على أتساع اللغات، فأدى ذلك ببعضهم تخطئة بعض فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتباً لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجاً أنه نزل بلغتهم، وإن كان وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعاً للحرج والمشقة في بادئ الأمر، فرأى أن الحاجة لذلك قد انتهت فاقتصر على لغة واحدة.

فالقرآن الكريم كتاب الله الخاتم أنزله على نبيه الكريم، وحمله إليه ملك الوحي جبريل وحفظه رب العزة سبحانه، فهم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون : (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (الشعراء : 210 –212) ، (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء: 192 –195)

فالقرآن أنزله رب العزة جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وكان ذلك في ليلة القدر : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة)(الدخان:3)

، (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1) ، ثم نزل بعد ذلك مفرقاً بحسب الوقائع على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً)000 (الفرقان :32-33).

فكان هذا القرآن ينزل مجيباً للأسئلة، هادياً من الحيرة، مرشداً في الظلمة، منقذاً من الهلكة، فصلاً في كل أمر احتاجوا فيه إلى بيان، فيوم شق عليهم الصوم وكان الفطر عند غروب الشمس إلى صلاة العشاء أو النوم وحدث ما حدث من أمور شقت على المسلمين من شدة الجوع أو الشوق إلى نسائهم أنزل الله قوله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (البقرة:187) .

ولما كانوا في غزوة الحديبية وصلوا الظهر جماعة خلف النبي (صلى الله عليه وسلم) فسجدوا جميعاً، وتوعدهم العدو إذا جاءت صلاة العصر فسجدوا فمالوا عليهم ليقتلوهم وهم سجود فقبل أن تأتي صلاة العصر أنزل الله القرآن يرد كيد عدوهم.

أخرج أحمد في ((مسنده)) عن أبي عباس الزرقي قال : كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الظهر فقالوا : لو كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: تأتي عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، قال: فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ )(النساء:الآية102)، قال: فحضرت فأمرهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فأخذوا السلاح، قال: فصفنا خلفه صفين، قال: ثم ركع فركعنا جميعاً، ثم رفع فرفعنا جميعاً ثم سجد النبي (صلى الله عليه وسلم) بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وجاء إلى مصاف هؤلاء، ثم ركع فركعوا جميعاً، ثم رفع فرفعوا جميعاً ثم سجد النبي (صلى الله عليه وسلم) بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم ثم انصرف، قال: فصلاها رسوا الله (صلى الله عليه وسلم) مرتين، مرة بعسفان، زمرة بأرض بني سليم (1)

فكان نزول آيات صلاة الخوف وهم في الميدان لا يعلمون بكيد العدو، فنزل الوحي بالقرآن ينجيهم الله من كل كيد ويرد كيد عدوهم في نحورهم.

وتأتي خولة بنت ثعلبة إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو في حجرة عائشة تشكوا أن زوجها أوس بن الصامت قد ظاهر منها، تجادل النبي (صلى الله عليه وسلم) في شأنها، فينزل الله عز وجل فصل قضيتها في الحال بقوله (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) إلى قوله تعالى :(وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المجادلة:1-4) .

وكذلك لما وقع أهل الإفك في أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنها، وقالوا ما قالوا، واحتار النبي (صلى الله عليه وسلم) ووقع الناس في شدة، وبكت عائشة رضي الله عنها، بكاء شديداً فرج الله عنهم جميعاً بأن أنزل الله قوله: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْم) إلى قول: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور: 10-20) .

وتتبع ذلك أمر يطول سرده ويصعب جمعه، فكان القرآن في نزوله تفريج الهم، وتوضيح الأمر، وبيان الدين، وتصحيح العبادة، والرد على المشركين، وتفنيد حجج المبطلين، وتثبيت المؤمنين