كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فإن دور الدعاة إلى الله -تبارك وتعالى- هو تعبيد الناس لربهم كما قال ربعي بن عامر -رضي الله عنه- لرستم قائد الفرس: "إن الله ابتعثنا لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
والدعاة إلى الله ينبغي أن يتخلقوا بأخلاق إمام الدعاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحرص على المدعوين، والحرص على إبلاغ الحق إلى الخلق كما وصفه الله -عز وجل-: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)(التوبة:128).
والذي بلغ من شفقته بقومه وحرصه على هدايتهم أن بلغ به الحزن والأسف على من لم يؤمن من قومه إلى درجة تكاد تذهب نفسه معها حسرات، وأن تهلك نفسه من الأسف حتى أمره ربه أن يهون على نفسه قائلاً: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)(الكهف:6).
وهذه الشفقة تقتضى تذليل كل العقبات من إزالة الشبهات، وإطفاء نار الشهوات، وقطع السبل على الشياطين؛ ولذلك خاطب الله -تعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل:125).
فمن الناس من صفا قلبه حتى قـَبِلَ بالحكمة من أول وهلة، ومنهم من يحتاج إلى تليين قلبه بالموعظة، ومنهم من يكون صاحب جدال ومراء، وينبغي على الداعي أن يعد: "لكل داء دواءً، ولكل شبهة جواباً".
حتى عندما تذرع اليهود والنصارى بأن معهم وعداً صادقاً من الله -عز وجل- أنهم أصحاب الجنة، وتحصنوا بهذا الوعد المزعوم، رغم نكوصهم في المناظرة وعجزهم عن المحاورة، شرع الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يباهلهم بنفسه وأهل بيته فنكصوا عن ذلك.
وباختصار فإن دور الداعي إلى الله -تعالى- هو إماطة كل العقبات التي تحول بين الناس وبين التدبر في دين الله، وإذا كان إماطة الأذى عن طريق الناس الحسي من جملة شعب الإيمان؛ فإن إماطة أذى الشرك والبدع والمعاصي من طريق سير الناس إلى ربهم من أعلى شعب الإيمان، وعلى مقدار انشغال المرء في إماطة تلك القاذورات عن الطريق على مقدار ما تكون عداوة الشياطين -أصحاب المصلحة الرئيسة في وجود هذه القاذورات- له.
وشياطين الجن ليسوا وحدهم في الحلبة، بل معهم جيوش ممن يملكون قلوب الشياطين في جثمان إنس، كما قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)(الأنعام:112)، بل إن الشيطان لا ييأس حتى من تجنيد بعض الصالحين في حربه ضد أولياء الله الصالحين، فهذا الشيطان يريد أن يقطع على الرجل صلاته فيأتي مع أي مار غافل كما في الحديث: (إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين) رواه مسلم.
وعلى ذلك فكل من قام بدوره في تعبيد الناس لربهم سوف يكون هدفا لشياطين الجن بالوساوس وبث الوهن في القلوب، وغرضا لشياطين الإنس مناظرة ومخاصمة -إن قدورا عليها-، فإن عجزوا فسباً وشتماً تضجيراً للداعي وتنفيراً لمن حوله، وربما دخلوا على مطية بعض المنافقين الذين يقومون بإثارة الفتن والتشغيب على الدعاة وعلى الصالحين، ومن هؤلاء من قال الله فيهم: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(التوبة:79)، نزلت في قوم من المنافقين في أثناء التجهيز لغزوة تبوك "غزوة العسرة"، فكان من أتى بصدقة كبيرة قالوا: ما أتى بها إلا رياءً، ومن أتى بصدقة صغيرة قالوا: إن الله عن صدقة هذا لغني، فأنزلها الله مبكتاً لهم وواصفا إياهم بالنفاق.
وربما ارتدى هؤلاء ثوب الناصحين! فمن رؤوس النفاق من بلغت به وقاحته إلى أن يتهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالظلم فقال: "اعدل يا محمد"، بل إن منهم -مِنْ فرط انهماكه في البحث عن سقطة ينشرها ويرتدي بها ثوب الناصح -مَنْ يعد الحسنات سيئات كما أنكر أصحاب الفتنة على عثمان -رضي الله عنه- أنه غاب عن بيعة الرضوان، والتي لم تعقد إلا لأنه -رضي الله عنه- الذي خاطر بنفسه، ونزل إلى قريش بمفرده ينقل لهم رسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتأخر وأشيع مقتله -رضي الله عنه-.
فبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابته على القتال حتى الموت، وبايع -صلى الله عليه وسلم- بكفه الشريفة عن عثمان -رضي الله عنه-، فكانت عند من يعرفون أقدار الرجال من أعظم مناقبه، وصارت عند من لا يعرفون أقدار الرجال أو يعرفونها ويريدون أن يحطوا منها -موالاة للشيطان أو استحواذاً من الشيطان عليهم- من مثالبه! ولله في خلقه شئون!
والأمر لا يقتصر على هؤلاء الشياطين الإنسية، بل قد يخدع بذلك بعض السذج، كما انخدع بقول الناقمين على عثمان بعض من لم يتسلح بنور العلم ولم يعتصم بالشرع عند إقبال الفتن.
