كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،
مصطلح أحلام مشروعة من المصطلحات الشائعة في زماننا، يراد به عادة الأماني ممكنة الحصول لاسيما تلك التي صار صاحبها قاب قوسين أو أدنى من تحصيلها، وفي المقابل يطلقون مصطلح أحلام اليقظة على الأماني البعيدة أو المستحيلة، والتي لا يعدو حظ صاحبها منها أن يتلذذ بها فهي في هذا الجانب تشبه أحلام المنام، إلا أنها تفارقها في أن أحلام المنام يتلذذ بها صاحبها دون أن يعوقه ذلك عن العمل الجاد في "الممكنات" حال اليقظة، بينما تتحول أحلام اليقظة إلى مرض عضال يُحوِّل صاحبه إلى نائم رغم استيقاظه.
الأحلام المشروعة لها قوة دفع عجيبة على النفس البشرية لذلك يهتم المربون على المستوى الفردي، والمصلحون على المستوى الجماعي على بث روح الأمل في الأفراد والجماعات حتى يشكل هذا الأمل قوة دفع ذاتية للأفراد والمجتمعات، وفي سبيل ذلك ربما يغالون في تقريب البعيد، وفي المقابل تجد أن أعداء أي فرد أو أمة يحاولون كسر الروح المعنوية لخصومهم وبث روح اليأس فيهم لكي يقعدوا عن العمل، وفي سبيل ذلك يغالون في استبعاد كل أمل ولو كان قريبا.
وغني عن الذكر أن أعداء أمة الإسلام وهم طابور طويل من شياطين الجن والإنس، وعلى رأسهم إبليس اللعين، يعملون ليل نهار على بث روح اليأس والقنوط في الأمة على المستوى الفردي والجماعي، فتجد كثيرا من الشباب يُرثى لحال الضياع التي هو فيها، ولكنه في ذات الوقت فاقد الأمل في أن يحدث لديه أي درجة من درجات التحسن والتقدم، مع أن باب التوبة مفتوح ليل نهار كما قال -صلى الله عليه وسلم- (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه مسلم.
وعلى مستوى الأمة تجد الدعايات الإعلامية المغرضة التي تبالغ في القدرات المادية للغرب وتبالغ في دقة خططهم، وتحاول أن تصور أن التاريخ قد وصل إلى نهايته، وأنه ليس ثمة فرصة أخرى لكي تصعد أمة أخرى إلى قيادة العالم، وفي المقابل تجد الإيحاء بأن العالم الإسلامي لن يستطيع أن يسترد عافيته في الجانب الديني والدنيوي على حدٍ سواء، حتى صارت هذه عقيدة راسخة لدى قطاعات عريضة من الجمهور في العالم الإسلامي، فضلا عن معظم من يسمون أنفسهم بالنخبة المثقفة.
وفي مواجهة هذه الحرب النفسية الشرسة لم يجد دعاة الصحوة الإسلامية صعوبة في إعادة الأمل إلى نفوس جمهور الملتزمين بدين الله، حيث أنهم لم يكونوا في حاجة إلى حدس وتخمين لكي يبرهنوا على إمكانية عودة الأمة إلى دورها الريادي، لأن الأمر يتجاوز "الظن" و"الإمكانية" إلى القطع واليقين بأنه ما زال أمام الأمة طور آخر سوف تستعيد فيه الأمة قيادة العالم مرة ثانية، وهذا القطع ناجم من كونه وعد الله، ذلك الوعد العام لكل من عمل بدين الله (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا)(النور: 55).
بالإضافة إلى البشارات النبوية التي لم تتحقق بعد، ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم- (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها) رواه مسلم.
ومن المعلوم أن الفتوحات الإسلامية الأولى لم تبلغ أجزاء من العالم لكونها لم تكن معلومة آنذاك "كالأمريكتين"، كما أن البشارة بفتح رومية "روما" لم تتحقق بعد كما سئل صلى الله عليه وسلم (أي المدينتين تفتح أولا أقسطنطينية أو رومية فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدينة هرقل تفتح أولا يعني قسطنطينية)(رواه أحمد وصححه الألباني)، مما يعني أن هناك فتوحات أخرى سوف تبلغ فيما تبلغ "روما" و"الأمريكتين".
بيد أن هذا الأمل اليقيني قد أصابته آفة الاستعجال، فظن البعض أن هذا الأمل طالما كان "يقينياً" فلماذا لا يكون الآن؟، ونسي هؤلاء أن وعد الله واقع لا محالة إلا أن هذا الوعد وقته غير معلوم لنا، وهو كذلك يقع بأسباب ككل سنن الله في الكون، مما يعني أنه لابد من مراعاة السنن الشرعية والكونية في التعامل مع أي موقف، وهذا ما ربَّى الله -عز وجل- المؤمنين عليه حينما أرى رسوله -صلى الله عليه وسلم- رؤيا دخوله المسجد الحرام، وجاء الصحابة -رضي الله عنهم- وكلهم يقين أنهم سيدخلون المسجد الحرام، ولكنهم توهموا أن هذا الوعد سوف يتحقق هذا العام، بينما قدر الله عز وجل أن يعمد المشركون إلى صد المسلمين عن البيت الحرام، وأن تقتضي قواعد الشرع مهادنة المشركين والرجوع عن البيت الحرام -رغم الوعد اليقيني من الله بدخوله- حفظاً لأرواح مؤمنين مستضعفين في مكة يكتمون إيمانهم، قال تعالى: ( وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)(الفتح: 25)، وتعظيما لحرمة البيت الحرام كما قال -صلى الله عليه وسلم- (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) رواه البخاري.
