كتبه/ أحمد الفيشاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
السلطان عبد الحميد الثاني:
من أبرز متأخري سلاطين الدولة العثمانية، تولى الخلافة عام 1293 هـ "1876 م" وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، حاول النهوض بالخلافة على أسس إسلامية، ومواجهة التغريب والعلمانية التي انتشرت بين كثير من أعيان الدولة ومثقفيها، وسعى في سبيل ذلك لإقامة جامعة إسلامية، وجعل اللغة العربية اللغة الرسمية للدولة بدلاً من التركية، إلا أن الوزراء المتأثرون بالعلمانية الغربية حالوا بينه وبين ذلك.
استطاع أصحاب الفكر التغريبي العلماني أن ينشئوا جمعية لهم -"جمعية الاتحاد والترقي"- وانضم إليها كثير من العسكريين، والذين دبروا بعد ذلك عزل السلطان عبد الحميد "1909 م"، وأصبحت السلطة الحقيقية بعد ذلك بأيدي الجمعية -خاصة العسكريين منهم- وكانت تلك الخطوة لها دور أساسي في إعلان العسكري الماكر "مصطفى كمال أتاتورك" الجمهورية التركية "برئاسته عام 1923 م"، وإلغاءه لنظام الخلافة الإسلامية عام 1924 م.
أزعج التوجه الإسلامي للسلطان عبد الحميد كلاً من العلمانية الغربية والصهيونية اليهودية؛ خاصة بعد رفض السلطان لطلب زعيم الصهاينة "هرتزل" بالسماح لليهود باستيطان فلسطين، رغم الإغراءات السياسية والمالية التي وعد بها "هرتزل" السلطان عبد الحميد، والذي كان في ذلك الوقت في أشد الحاجة لهما، مما يدل على عظيم أمانته وعقله.
ومن أقواله في هذا الصدد:
"اليهود إذا استوطنوا أرضاً تملكوا قدراتها خلال وقت قصير، ولذا نكون قد حكمنا على إخواننا في الدين بالموت".
وقال أيضاً: "لن يستطيع رئيس الصهاينة "هرتزل" أن يقنعني بأفكاره... لن يكتفي الصهاينة بممارسة الأعمال الزراعية في فلسطين، بل يريدون أموراً مثل تشكيل حكومة وانتخاب ممثلين... إنني أدرك أطماعهم جيداً، ولكن اليهود سطحيون في ظنهم أني سأقبل بمحاولاتهم".
وأرسل إلى "هرتزل" قائلاً له: "لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأرض المقدسة؛ لأنها ليست ملكي".
بعد ما يئست الصهيونية اليهودية من السلطان عبد الحميد سعوا في إثارة القلاقل ودعم أعداء السلطان في الداخل -خاصة حزب الاتحاد والترقي-، فلا عجب بعد ذلك أن تكون "سلانيك" -بلدة شمال اليونان- والتي كان يقطنها كثير من يهود الدونمة الذين تظاهروا بالإسلام مكراً وخداعاً هي نفس البلدة التي خرج منها عسكر الاتحاد والترقي إلى "إستانبول" لعزل السلطان عبد الحميد، وإلغاء الخلافة الإسلامية بعد ذلك، وتمرير المشروع الصهيوني على أرض فلسطين.
لقد أصبح بادياً لكل ذي عين أن الصهيونية اليهودية رغم اختلافها ظاهرياً عن العلمانية اللا دينية إلا أنها استخدمتها لضرب الخلافة وإفساد العالم الإسلامي، وإقامة دولة يهودية على حساب أراضي المسلمين وثرواتهم.
وقد أشار السلطان عبد الحميد -رحمه الله- إلى تلك العلاقة بين العلمانية والصهيونية في إحدى رسائله فقال: "إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا عليّ بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة "فلسطين"، ورغم إصرارهم لم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيراً وعدوا بتقديم مائة وخمسين مليون ليرة إنكليزية ذهباً فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضاً، وأجبتهم بهذا الجواب القطعي: إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهباً فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي، لقد خدمت الملة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة فلن أسود صحائف المسلمين.
وبعد جوابي هذا اتفقوا على خلعي وأبلغوني أنهم سيبعدونني إلى "سلانيك" وحمدت المولى وأحمده أني لم أقبل بأن ألطخ العالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية بالأراضي المقدسة... فلسطين".