والناظر في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإلى سيرة أصحابه الكرام -رضي الله عنهم-، يجد أنهم اعتنوا عناية بالغة برد كل ما يمكن أن يؤثر على الدعوة أو يمثل فتنة أو شبهة قد تكون سببا في ضلال الخلق.
وأما ما يتعلق بأشخاصهم فكانوا من أسمح الناس نفسا، ولم يكن عندهم بقية من وقت ولا جهد يبذلونها في الدفاع عن قضايا شخصية أو خلافات فرعية، ولذلك نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة -رضي الله عنهم- عن إجابة أبي سفيان- رضي الله عنه- لما هم بالانصراف من أُحـُد وسألهم عن أعيانهم، فلما مدح آلهته؛ قال لهم النبي -صلى لله عليه وسلم-: "أجيبوه"(1).
ومع وضوح هذه السنة النبوية إلا أنها في التطبيق صعبة من جهتين:
الأولى: ارتداء الطاعن ثوب الناصح في كثير من الأحيان، مما يجعل الأمر يبدو دائما وكأنه من قضايا الدعوة التي تحتاج إلى بيان، وهذه تحتاج إلى بصيرة كبيرة بالشرع وبالواقع لمعرفة ما يمثل شبهة يتضرر الناس في دينهم بعدم ردها، وما هو من جنس من أنكر على عثمان تخلفه عن بيعة الرضوان، وينبغي يقدر لكل مسالة قدرها، ولكل شبهة حجمها، مع عدم منع النفس من المراجعة على المُسْتَوَيَيْنِ: الفكري، والسلوكي -مدح الناس أم ذموا-.
الثانية: صعوبة ذلك على النفس سواء سمع الطاعن الطعن على نفسه، وربما كان أشد إذا وقع الطعن على من لهم في قلبه موقع خاص كآبائه ومعلميه، ولكن مع ترويض النفس وإقناعها بخطورة شغل الأوقات بتتبع الرد على هؤلاء الذين لا يمثلون إلا أذىً نفسيًّا محدودَ الأثر حول الداعي تاركين عمومَ الأمة مرتعًا للدعاة على أبواب جهنم؛ يهن على النفس ذلك، وإنه لعظيم، ولكنه يسير على من يسره الله عليه.
فدعوتنا المباركة -بإذن الله- لها معاركها الخطيرة في ميادين متعددة، فترى لو انشغلنا بدفع الأذى عن أنفسنا؛ فمَن يدفع عن الناس أذى التغريب والعلمنة التي مال كثير من الخواص فضلاً عن العوام إلى المداهنة فيها؟!
ومن يدفع عن الأمة خطر الطاعنين على القرآن وعلى نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم-، وهم لا يفتأون يرددون ذلك صباح مساء -قطع الله دابرهم-؟!
من يرفع عن الأمة أذى الشيعة، وكثيرٌ من أصحاب الرأي في الأمة يدفنون رؤوسهم في الرمال غارقين في أحلام اليقظة حول الوحدة مع الشيعة، وهم يكسبون في كل يوم أرضا جديدة؟!
ومن يتصدى للعقلانيين الطاعنين في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟!
ومن يمنع الصوفية من العودة إلى غيبوبة الفكر الخرافي، والذي يجر وراءه الفكر العلماني الذي يزعم أن كل الدين خرافة كما أن الصوفية خرافة؟!
ومن يمد يديه إلى الشباب في عمر الزهور الذين يجدون المخدرات أقرب إليهم من رغيف الخبز؟!
ما أحوجنا إلى تلك اللافتة المرورية التي تحذر قائدي المركبات: "لا تنشغل بغير الطريق"، وهي وإن كانت مهمة بالنسبة إلى قائدي المركبات فحاجة الدعاة إلى الحق في زمان الفتن إليها أشد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عن البراء -رضي الله عنه- قال: (لَقِينَا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، وَأَجْلَسَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- جَيْشًا مِنَ الرُّمَاةِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ وَقَالَ: لاَ تَبْرَحُوا، إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلاَ تَبْرَحُوا وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلاَ تُعِينُونَا. فَلَمَّا لَقِينَا هَرَبُوا حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ فِي الْجَبَلِ، رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ قَدْ بَدَتْ خَلاَخِلُهُنَّ، فَأَخَذُوا يَقُولُونَ: الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- أَنْ لاَ تَبْرَحُوا. فَأَبَوْا، فَلَمَّا أَبَوْا صُرِفَ وُجُوهُهُمْ، فَأُصِيبَ سَبْعُونَ قَتِيلاً، وَأَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ: لاَ تُجِيبُوهُ. فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ قَالَ: لاَ تُجِيبُوهُ. فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلاَءِ قُتِلُوا، فَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءً لأَجَابُوا، فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ مَا يُخْزِيكَ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أُعْلُ هُبَلْ. فَقَالَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-: أَجِيبُوهُ. قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ. قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ لَنَا الْعُزَّى وَلاَ عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-: أَجِيبُوهُ؟ قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ. قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، وَتَجِدُونَ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي) رواه البخاري.