وقد كان هذا الصلح فتنة واختبارا لمعظم الصحابة وجادلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه، أملا ً أن يُنسخ هذا الحكم ويُبدل إلى الأمر بالقتال، حتى تبين لهم أن الأمر قد حسم بعد ما رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدأ بنفسه فتحلل من إحرامه بناءاً على نصيحة أم سلمة -رضي الله عنها-، وأكثر عمر -رضي الله عنه- من جدال النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان مما قاله (أولست تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟، قال بلى أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟، قلت لا، قال فإنك آتيه ومطوف به) رواه البخاري.
فعلم من ذلك أن الثقة بنصر الله واليقين بصدق وعده لا يعني الاستعجال، لأن الاستعجال آفة تجعل صاحبها يقفز فوق السنن الشرعية والكونية فيفسد من حيث يريد أن يصلح، وما أحسن جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما حينما جاءه خباب -رضي الله عنه- سائلاً للدعاء والاستنصار وهو أمر مشروع في ذاته، ولكن لهجة خباب -رضي الله عنه- "ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا" كان وراءها ما وراءها، فكانت تلك الإجابة الجامعة من الرسول -صلى الله عليه وسلم- تدعو إلى الجمع بين الصبر على الواقع واليقين بوعد الله تعالى (والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري.
ومن هذا قول الله تعالى (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)(السجدة:24)، وعلق على ذلك بعض السلف بقوله "بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين"، وفي واقعنا المعاصر كم وقعت من محن، وكم أهدرت سنن شرعية وكم قفز فوق سنن كونية، كل هذا لأن بعضا من أصحاب "اليقين" بنصر الله لم يتحلوا بالصبر، ونحمد الله تعالى أن الكثيرين منهم أفرادا وجماعات أصبحوا يدركون أهمية الجمع بين الصبر واليقين.
إلا أن الأعداء ربما وجدوا الفرصة سانحة في أن يهزوا يقين ذوي اليقين بنصر الله ليضموهم إلى قائمة المحبَطين اليائسين الطويلة التي تضم القطاع الأكبر من الأمة الإسلامية، واستجاب لهم بعض الدعاة الذين يرون في الكلام على الأمل المفقود سبباً في ضياع الموجود فأصبح شعارهم "الحفاظ على الموجود"، وصار هم كثير من الدعاة هو أن يصادروا أحلام الأمس، وهذا منهم -عفا الله عنا وعنهم- معالجة خطأ بخطأ، ومخالفة لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، الذي لم يكف عن بث الأمل حتى فيمن وجد عنده بادرة استعجال، فالطبيب إنما يبتر الجزء الفاسد لا الجزء السليم، لاسيما إن كان الجزء السليم من ضرورات الحياة، ولاسيما إن كان لهذا الجزء السليم أثر بالغ في علاج الجزء الفاسد.
أحلام أمتنا أحلام مشروعة،
أحلام صحوتنا أحلام مشروعة،
أحلام ممكنة، بل حاصلة جزماً لا محالة،
نريد الفرد المسلم في عقيدته، في عبادته، في أخلاقه، في معاملاته، نريد المجتمع المسلم في قضائه، في اقتصاده، في اجتماعه، في سلمه، في حربه، في إعلامه، في تعليمه.
نريد لهذا المجتمع أن يعمر كل ديار الإسلام، وأن ينطلق منها إلى سائر الدنيا بحيث لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا ويدخله الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله وذلاً يذل الله به الشرك وأهله.
هذه الآمال -كلها- يجب أن نجمع في الإيمان بها والسعي إليها، نجمع بين الصبر واليقين، ونحن في هذه الأيام المباركة التي تتراءى فيها في مخيلة المؤمنين صور جهاد الخليلين إبراهيم ومحمد -صلى الله عليهما وسلم- صور الإلقاء في النيران، وتجمع الناس على صعيد واحد لاستئصال الدعوة، وفي كل مرة كانت حسبنا الله ونعم الوكيل بالقلب وباللسان هي الحادي الذي يحدو بالنفوس المؤمنة لكي تصبر حتى تصل إلى نصر الله، وحينئذ كانت الفرحة تعم المؤمنين بنصر الله ينصر من يشاء، وكان مع هذا النصر المزيد من الشكر والعبادة تهيأً للفرحة الكبرى يوم يَرد المؤمن على ربه عز وجل، كما أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)(سورة النصر).